.. فمذهب السلف يتنافر مع مذهب الخلف، فحينئذٍ لا يخلو: إما أن يكون الحق مع السلف، وإما أن يكون مع الخلف؟ لا يمكن أن يقول مؤمن يدري ما يقول إن الحق مع الخلف؛ لأنه يلزم عليه تجهيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه، وهذا أعظم القدح في خير قرون الأمة، ويلزم عليه أيضًا أن من اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه كانوا أجهل الخلق وأضلهم وأبعدهم عن الهدى في أبواب الاعتقاد، ويلزم عليه أيضًا أن الحق لم يزل خافيًا غامضًا ملتبسًا، ولا يدرى عن حقيقة أمره، حتى جاء أولئك المتأخرون الأوباش فاستخرجوه بغرائب الألفاظ ومستكره العبارات التي هي للألغاز والأحاجي أقرب منها إلى العلم والبيان والهدى، ويلزم عليه أيضًا أن الصحابة قد ضلوا في هذا الباب - أي باب الاعتقاد - وأضلوا غيرهم؛ لأنهم علموا الأجيال التي جاءت بعدهم أبواب الاعتقاد، وأي كفر بعد هذا الكفر، وأي زندقة بعد هذه الزندقة، وأي قدح بعد هذا القدح، ويلزم عليه أيضًا تفضيل الخلف على السلف، وهذا هو الضلال بعينه، فبالله عليك كيف تكون زبالات أذهان الفلاسفة، وخرافات اليهود والنصارى أفضل وأكمل وأصح منهجًا من منهج السابقين الأولين؟ أم كيف يكون هؤلاء المتهوكون الأفاكون الذي هم أعظم الناس شكًا وتيهًا وضلالاً وحيرة واضطرابًا أهدى من طريق محمد ? وصحابته من المهاجرين والأنصار، رضي الله عنهم وأرضاهم؟ أم كيف يكون من تربى في حظائر الفلسفة وتروى من بالوعة الباطنية القرامطة، وعشعشت في عقله القواعد التي تناقض المعقول وتصادم المنقول أعلم وأحكم من الذين استنارت قلوبهم بنور الكتاب والسنة، وترووا من معينها الصافي الذي لا شوب فيه ولا كدر وتربوا في حلقات خاتم الأنبياء والمرسلين - صلوات الله وسلامه عليه - ونهلوا من العلم النافع المؤيد لنصوص الوحيين؟ بالله عليك كيف يكون ذلك؟