اختلف أهل السير والتاريخ في تحديد يوم وشهر ولادته صلى الله عليه وسلم واتفقوا على أن ميلاده صلى الله عليه وسلم كان يوم الاثنين من عام الفيل.

قال ابن القيم: "لا خلاف أنه ولد صلى الله عليه وسلم بجوف مكة، وأن مولده كان عام الفيل".

عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل), وهو الذي لا يشك فيه أحد من العلماء.

ونقل خليفة بن خياط وابن الجزار وابن دحية وابن الجوزي فيه الإجماع.

وأما مولده يوم الاثنين، فعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال: " سئل صلى الله عليه وسلم  عن صوم يوم الاثنين؟ قال: "ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت أو أنزل علي فيه".

قال ابن كثير: "وأبعد بل أخطأ من قال: ولد يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من ربيع الأول".

أما موضع الخلاف فقد كان في تحديد الشهر واليوم منه،  روى ابن إسحاق عن نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك.

قال: (نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام).

قال الألباني: وإسناده جيد قوي.

وكانت ولادته صلى الله عليه وسلم بعد وفاة والده عبد الله، حيث كان حملا في بطن أمه حين توفي والده، فنشأ صلى الله عليه وسلم يتيما.

وكانت ولادته في دار أبي طالب بشعب بني هاشم.


عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل صلى الله عليه وسلم وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه -يعني ظئره-فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون".

قال أنس: «وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره».


لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ست سنين، خرجت به أمه السيدة آمنة بنت وهب إلى أخواله بني عدي بن النجار تزورهم به، ومعه حاضنته أم أيمن رضي الله عنها، وهم على بعيرين، فنزلت به أمه في دار النابغة عند قبر أبيه عبد الله بن عبد المطلب، فأقامت به عند أخواله شهرا، ثم رجعت به أمه إلى مكة، فلما كانوا بالأبواء توفيت أمه آمنة بنت وهب، ورجعت به أم أيمن رضي الله عنها -واسمها: بركة بنت ثعلبة بن حصن-، وكانت أم أيمن رضي الله عنها تحب النبي صلى الله عليه وسلم حبا شديدا وتعتني به غاية الاعتناء، وتحوطه برعايتها وشفقتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبرها ويحسن إليها، ولما كبر صلى الله عليه وسلم أعتقها، ثم أنكحها زيد بن حارثة رضي الله عنه الذي أنجبت منه أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وقد توفيت أم أيمن رضي الله عنها بعدما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر.


لما توفيت آمنة والدة الرسول عليه الصلاة والسلام وعمره ست سنوات، صارت كفالته إلى جده عبد المطلب بن هاشم، وكان عبد المطلب ذا شرف في قومه وفضل، وكانت قريش تسميه الفضل؛ لسماحته وفضله، وتولى أمر الرفادة والسقاية بعد موت أبيه هاشم بن عبد مناف.

وكان عبد المطلب يحب حفيده محمدا حبا عظيما، ويقدمه على سائر بنيه، ويرق عليه أكثر من رقته على أولاده، قال ابن إسحاق‏ رحمه الله:‏ "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جده عبد المطلب بن هاشم -يعني: بعد موت أمه آمنة بنت وهب-؛ فكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، وكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له؛‏ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر -أي: ممتلئ قوي- حتى يجلس عليه؛ فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه؛ فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم‏:‏ دعوا ابني؛ فوالله إن له لشأنا، ثم يجلسه معه على فراشه، ويمسح ظهره بيده، ويسره ما يراه يصنع‏".

وكان عبد المطلب لا يأكل طعاما إلا يقول:‏ "علي بابني!" فيؤتى به إليه‏.
‏ ولما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياطته.


لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنوات توفي جده عبد المطلب.

وكان عبد المطلب لما حضرته الوفاة أوصى ابنه أبا طالب بحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحياطته، والقيام عليه، وأوصى به إلى أبي طالب؛ لأن عبد الله -والد النبي صلى الله عليه وسلم- وأبا طالب كانا لأم واحدة، فلما مات عبد المطلب كان أبو طالب هو الذي يلي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده.

وروى ابن سعد، وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما، وغيره، قالوا: لما توفي عبد المطلب قبض أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكون معه، وكان يحبه حبا شديدا لا يحب ولده مثله، وكان لا ينام إلا إلى جنبه، وكان يخصه بالطعام، وكان عيال أبي طالب إذا أكلوا جميعا أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شبعوا.

وكان أبو طالب إذا أراد أن يغديهم أو يعشيهم يقول: كما أنتم حتى يحضر ابني.

فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهم فيفضلون من طعامهم، وإن لم يكن معهم لم يشبعهم، وإن كان لبنا شرب هو أولهم ثم يتناول العيال القعب -إناء ضخم كالقصعة- فيشربون منه فيروون عن آخرهم من القعب الواحد، وإن كان أحدهم ليشرب قعبا وحده، فيقول أبو طالب: "إنك لمبارك!".


 لما تم للنبي صلى الله عليه وسلم من العمر اثنتا عشرة سنة، سافر عمه أبو طالب إلى الشام في ركب للتجارة، فأخذه معه.

ولما نزل الركب (بصرى) مروا على راهب هناك يقال له (بحيرا)، وكان عليما بالإنجيل، خبيرا بالنصرانية، وهناك أبصر بحيرا النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يتأمله ويكلمه، ثم التفت إلى أبي طالب فقال له: ما هذا الغلام منك؟ فقال: ابني (وكان أبو طالب يدعوه بابنه؛ لشدة محبته له وشفقته عليه).

فقال له بحيرا: ما هو بابنك، وما ينبغي أن يكون أبو هذا الغلام حيا.

فقال: هو ابن أخي.

قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به.

قال بحيرا: صدقت.

فارجع به إلى بلده واحذر عليه يهود؛ فوالله لئن رأوه هنا ليبغنه شرا؛ فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم.

فأسرع به أبو طالب عائدا إلى مكة.

وروى الترمذي: أن أبا طالب خرج إلى الشام، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش؛ فلما أشرفوا -اقتربوا- على الراهب -يعني: بحيرا- هبطوا فحلوا رحالهم؛ فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت إليهم، قال: وهم يحلون رحالهم؛ فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعاما، فلما أتاهم به، وكان هو -أي: الرسول صلى الله عليه وسلم- في رعية الإبل، قال: أرسلوا إليه.

فأقبل صلى الله عليه وسلم وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم، وجدهم قد سبقوه إلى فيء -ظل- الشجرة، فلما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مال فيء الشجرة عليه، فقال بحيرا: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه! قال: فبينما هو قائم عليهم، وهو يناشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم؛ فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه، فالتفت فإذا بسبعة قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس، وإنا قد أخبرنا خبره، فبعثنا إلى طريقك هذا، فقال: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: إنما أخبرنا خبره إلى طريقك هذا.

قال: أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه، هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا، قال: فبايعوه، وأقاموا معه عنده.

قال: فقال الراهب بحيرا: أنشدكم الله أيكم وليه؟ قال أبو طالب: فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب".


 لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة هاجت حرب الفجار بين قريش ومن معها من كنانة وبين قيس عيلان، وهو من أعظم أيام العرب، وكان الذي أهاجها: أن عروة الرحال بن عتبة بن ربيعة أجار لطيمة للنعمان بن المنذر، فقال له البراض بن قيس -أحد بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة-: أتجيرها على كنانة؟! قال: نعم، وعلى الخلق.

فخرج عروة الرحال وخرج البراض يطلب غفلته حتى إذا كان بتيمن ذي ظلال بالعالية غفل عروة؛ فوثب عليه البراض فقتله في الشهر الحرام؛ فلذلك سمي الفجار؛ فأتى آت قريشا فقال: إن البراض قد قتل عروة وهو في الشهر الحرام بعكاظ، فارتحلوا وهوازن لا تشعر، ثم بلغهم الخبر فاتبعوهم فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم، فاقتتلوا حتى جاء الليل ودخلوا الحرم فأمسكت عنهم هوازن ثم التقوا بعد هذا اليوم أياما عديدة والقوم يتساندون، وعلى كل قبيل من قريش وكنانة رئيس منهم، وعلى كل قبيل من قيس رئيس منهم.

وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أيامهم، وهو يوم النخلة، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أربع عشرة سنة.

ويقال: عشرون سنة.

وبعد منصرفهم منه في ذي القعدة كان حلف الفضول، وسببه: أن رجلا من زبيد من أهل اليمن باع سلعة من العاص بن وائل السهمي فمطله بالثمن؛ فصعد أبا قبيس وصاح وذكر ظلامته.

فعقدت قريش حلف الفضول لنصرة المظلوم، وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحلف معهم.


وقع حلف الفضول في الشهر الحرام, تداعت إليه قبائل من قريش, بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان التيمي؛ لسنه وشرفه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، وشهد هذا الحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عنه: (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت).

وهذا الحلف تنافي روحه الحمية الجاهلية التي كانت العصبية تثيرها، ويقال في سبب هذا الحلف: إن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة، واشتراها منه العاص بن وائل السهمي، وحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الأحلاف عبد الدار ومخزوما، وجمحا, وسهما وعديا فلم يكترثوا له، فعلا جبل أبي قبيس، ونادى بأشعار يصف فيها ظلامته رافعا صوته، فمشى في ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال: ما لهذا مترك.

حتى اجتمعوا فعقدوا الحلف الذي عرف بحلف الفضول, ثم قاموا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه حق الزبيدي.

وسبب تسميته بهذا الاسم: أن ثلاثة من قبيلة جرهم هم: الفضل بن فضالة، والفضل بن وداعة، والفضل بن الحارث؛ قد عقدوا قديما نظيرا لهذه المعاهدة، فلما أشبه فعل القريشيين فعل هؤلاء الجرهميين الأول المسمون جميعا بالفضل سمي الحلف: حلف الفضول.


اختلفت الأقوال في عمر النبي صلى الله عليه وسلم وعمر خديجة حين زواجهما، فقيل: كان خمسا وعشرين.

وقيل: سبعا وعشرين.

وقيل: ثلاثين.

وقيل: غير ذلك، وأما عمر خديجة فكذلك تضاربت الأقوال بين خمس وثلاثين وأربعين وغير ذلك، لما سمعت خديجة رضي الله عنها بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأمانته و أخلاقه الكريمة، فقد جاء في رواية: أن أخت خديجة قد استكرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريكه، فلما قضوا السفر بقي لهم عليها شيء، فجعل شريكه يأتيهم ويتقاضاهم، ويقول لمحمد (صلى الله عليه وسلم): انطلق.

فيقول: اذهب أنت، فإني أستحيي.

فقالت مرة -وقد أتاهم شريكه-: أين محمد لا يجيء معك؟ قال: قد قلت له، فزعم أنه يستحيي، فذكرت ذلك لأختها خديجة، فقالت: ما رأيت رجلا قط أشد حياء، ولا أعف ولا.
.
.
.
.
.
من محمد (صلى الله عليه وسلم).

فوقع في نفس أختها خديجة، فبعثت إليه، فقالت: ائت أبي فاخطب إليه.

فقال: أبوك رجل كثير المال وهو لا يفعل.

قالت: انطلق فالقه وكلمه، ثم أنا أكفيك.

وقد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي ثيب.


 لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة وليس له بمكة اسم إلا "الأمين"؛ لما تكامل فيه من خصال الخير، قال له عمه أبو طالب: "يا ابن أخي، أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا، وألحت علينا سنون منكرة، وليس لنا مادة ولا تجارة، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيرانها، فيتجرون لها في مالها، ويصيبون منافع، فلو جئتها فوضعت نفسك عليها لأسرعت إليك، وفضلتك على غيرك، لما يبلغها عنك من طهارتك، وإن كنت لأكره أن تأتي الشام، وأخاف عليك من يهود، ولكن لا نجد من ذلك بدا".

وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال كثير وتجارة تبعث بها إلى الشام، فتكون عيرها كعامة عير قريش، وكانت تستأجر الرجال وتدفع إليهم المال مضاربة، وبلغ خديجة ما كان من صدق حديث النبي صلى الله عليه وسلم وعظم أمانته، وكرم أخلاقه، فأرسلته في تجارتها، فخرج مع غلامها ميسرة حتى قدم الشام، وجعل عمومته يوصون به أهل العير حتى قدم الشام، فنزلا في سوق بصرى في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب يقال له: نسطورا، فاطلع الراهب إلى ميسرة -وكان يعرفه-؛ فقال: "يا ميسرة، من هذا الذي نزل تحت هذه الشجرة؟"، فقال ميسرة: "رجل من قريش من أهل الحرم".

فقال له الراهب: "ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي".

ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعته -يعني: تجارته- التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتري، ثم أقبل قافلا إلى مكة ومعه ميسرة؛ فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به بأضعف أو قريبا، وحدثها ميسرة عن قول الراهب، وما رأى من شأن النبي صلى الله عليه وسلم، فعرضت نفسها عليه رضي الله عنها، وكانت أوسط نساء قريش نسبا وأعظمهن شرفا، وأكثرهن مالا، فلما قالت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه عمه حمزة حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أول امرأة تزوجها، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت رضي الله عنها.


عن مجاهد، عن مولاه أنه حدثه: أنه كان فيمن يبني الكعبة في الجاهلية.
.
.

قال: فبنينا حتى بلغنا موضع الحجر وما يرى الحجر أحد، فإذا هو وسط حجارتنا مثل رأس الرجل، يكاد يتراءى منه وجه الرجل، فقال بطن من قريش: نحن نضعه.

وقال آخرون: نحن نضعه.

فقالوا: اجعلوا بينكم حكما.

قالوا: أول رجل يطلع من الفج.

فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أتاكم الأمين.

فقالوا له، فوضعه في ثوب ثم دعا بطونهم فأخذوا بنواحيه معه، فوضعه هو صلى الله عليه وسلم.


كان أول ما بدئ به الوحي هو الرؤيا الصادقة في النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم إنه صلى الله عليه وسلم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء ويتحنث فيه متعبدا، حتى جاءه جبريل عليه السلام وهو في الغار بقوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (5) } [العلق: 1 - 6].

فقص ذلك على زوجته خديجة التي قصت ما حدث على ورقة بن نوفل فصدقه، وقال: إنه الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ثم انقطع الوحي فترة من الزمن، ثم عاد إليه جبريل وهو قاعد على كرسي، فخاف منه النبي صلى الله عليه وسلم ورجع إلى أهله قائلا: زملوني زملوني.

فأنزل الله تعالى: {ياأيها المدثر (1) قم فأنذر (2) وربك فكبر (3) وثيابك فطهر (4) والرجز فاهجر (5)} [المدثر: 1 - 5].

فكان ذلك أول النبوة والأمر بالتبليغ.


فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة من الزمن, حتى شق ذلك عليه فأحزنه، فجاءه جبريل بسورة الضحى يقسم له ربه -وهو الذي أكرمه بما أكرمه به- ما ودعه, فقد روى البخاري في صحيحه من حديث جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال: احتبس جبريل صلى الله عليه وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت امرأة من قريش -وهي أم جميل أروى بنت حرب أخت أبي سفيان وزوج أبي لهب-: أبطأ عليه شيطانه، فنزلت: {والضحى والليل إذا سجى، ما ودعك ربك وما قلى}.


كان أول من آمن بالله ورسوله خديجة بنت خويلد زوجته صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، ثم أسلم زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد أسلم بدعاء أبي بكر الصديق عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف, ثم أسلم أبو عبيدة بن الجراح، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وعثمان بن مظعون، ثم أخواه قدامة وعبد الله، وابنه السائب بن عثمان بن مظعون، وأسماء بنت أبي بكر الصديق، وعائشة بنت أبي بكر الصديق، وهي صغيرة، ثم أسلم خالد بن سعيد بن العاصي، وأسلمت معه امرأته أمينة بن بنت خلف بن أسعد الخزاعية، وبلال، وعمار بن ياسر، وأمه سمية، وصهيب بن سنان النمري المعروف بالرومي، وعمرو بن عبسة السلمي، وعمرو بن سعيد بن العاصي، وسعيد بن زيد بن عمر عمرو بن نفيل، وزوجته فاطمة بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب، وعمير بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وأخوه عتبة بن مسعود، وسليط بن عمرو العامري، وعياش بن أبي ربيعة المخزومي، وامرأته أسماء بنت سلامة بن مخربة التميمية، ومسعود بن ربيعة بن عمرو القاري من بني الهون بن خزيمة، وهم القارة، وخنيس بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي، وعبد الله جحش الأسدي, تتمة السابقين إلى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم: وجعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عميس، وعامر بن ربيعة العنزي، من عنز بن وائل، حليف الخطاب بن نفيل، وأبو أحمد بن جحش الأعمى، وحاطب بن الحارث بن معمر الجمحي، وامرأته بنت المجلل العامرية، وحطاب بن الحارث أخوه، وامرأته فكهية فكيهة بنت يسار، وأخوهما معمر بن الحارث بن معمر الجمحي، والمطلب بن أزهر بن عبد عوف الزهري، وامرأته رملة بنت أبي عوف السهمية، والنحام واسمه نعيم بن عبد الله العدوي، وعامر بن فهيرة مولى لأبي بكر الصديق، وحاطب بن عمرو بن شمس بن عبد ود العامري أخو سليط بن عمرو، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، واسمه مهشم بن عتبة.
.
.


كان أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم إلا من واتاهم فيما أرادوا وأوهمهم بذلك إلا بلالا، فإنه هانت عليه نفسه في الله عز وجل، وهان على قومه فأخذوه، وأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: أحد، أحد.

فجعلوا في عنقه حبلا، ودفعوه إلى الصبيان يلعبون به، حتى أثر في عنقه، وكان بلال لبعض بني جمح، وكان الذي يتولى كبر تعذيبه أمية بن خلف، فكان يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره.

ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزي.

فيقول وهو في هذا العذاب والبلاء: أحد أحد.

وكأنما كان يزيده عذابه وبلاؤه إيمانا فوق إيمان، ورق له أبو بكر حين رآه يوما في هذا الهوان الشديد، فاشتراه وأعتقه، وأعتق معه ستا ممن كانوا يعذبون على الإسلام.


كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله تعالى في كل أحواله؛ ليلا ونهارا، وسرا وجهرا، لا يصرفه عن ذلك صارف ولا يرده عن ذلك راد، ولا يصده عن ذلك صاد، يتبع الناس في أنديتهم، ومجامعهم ومحافلهم وفي المواسم، ومواقف الحج؛ يدعو من لقيه من حر وعبد، وضعيف وقوي، وغني وفقير.

وتسلط عليه وعلى من اتبعه كفار قومه من مشركي قريش، بل كان من أشد الناس عليه عمه أبو لهب وامرأته أم جميل حمالة الحطب -أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان-، وكان عمه أبو طالب بن عبد المطلب يحنو عليه، ويحسن إليه، ويدافع عنه ويحامي، ويخالف قومه في ذلك؛ مع أنه على دينهم، وكان استمراره على دين قومه من حكمة الله تعالى، ومما صنعه لرسوله من الحماية؛ إذ لو كان أسلم أبو طالب لما كان له عند مشركي قريش وجاهة ولا كلمة، ولا كانوا يهابونه ويحترمونه.

روى أصحاب السير أن قريشا جاءت إلى أبي طالب فقالوا: "إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا".

فقال: "يا عقيل، انطلق فأتني بمحمد"، فجاء به في الظهيرة في شدة الحر.

فلما أتاهم قال: "إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم؛ فانته عن أذاهم"، فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء؛ فقال: "ترون هذه الشمس؟" قالوا: "نعم"، قال: "فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشتعلوا منها بشعلة".

فقال أبو طالب: "والله ما كذب ابن أخي قط فارجعوا".


قالت أم سلمة رضي الله عنها: لما ضاقت علينا مكة، وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في منعة من قومه وعمه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه.

فخرجنا إليها حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمنا على ديننا، ولم نخش منه ظلما.
.
.
.

وقيل: كان مخرجهم إلى الحبشة في رجب في السنة الخامسة من البعثة النبوية.

هاجر من المسلمين فيها اثنا عشر رجلا، وأربع نسوة، منهم عثمان بن عفان، وهو أول من خرج ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.


 في أواخر السنة السادسة من النبوة أسلم حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.

وسبب إسلامه: أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم يوما عند الصفا، فآذاه ونال منه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يكلمه، ثم ضربه أبو جهل بحجر في رأسه فشجه حتى نزف منه الدم، ثم انصرف عنه إلى نادي قريش عند الكعبة فجلس معهم، وكانت مولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها على الصفا ترى ذلك، وأقبل حمزة من القنص متوشحا قوسه، فأخبرته المولاة بما رأت من أبي جهل، فغضب حمزة وخرج يسعى، لم يقف لأحد، معدا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به، فلما دخل المسجد قام على رأسه وقال له: "تشتم ابن أخي وأنا على دينه!"، ثم ضربه بالقوس فشجه شجة منكرة، فثار رجال من بني مخزوم -حي أبي جهل- وثار بنو هاشم -حي حمزة- فقال أبو جهل: "دعوا أبا عمارة! فإني سببت ابن أخيه سبا قبيحا".

وقال ابن إسحاق: "ثم رجع حمزة إلى بيته فأتاه الشيطان فقال: أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابئ، وتركت دين آبائك، للموت خير لك مما صنعت.

فأقبل حمزة على نفسه وقال: "ما صنعت؟! اللهم إن كان رشدا فاجعل تصديقه في قلبي، وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجا"، فبات بليلة لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان، حتى أصبح فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا بن أخي، إني قد وقعت في أمر ولا أعرف المخرج منه، وإقامة مثلي على ما لا أدري ما هو، أرشد أم هو غي شديد؟ فحدثني حديثا؛ فقد اشتهيت يا بن أخي أن تحدثني، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره ووعظه، وخوفه وبشره، فألقى الله في قلبه الإيمان بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال: "أشهد أنك الصادق شهادة الصدق، فأظهر يا بن أخي دينك، فوالله ما أحب أن لي ما أظلته السماء وأني على ديني الأول"؛ فكان إسلام حمزة رضي الله عنه أول الأمر أنفة رجل أبى أن يهان مولاه، ثم شرح الله صدره، فاستمسك بالعروة الوثقى، واعتز به المسلمون أيما اعتزاز!


بلغ المهاجرين في الحبشة أن قريشا قد أسلمت، فرجعوا إلى مكة في شوال من نفس السنة التي هاجروا فيها، فلما كانوا دون مكة ساعة من نهار وعرفوا جلية الأمر رجع منهم من رجع إلى الحبشة، ولم يدخل في مكة من سائرهم أحد إلا مستخفيا، أو في جوار رجل من قريش‏.
‏ ثم اشتد عليهم وعلى المسلمين البلاء والعذاب من قريش، وسطت بهم عشائرهم، فقد كان صعبا على قريش ما بلغها عن النجاشي من حسن الجوار، ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم بدا من أن يشير على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى‏.
‏ واستعد المسلمون للهجرة مرة أخرى، حاولت قريش إحباط عملية الهجرة الثانية بعد غزوة بدر بيد أن المسلمين كانوا أسرع، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن يدركوا‏.
‏ هاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلا، وثماني عشرة أو تسع عشرة امرأة.

فأرسلت قريش عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة قبل أن يسلما، وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته، وبعد أن حضرا إلى النجاشي قدما له الهدايا، ثم كلماه فقالا له‏:‏ أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم؛ لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم.

وعاتبوهم فيه،‏ وقالت البطارقة‏:‏ صدقا أيها الملك، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم‏.
‏ فأرسل النجاشي إلى المسلمين، ودعاهم، فحضروا، وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائنا ما كان،‏ فقال لهم النجاشي‏:‏ ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني ولا دين أحد من هذه الملل ‏؟‏ قال جعفر بن أبي طالب -وكان هو المتكلم عن المسلمين‏:‏ أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسئ الجوار، ويأكل منا القوي الضعيف، وعدد له محاسن ما جاءهم به صلى الله عليه وسلم، ثم قال: فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك‏.
‏ فقال له النجاشي‏:‏ هل معك مما جاء به عن الله من شيء‏؟‏ فقال له جعفر‏:‏ نعم‏.
‏ فقال له النجاشي‏:‏ فاقرأه علي، فقرأ عليه صدرا من: (سورة مريم) فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي‏:‏ إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون -يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه- فخرجا، فلما خرجا قال عمرو بن العاص لعبد الله بن أبي ربيعة‏:‏ والله لآتينه غدا عنهم بما أستأصل به خضراءهم‏.
‏ فقال له عبد الله بن أبي ربيعة‏:‏ لا تفعل، فإن لهم أرحاما، وإن كانوا قد خالفونا.

ولكن أصر عمرو على رأيه‏.
‏ فلما كان الغد قال للنجاشي‏:‏ أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح ففزعوا، ولكن أجمعوا على الصدق، كائنا ما كان، فلما دخلوا عليه وسألهم، قال له جعفر‏:‏ نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏ هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول‏.
‏ فأخذ النجاشي عودا من الأرض ثم قال‏:‏ والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود.

فتناخرت بطارقته، فقال‏:‏ وإن نخرتم ‏.
‏ ثم قال للمسلمين‏:‏ اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي -والشيوم‏:‏ الآمنون بلسان الحبشة- من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لي دبرا من ذهب وإني آذيت رجلا منكم -والدبر‏:‏ الجبل بلسان الحبشة-‏ ثم قال لحاشيته‏:‏ ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله منـي الرشـوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشـوة فيــه، وما أطاع الناس في فأطيعـهم فيه‏.
‏ قالت أم سلمة: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار‏.


أخرج الترمذي في سننه عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب قال وكان أحبهما إليه عمر)) وروى أهل السير أن عمر خرج يوما متوشحا سيفه يريد القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيه رجل فقال: أين تعمد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمدا.

قال: كيف تأمن من بني هاشم ومن بني زهرة وقد قتلت محمدا؟ فقال له عمر: ما أراك إلا قد صبوت، وتركت دينك الذي كنت عليه، قال: أفلا أدلك على العجب يا عمر? إن أختك وختنك قد صبوا، وتركا دينك الذي أنت عليه، فمشى عمر إليهما، وعندهما خباب بن الأرت، معه صحيفة فيها: سورة [طه] يقرئهما إياها، فلما سمع خباب حس عمر توارى في البيت، وسترت فاطمة أخت عمر الصحيفة، وكان قد سمع عمر حين دنا من البيت قراءة خباب إليهما، فلما دخل عليهما قال: ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم؟ فقالا: ما عدا حديثا تحدثناه بيننا.

قال: فلعلكما قد صبوتما, فقال له ختنه: يا عمر، أرأيت إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر على ختنه فوطئه وطئا شديدا, فجاءت أخته فرفعته عن زوجها، فنفحها نفحة بيده، فدمى وجهها، فقالت، وهي غضبى: يا عمر، إن كان الحق في غير دينك، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله.

فلما يئس عمر، ورأى ما بأخته من الدم ندم واستحيا، وقال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرؤه، فقالت أخته: إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون، فقم فاغتسل، فقام فاغتسل، ثم أخذ الكتاب، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم فقال: أسماء طيبة طاهرة.

ثم قرأ [طه] حتى انتهى إلى قوله: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) فقال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه؟ دلوني على محمد.

فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم عنده، ثم خرج المسلمون معه في صفين حتى دخلوا المسجد، فلما رأتهم قريش أصابتها كآبة لم تصبها مثلها.