قَوْمٌ عَلى الإسْلامِ لَمّا يَمْنَعُوا ماعُونَهم ويُضَيِّعُوا التَّهْلِيلا
أيْ لَمْ يَتْرُكُوا قَوْلَ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. وقالَ عُمَرُ بْنُ أبِي رَبِيعَةَلَقَدْ بَسْمَلَتْ لَيْلى غَداةَ لَقِيتُها ∗∗∗ ألا حَبَّذا ذاكَ الحَبِيبُ المُبَسْمِلُ
أيْ قالَتْ بِسْمِ اللَّهِ فَرَقًا مِنهُ، فَأصْلُ بَسْمَلَ قالَ: بِسْمِ اللَّهِ، ثُمَّ أطْلَقَهُ المُوَلَّدُونَ عَلى قَوْلِ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، اكْتِفاءً واعْتِمادًا عَلى الشُّهْرَةِ وإنْ كانَ هَذا المَنحُوتُ خَلِيًّا مِنَ الحاءِ والرّاءِ اللَّذَيْنِ هُما مِن حُرُوفِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَشاعَ قَوْلُهم: بَسْمَلَ، في مَعْنى قالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، واشْتُقَّ مِن فَعْلِ بَسْمَلَ مَصْدَرٌ هو البَسْمَلَةُ كَما اشْتُقَّ مِن هَلَّلَ مَصْدَرٌ هو الهَيْلَلَةُ وهو مَصْدَرٌ قِياسِيٌّ لِفَعْلَلَ.واللَّهُ أسْماكَ سُمًى مُبارَكًا ∗∗∗ آثَرَكَ اللَّهُ بِهِ إيثارَكا
وقالَ ابْنُ يَعِيشَ: لا حُجَّةَ فِيهِ لِاحْتِمالِ كَوْنِهِ لُغَةً مَن قالَ سُمَ والنَّصْبُ فِيهِ نَصْبُ إعْرابٍ لا نَصْبُ الإعْلالِ، ورَدَّهُ عَبْدُ الحَكِيمِ بِأنَّ كِتابَتَهُ بِالإمالَةِ تَدُلُّ عَلى خِلافِ ذَلِكَ. وعِنْدِي فِيهِ أنَّ الكِتابَةَ لا تَتَعَلَّقُ بِها الرِّوايَةُ فَلَعَلَّ الَّذِينَ كَتَبُوهُ بِالياءِ هُمُ الَّذِينَ ظَنُّوهُ مَقْصُورًا، عَلى أنَّ قِياسَها الكِتابَةُ بِالألِفِ مُطْلَقًا لِأنَّهُ واوِيٌّ إلّا إذا أُرِيدَ عَدَمُ التِباسِ الألِفِ بِألِفِ النَّصْبِ. ورَأْيُ البَصْرِيِّينَ أرْجَحُ مِن ناحِيَةِ تَصارِيفِ هَذا اللَّفْظِ.نَبَّئْتُ زُرْعَةَ والسَّفاهَةُ كاسْمِها ∗∗∗ يُهْدِي إلَيَّ غَرائِبَ الأشْعارِ
يَعْنِي أنَّ السَّفاهَةَ هي هي لا تُعَرَّفُ لِلنّاسِ بِأكْثَرَ مِنِ اسْمِها، وهو قَرِيبٌ مِنِ اسْتِعْمالِ اسْمِ الإشارَةِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا﴾ [البقرة: ١٤٣]، أيْ مِثْلَ ذَلِكَ الجَعْلِ الواضِحِ الشَّهِيرِ ويُطْلِقُونَ الِاسْمَ مُقْحَمًا زائِدًا كَما في قَوْلِ لَبِيدٍ: ”إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَلَيْكُما“ يَعْنِي ثُمَّ السَّلامُ عَلَيْكُما ولَيْسَ هَذا خاصًّا بِلَفْظِ الِاسْمِ بَلْ يَجِيءُ فِيما يُرادِفُهُ مِثْلَ الكَلِمَةِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وألْزَمَهم كَلِمَةَ التَّقْوى﴾ [الفتح: ٢٦] وكَذَلِكَ لَفْظٌ في قَوْلِ بَشّارٍ هاجِيًا:وكَذاكَ، كانَ أبُوكَ يُؤْثَرُ بِالهُنى ∗∗∗ ويَظَلُّ في لَفْظِ النَّدى يَتَرَدَّدُ
وقَدْ يُطْلَقُ الِاسْمُ وما في مَعْناهُ كِنايَةً عَنْ وُجُودِ المُسَمّى، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ﴾ [الرعد: ٣٣] والأمْرُ لِلتَّعْجِيزِ أيْ أثْبِتُوا وُجُودَهم ووَضْعَ أسْماءٍ لَهم. فَهَذِهِ إطْلاقاتٌ أُخْرى لَيْسَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ في البَسْمَلَةِ مِن قَبِيلِها، وإنَّما نَبَّهْنا عَلَيْها لِأنَّ بَعْضَ المُفَسِّرِينَ خَلَطَ بِها في تَفْسِيرِ البَسْمَلَةِ، ذَكَرْتُها هُنا تَوْضِيحًا لِيَكُونَ نَظَرُكم فِيها فَسِيحًا فَشُدُّوا بِها يَدًا. ولا تَتَّبِعُوا طَرائِقَ قِدَدًا وقَدْ تَكَلَّمُوا عَلى مَلْحَظِ تَطْوِيلِ الباءِ في رَسْمِ البَسْمَلَةِ بِكَلامٍ كُلُّهُ غَيْرُ مُقْنِعٍ، والَّذِي يَظْهَرُ لِي أنَّ الصَّحابَةَ لَمّا كَتَبُوا المُصْحَفَ طَوَّلُوها في سُورَةِ النَّمْلِ لِلْإشارَةِ إلى أنَّها مَبْدَأُ كِتابِ سُلَيْمانَ فَهي مِنَ المَحْكِيِّ، فَلَمّا جَعَلُوها عَلامَةً عَلى فَواتِحِ السُّوَرِ نَقَلُوها بِرَسْمِها، وتَطْوِيلُ الباءِ فِيها صالِحٌ لِاتِّخاذِهِ قُدْوَةً في ابْتِداءِ الغَرَضِ الجَدِيدِ مِنَ الكَلامِ بِحَرْفٍ غَلِيظٍ أوْ مُلَوَّنٍ.باعَدَ أُمَّ العَمْرِ مِن أسِيرِها، وهَلْ هي مُرَكَّبَةٌ مِن حَرْفَيْنِ أمْ هي حَرْفٌ واحِدٌ ؟ وإذا كانَتْ مِن حَرْفَيْنِ فَهَلِ الهَمْزَةُ زائِدَةٌ أمْ لا ؟ مَذاهِبُ، واللَّهُ أعْلَمُ، لا يُطْلَقُ إلّا عَلى المَعْبُودِ بِحَقٍّ مُرْتَجَلٍ غَيْرِ مُشْتَقٍّ عِنْدَ الأكْثَرِينَ، وقِيلَ: مُشْتَقٌّ، ومادَّتُهُ قِيلَ: لامٌ وياءٌ وهاءٌ، مِن لاهَ يَلِيهُ، ارْتَفَعَ. قِيلَ: ولِذَلِكَ سُمِّيَتِ الشَّمْسُ إلاهَةً بِكَسْرِ الهَمْزَةِ وفَتْحِها، وقِيلَ: لامٌ وواوٌ وهاءٌ مِن لاهَ يَلُوهُ لَوْهًا، احْتَجَبَ أوِ اسْتَنارَ، ووَزْنُهُ إذْ ذاكَ فَعَلَ أوْ فَعِلَ، وقِيلَ: الألِفُ زائِدَةٌ، ومادَّتُهُ هَمْزَةٌ ولامٌ مِن ألِهَ أيْ فَزِعَ، قالَهُ ابْنُ إسْحاقَ، أوْ ألَّهَ تَحَيَّرَ، قالَهُ أبُو عُمَرَ، وألَّهَ عَبَدَ، قالَهُ النَّضْرُ، أوْ ألَهَ سَكَنَ، قالَهُ المُبَرِّدُ. وعَلى هَذِهِ الأقاوِيلِ فَحُذِفَتِ الهَمْزَةُ اعْتِباطًا، كَما قِيلَ في ناسٍ أصْلُهُ أُناسٌ، أوْ حُذِفَتْ لِلنَّقْلِ ولَزِمَ مَعَ الإدْغامِ، وكِلا القَوْلَيْنِ شاذٌّ. وقِيلَ: مادَّتُهُ واوٌ ولامٌ وهاءٌ، مِن ولِهَ أيْ طَرِبَ، وأُبْدِلَتِ الهَمْزَةُ فِيهِ مِنَ الواوِ نَحْوَ أشاحَ، قالَهُ الخَلِيلُ والقَنّادُ، وهو ضَعِيفٌ لِلُزُومِ البَدَلِ. وقَوْلُهم في الجَمْعِ آلِهَةٌ، وتَكُونُ فِعالًا بِمَعْنى مَفْعُولٍ، كالكِتابِ يُرادُ بِهِ المَكْتُوبُ. وألْ في اللَّهِ إذا قُلْنا أصْلُهُ الإلاهُ، قالُوا لِلْغَلَبَةِ، إذِ الإلَهُ يَنْطَلِقُ عَلى المَعْبُودِ بِحَقٍّ وباطِلٍ، واللَّهُ لا يَنْطَلِقُ إلّا عَلى المَعْبُودِ بِالحَقِّ، فَصارَ كالنَّجْمِ لِلثُّرَيّا. وأُورِدَ عَلَيْهِ بِأنَّهُ لَيْسَ كالنَّجْمِ؛ لِأنَّهُ بَعْدَ الحَذْفِ والنَّقْلِ أوِ الإدْغامِ لَمْ يُطْلَقْ عَلى كُلِّ إلَهٍ، ثُمَّ غُلِّبَ عَلى المَعْبُودِ بِحَقٍّ، ووَزْنُهُ عَلى أنَّ أصْلَهُ فِعالٌ، فَحُذِفَتْ هَمْزَتُهُ عالٌ. وإذا قُلْنا بِالأقاوِيلِ السّابِقَةِ فَألْ فِيهِ زائِدَةٌ لازِمَةٌ، وشَذَّ حَذْفُها في قَوْلِهِمْ لاهَ أبُوكَ شُذُوذَ حَذْفِ الألِفِ في أقْبَلَ سَيْلٌ. أقْبَلَ جاءَ مِن عِنْدِ اللَّهِ. وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ ألْ في اللَّهِ مِن نَفْسِ الكَلِمَةِ، ووَصَلَتِ الهَمْزَةُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ، وهو اخْتِيارُ أبِي بَكْرِ بْنِ العَرَبِيِّ والسُّهَيْلِيِّ، وهو خَطَأٌ، لِأنَّ وزْنَهُ إذْ ذاكَ يَكُونُ فَعّالًا، وامْتِناعُ تَنْوِينِهِ لا مُوجِبَ لَهُ، فَدَلَّ عَلى أنَّ ألْ حَرْفٌ داخِلٌ عَلى الكَلِمَةِ سَقَطَ لِأجْلِها التَّنْوِينُ. ويَنْفَرِدُ هَذا الِاسْمُ بِأحْكامٍ ذُكِرَتْ في عِلْمِ النَّحْوِ، ومِن غَرِيبِ ما قِيلَ: إنَّ أصْلَهُ لاها بِالسُّرْيانِيَّةِ فَعُرِّبَ، قالَ:
كَحَلْفَةٍ مِن أبِي رَباحٍ ∗∗∗ يَسْمَعُها لاهُهُ الكِبارُ.
قالَ أبُو يَزِيدَ البَلْخِيِّ: هو أعْجَمِيٌّ، فَإنَّ اليَهُودَ والنَّصارى يَقُولُونَ لاها، وأخَذَتِ العَرَبُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ وغَيَّرُوها فَقالُوا اللَّهُ. ومِن غَرِيبِ ما قِيلَ في اللَّهِ أنَّهُ صِفَةٌ ولَيْسَ اسْمَ ذاتٍ؛ لِأنَّ اسْمَ الذّاتِ يُعْرَفُ بِهِ المُسَمّى، واللَّهُ - تَعالى - لا يُدْرَكُ حِسًّا ولا بَدِيهَةً، ولا تُعْرَفُ ذاتُهُ بِاسْمِهِ، بَلْ إنَّما يُعْرَفُ بِصِفاتِهِ، فَجَعْلُهُ اسْمًا لِلذّاتِ لا فائِدَةَ في ذَلِكَ. وكانَ العِلْمُ قائِمًا مُقامَ الإشارَةِ، وهي مُمْتَنِعَةٌ في حَقِّ اللَّهِ - تَعالى - وحُذِفَتِ الألِفُ الأخِيرَةُ مِنَ اللَّهِ لِئَلّا يُشْكِلَ بِخَطِّ اللّاهِ اسْمُ الفاعِلِ مِن لَها يَلْهُو، وقِيلَ: طُرِحَتْ تَخْفِيفًا، وقِيلَ هي لُغَةٌ فاسْتُعْمِلَتْ في الخَطِّ.فَأمّا إذا عَضَّتْ بِكَ الأرْضُ عَضَّةً ∗∗∗ فَإنَّكَ مَعْطُوفٌ عَلَيْكَ رَحِيمٌ.
قالَ عَلِيٌّ وابْنُ عَبّاسٍ وعَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ وقَتادَةُ وأبُو العالِيَةِ وعَطاءٌ وابْنُ جُبَيْرٍ ومُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى بْنِ حِبّانَ وجَعْفَرٌ الصّادِقُ: الفاتِحَةُ مَكِّيَّةٌ، ويُؤَيِّدُهُ ﴿ولَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ المَثانِي والقُرْآنَ العَظِيمَ﴾ [الحجر: ٨٧] . والحِجْرُ مَكِّيَّةٌ بِإجْماعٍ. وفي حَدِيثِ أُبَيٍّ: إنَّها السَّبْعُ المَثانِي والسَّبْعُ الطِّوالُ، أُنْزِلَتْ بَعْدَ الحِجْرِ بِمُدَدٍ، ولا خِلافَ أنَّ فَرْضَ الصَّلاةِ كانَ بِمَكَّةَ، وما حُفِظَ أنَّهُ كانَتْ في الإسْلامِ صَلاةٌ بِغَيْرِ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢] . وقالَ أبُو هُرَيْرَةَ وعَطاءُ بْنُ يَسارٍ ومُجاهِدٌ وسَوادُ بْنُ زِيادٍ والزُّهْرِيُّ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: هي مَدَنِيَّةٌ، وقِيلَ: إنَّها مَكِّيَّةٌ مَدَنِيَّةٌ.أتَنْتَهُونَ ولا يَنْهى ذَوِي شَطَطٍ كالطَعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزَيْتُ والفَتْلُ
وحُذِفَتِ الألِفُ مِن "بِسْمِ اللهِ" في الخَطِّ اخْتِصارًا وتَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ، واخْتَلَفَ النُحاةُ إذا كُتِبَ "بِاسْمِ الرَحْمَنِ، وبِاسْمِ القاهِرِ" فَقالَ الكِسائِيُّ، وسَعِيدٌ الأخْفَشُ: يُحْذَفُ الألِفُ. وقالَ يَحْيى بْنُ زِيادٍ: لا تُحْذَفُ إلّا مَعَ "بِسْمِ اللهِ" فَقَطْ؛ لِأنَّ الِاسْتِعْمالَ إنَّما كَثُرَ فِيهِ.بِاسْمِ الَّذِي في كُلِّ سُورَةٍ سِمُهْ ∗∗∗......................................
وسُكِّنَتِ السِينُ مِن بِسْمِ اعْتِلالًا عَلى غَيْرِ قِياسٍ، وإنَّما اسْتُدِلَّ عَلى هَذا الأصْلِ الَّذِي ذَكَرْناهُ بِقَوْلِهِمْ في التَصْغِيرِ (سُمَيٌّ)، وفي الجَمْعِ أسْماءٌ، وفي جَمْعِ الجَمْعِ (أسامِيُّ)، وقالَ الكُوفِيُّونَ: أصْلُ اسْمٍ واسْمٌ مِنَ (السِمَةِ)، وهي العَلامَةُ؛ لِأنَّ الِاسْمَ عَلامَةٌ لِمَن وُضِعَ لَهُ، وحُذِفَتْ فاؤُهُ اعْتِلالًا عَلى غَيْرِ قِياسٍ، والتَصْغِيرُ والجَمْعُ المَذْكُورانِ يَرُدّانِ هَذا المَذْهَبَ الكُوفِيَّ، وأمّا المَعْنى فِيهِ فَجَيِّدٌ، لَوْلا ما يَلْزَمُهم مِن أنْ يُقالَ في التَصْغِيرِ "وُسَيْمٌ"، وفي الجَمْعِ "أوسامٌ"؛ لِأنَّ التَصْغِيرَ والجَمْعَ يَرُدّانِ الأشْياءَ إلى أُصُولِها.إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَلامِ عَلَيْكُما ∗∗∗ ومَن يَبْكِ حَوْلًا كامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرَ
وقالُوا: إنَّ لَبَيْدًا أرادَ التَحِيَّةَ.لِلَّهِ دَرُّ الغانِياتِ المُدَّهِ ∗∗∗ سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِن تَألُّهِي
ومِن ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تَعالى: "وَيَذَرَكَ وإلَهَتَكَ" عَلى هَذِهِ القِراءَةِ، فَإنَّ ابْنَ عَبّاسٍ وغَيْرَهُ قالَ: وعِبادَتَكَ، قالُوا: فاسْمُ اللهِ مُشْتَقٌّ مِن هَذا الفِعْلِ؛ لِأنَّهُ الَّذِي يَأْلَهُهُ كُلُّ خَلْقٍ ويَعْبُدُهُ، حَكاهُ النَقّاشُ في صَدْرِ سُورَةِ آلِ عِمْرانَ. فَإلَهٌ فِعالٌ مِن هَذا.أقْبَلَ سَيْلٌ جاءَ مِن أمْرِ اللهْ ∗∗∗ يَحْرُدُ حَرْدَ الجَنَّةِ المُغِلَّةْ
(والرَحْمَنُ) صِفَةُ مُبالَغَةٍ مِنَ الرَحْمَةِ، ومَعْناها أنَّهُ انْتَهى إلى غايَةِ الرَحْمَةِ، كَما يَدُلُّ عَلى الِانْتِهاءِ سَكْرانُ وغَضْبانُ، وهي صِفَةٌ تَخْتَصُّ بِاللهِ ولا تُطْلَقُ عَلى البَشَرِ. وهي أبْلَغُ مِن فَعِيلٍ، وفَعِيلٌ أبْلَغُ مِن فاعِلٍ؛ لِأنَّ راحِمًا يُقالُ لِمَن رَحِمَ ولَوْ مَرَّةً واحِدَةً، ورَحِيمًا يُقالُ لِمَن كَثُرَ مِنهُ ذَلِكَ، والرَحْمَنُ النِهايَةُ في الرَحْمَةِ. وقالَ بَعْضُ الناسِ: الرَحْمَنُ الرَحِيمُ بِمَعْنًى واحِدٍ، كالنَدْمانِ والنَدِيمِ، نَعَمْ إنَّهُما مِن فِعْلٍ واحِدٍ، ولَكِنَّ أحَدَهُما أبْلَغُ مِنَ الآخَرِ.(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، وهي مقدمة لتلاوة كل سورة من سور القرآن، وروي عن بعض الصحابة: إننا كنا نعرف نهاية سورة وابتداء سورة بنزول قوله تعالى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم) وروي عن جعفر الصادق بن محمد رضي الله عنهما، أنه قال: البسملة تيجان السور ، وقد قال عبد الله بن المبارك: إنها جزء من كل سورة؛ ولذلك يجب ابتداء السورة بقراءتها.على أنها جزء منها، وقال الشافعي: إنها جزء من الفاتحة ، وتَردَّد في عدها جزءًا من كل سورة، ولكنها مهما تكن ليست جزءا من غير الفاتحة، وهي لازمة للفصل بين سورة وسورة من السور التي ابتدأت بذكرها. ولأن ثمة كلامًا في كون سورة براءة ليست مستقلة عن سورة الأنفال، وعدها الأكثرون جزءا منها - لم تكن مبتدأة بالبسملة، وينسب إلى الإمام مالك رضي الله تبارك وتعالى عنه أنها ليست جزءا من سورة الفاتحة أو غيرها، ومؤدى هذا القول أنها ليست من القرآن ككلمة آمين في آخر الفاتحة؛ إذ إن الفاتحة ضراعة إلى الله تعالى، فناسب أن تذكر بعدها آمين ، وعدَّ القرطبي في كتابه أحكام القرآن أن في مذهب مالك أن البسملة ليست من القرآن هو الصحيح، وذكر أن القرآن كله متواتر، والبسملة ليست متواترة، فلا تعد من القرآن، ولكن تكون علامة على انتهاء سورة، وابتداء سورة أخرى. ومع أنه قرر ذلك - يقرر أن مالكا يرى أنها يُبتدأ بها في الفرض والنافلة، كما رواه ابن نافع، وفي الحق أن ذلك القول غريب عن القرآن، وذلك لأن البسملة متواترة تواتر كل أجزاء القرآن، فلم تثبت بحديث آحاد، بل ثبتت بالقرآن نفسه، فقد كتبت في مصحف عثمان وما قبله، ولا تواتر أبلغ من هذا، وما كان للشيخين أبي بكر وعمر، وذي النورين وجميع الصحابة أن يدوِّنوا في المصحف ما ليس من القرآن، و آمين هي التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنطق بها في عقب قراءة الفاتحة. إن ادعاء أنها ثبتت بخبر آحاد يقتضي ذكر ذلك الخبر، ورواته، ومقدار قوتهم، وضعفهم، وعددهم، وليس كذلك، بل هي ثبتت مقترنة بسور القرآن على أنها ثابتة بين كل سورة وسورة.والسورة التي لم تصدر بها، ثبت عدم تقدمها لهذه السورة بالتواتر، فهي متواترة بالذكر في كل السور، ومتواترة بالسلب في سورة واحدة. ولهذا نرى أن نسبة ذلك القول إلى إمام دار الهجرة مالك هو في ذاته موضع نظر، وقد اقترن ذلك بادعاء أنه لم يقرأها أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقول القرطبي عفا الله عنه: فى مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة انقرضت عليه العصور ومرت عليه الأزمنة والدهور من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى زمان مالك، ولم يقرأ أحد فيه قط (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم) اتباعًا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإن لنا أن نرد ذلك القول، ونأخذ ذلك من كلامه هو، فهو قد روى أن عمر، وعليًّا، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، كانوا يقرأونها ويسرون بها. وروى هو أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يسر بها ولا يجهر، فقد روي عن أنس ابن مالك رضي الله عنه أنه قال: كان يصلي بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يُسمعنا قراءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وروي عنه أيضا: صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخلف أبي بكر، وعمر، فلم أسمع أحدًا منهم يجهر بـ بسم الله الرحمن الرحيم . فالأمر أمر الجهر بها، لَا أمر تركها، وفرق كبير بين الترك لها أصلا، وترك الجهر بها. وبذلك ينتفي ما ادعاه من أن أحدا لم يقرأها، اتباعا للسنة إن كانت سنة، وذلك لأنهم قرأوها خفية وفي سر، آخذين ذلك من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن كتاب الله عز وجل: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)). وننتهي من هذا إلى أن البسملة جزء من القرآن الكريم، وهي فاصلة بين السور تدل على الانتهاء من سورة والابتداء بسورة أخرى. وإن الشافعي يعُدها جزءا من الفاتحة، ومهما يكن فإنه لابد من البدء بقراءتها، وغيره يوجب البدء بها لَا على أنها جزء من الفاتحة، ولكن على أنها قرآن يبدأ به في أول كل سورة. والأكثرون عدوها على أنها يبتدأ بها سرا لَا جهرًا أو تضرعًا في خفية، ودون الجهر من القول، والله سبحانه وتعالى أعلم. * * * (التعوذ في ابتداء التلاوة) قال الله تعالى: (فَإذَا قَرَأْتَ الْقرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)، فُهِم من هذا النص الكريم أنه عند التلاوة لابد أن يقدمها بقوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ثم تكون بعدها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وقد حكي ذلك عن عطاء وغيره، فقالوا: إن الاستعاذة واجبة عند كل تلاوة في غير الصلاة ، وإنما في الصلاة فلا وجوب، ويظهر أن ذلك بالاتفاق؛ لأنه يكون زيادة واجب في الصلاة لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكل وجوب في عبادة من غير إيجاب من صاحب الشرع يُرَد ولا يؤخذ به. وكان النخعي، ومعه قوم يتعوذون استحبابًا في كل ركعة في الصلاة، فحيث كانت قراءة قرآن تعوذوا استحبابًا، وروي عن أبي حنيفة التعوذ في قراءة الركعة الأولى فقط.ومن المتفق عليه أمران: أحدهما: أن الاستعاذة ليست جزءا من الصلاة، ولا شرطا لقراءة الفاتحة، كما هو مقرر عند الشافعي، لَا سرا ولا جهرا؛ لأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه التزم بها لَا جهرا ولا خفية. الثاني: أن كلمة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ليست قرآنا، وإنما استجابة لقول الله تعالى: (فَإذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)، وكلمة أعوذ بالله هي الكلمة التي يرددها الناس عند الاستعاذة، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول في الاستعاذة: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، وروى ابن مسعود أنه تعوَّذ بها أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: يا ابْنَ أمِّ عَبْدٍ، أعوذُ باللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرجيمِ هكلذ أقْرَانِي جِبْرِيلُ عَنِ اللوح عَنِ القَلَم ، وإن هذا النص يستفاد منه أن كلمة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هي المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وننتهي من هذا إلى أنها مستحبة وليست واجبة، ولكن إذا قالها أيُسِرُّ أم يجهر؟ الجمهور على أنه يجهر عند الصلاة بها، وقال حمزة: يسرُّ بها، ومن قال إن الاستعاذة تكون بعد القراءة لأن الله يقول: (فَإذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) ...، فالقراءة تسبق الاستعاذة امتثالا لأمر الله تعالى؛ ولكيلا يكون القارئ متغنيا، ولا متلقيا، وليكون في حضرة الله في قراءته وبعدها، ويكون طائعا لله تعالى في كل أحواله. الفاتحة أو فاتحة الكتاب قال جار الله الزمخشري في كتابه الكشاف: إنها مكية؛ لأنها أنزلت بمكة، وذلك هو المشهور، وقيل إنها أنزلت بمكة مرة، والمدينة مرة أخرى عند تحويل القبلة إلى الكعبة، والظاهر أنها مكية، نزلت عند فرض الصلاة بمكة، وكونها نزلت بعد ذلك بالمدينة تكرار للنزول، ولا نحسب ثمة حاجة للتكرار فإنها متى نزلت كانت واجبة التلاوة على أنها جزء من القرآن ولاحاجة إلى تكرار نزولها. وتسمى أم القرآن، لاشتمالها على المعاني التي في القرآن من الثناء على الله تعالى، بما هو أهله، ومن التعبد بالأمر والنهي، ومن الوعد والوعيد، وتسمى أيضا سورة الكنز، وسورة الوافية لذلك الشمول الإجمالي الذي اشتملت عليه فيما ذكرنا، وتسمى المثاني لأنها تثنى في كل ركعة ولأنها السبع المثاني. وتسمى سورة الصلاة، لأنها مأمور بقراءتها فيها، وتسمى الشفاء والشافية وهي سبع آيات بالاتفاق . وكلها أسماء سميت بها لمعان فيها، ولاحظَها من جوانبها من سماها، فكل اسم يمثل جانبا من جوانبها. ابتدئت الفاتحة كما ابتدئت كل سورة ما عدا براءة بـ بسم الله الرحمن الرحيم ، وعدها الشافعي وفقهاء مكة جزءا من الفاتحة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدَّ الفاتحة سبع آيات، ولا تكون سبع آيات إلا إذا عدت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ جزءا منها، وعند أهل المدينة ومالك ليست جزءا من الفاتحة، وقد علمت القول المختلف في ذلك، وقد قررنا أنها جزء من القرآن وابتداء لكل سورة، وقال الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة: ما بين دفتي المصحف قرآن ، وقد كانت مكتوبة في مصحف عثمان رضي الله عنه والمصحفين من قبله، وتواتر المصحف بتواتر القرآن، والإجماع انعقد على ذلك، ولم تنقل بخبر آحاد كما ادعى بعض المالكية. (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (بِسْمِ) الباء هنا هي حرف جر يدل على السببية، وهي مبنية على الكسر كـ لام الأمر، والمعنى: بسبب اسم الله الذي لَا. يعبد سواه وأنه الرحمن الرحيم أبتدئ، فهي متعلقة بمحذوف يُذكر بعدها، لبيان اختصاص الابتداء أو التبرك باسم الله تعالى، فالتأخير يفيد الاهتمام بمتعلّق الباء ومزيد الاختصاص بالاستعانة والتيمن والتبرك به. والبسملة يبدأ بها في كل أمر ذي بال، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِبِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم فَهُو أَبْتَر والفعل الذي تعلقت به الباء محذوف، وكما ذكرنا يقدر مؤخرا، لأن المقدم يكون محل التخصيص. ولأن البسملة يبدأ بها كل أمر ذي بال، فإنه يقدر الفعل على حسب ما نبتدئ البسملة، ويرى بعض المفسرين أن يقدر الفعل المحذوف أبتدئ ، لأنه يكون صالحا، لكل أمر ذي بال وشأن، والآخرون قالوا: إنه يقدر في القرآن أتلو أو أقرأ أو أرتل أو نحو ذلك، وبعض العلماء قال: إنها في القرآن الكريم في معنى القسم بأن القرآن حق لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتكون على هذا للقسم، ويقدر الفعل بـ أُقسم . والمعنى على ذلك في أول كل سورة اجعل قسمك بالله الرحمن الرحيم أن ما تتلو هو الحق الذي لاريب فيه، فهو الكتاب لَا ريب فيه هدى للمتقين.و (اللَّهِ) هو لفظ الجلالة الدال على أنه وحده له كمال العبودية، واسم الله - قال بعض العلماء إنه المراد فيه الذات العلية فهو اسم يعني المسمى. والمعنى هو القسم بالذات العلية، وقرر بعض العلماء أن الاسم الأعلى هو المقصود بالافتتاح تبركا وتيمنا باسم الذات العلية، ولها المكان الأقدس من العباد تبارك الله، والاسم ذاته يتيمن به ويتبرك، فليس المراد بالاسم الذات؛ لأنها مذكورة، كما قال تعالى: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)، وقوله تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى)، وهذا ما نميل إليه؛ لأنه لَا يحتاج إلى تحول من المعنى الأصلي لكلمة الاسم إلى غيره، ولأن إطلاق الاسم على المسمى من قبيل المجاز، ولا يصار إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة، ولأن قصد الاسم الأسمى ابتداءً يفيد معنيين، وهو تقديس الاسم في كلمة بسم الله، وتقديس المسمى وهو الله سبحانه. ولو أطلق الاسم على المسمى، لكان تقديسا للذات العلية من غير إعالاء للاسم في ذاته، ولا شك أن الأول أبلغ تسبيح لله تعالى لقاء التبرك بذكره، والتيمن به سبحانه وتعالى علوا كبيرا. وكلمة (اللَّهِ) تعالى لَا تطلق إلا على الذات العلية خالق الكون، ومنشئ الوجود على غير مثال سبق، بديع السماوات والأرض. وقالوا: إن أصل كلمة الله: الإله، ثم كان حذف الهمزة، مع تقدير أنها مطوية في الكلام مقدرة فيه. والإله تطلق على المعبود، وتعم المعبود بحق وبغير حق، ولكن كلمة (اللَّهِ) تعالى لا تطلق إلا على المعبود بحق، فيُقال: آلهة المشركين، وآلهة الرومان، وآلهة المصريين، ولا يقال: الله إلا في مقام أنه الخالق المدبر المنشئ المستحق للعبادة؛ ولذلك كانت ألفاظ القرآن الكثيرة في مخاطبة المشركين، على أن الله تعالى معروف بأنه المنشئ، وأنه غير آلهتهم، فكانوا يقولون: الآلهة هبل، واللات، والعزى، ومناة الثالثة؛ يقولون عنها إله وآلهة ولا يقولون عن واحدة منها إنه الله ، لقد قال تعالىعنهم: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)، وكان يحتج عليهم بأنهم يعبدون مع الله آلهة أخرى، وجدل القرآن الكريم لهم لإلزامهم بالتوحيد بأنهم يعترفون بأن الله تعالى خالق السماوات والأرض فهو الجدير وحده بالعبادة، اقرأ قوله تعالى: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)) ونرى من هذا أن العرب كانوا يعرفون الله سبحانه وتعالى، وأنه الخالق لكل شيء وما كانوا يطلقون كلمة الله إلا على الخالق المدبر المنفرد بالإيجاد والإبداع، وما كانوا يطلقون على آلهتهم كلمة الله، وهذا عُرْف لغتهم ودلالتها. (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) هذان وصفان لله تعالى قُرنا في البسملة، وكلاهما يدل على كمال رحمة الله تعالى في ذاته وعلى خلقه، والرحمة رقة في القلب، والله تعالى لَا يتصف بذلك؛ لأن هذا من صفات الحوادث، والله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وإنما يراد من الأوصاف التي يتصف بمثلها العباد غايتها، وثمرتها، وثمرة الرحمة الإنعام الكامل، والنفع ودفع الضر، والرزق، وغفران الذنوب، وكلاءة الله تعالى لهم، والقيام على كل ما يمدهم به بالخير والنعمة.والوصفان اقترنا واجتمعا في البسملة، كما اجتمعا في بسملة كتاب سليمان عليه السلام لبلقيس، إذ قال تعالى: (إِنَّه مِن سُلَيْمَانَ وَإِنِّه بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وهذه بسملة كبسملة أوائل السور، كما اجتمع الوصفان في آيتين أخريين من آيات القرآن، ففي أول سورة فصلت ذكر للقرآن الكريم، وقال سبحانه عن الذكر (تَنزِيلٌ منَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم) وجاء في سورة الحشر (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ). ولا شك أن الوصفين من أسماء الله الحسنى وصفاته، ولا شك أن لكل منهما معنًى قائمًا بذاته، منفردًا به عن الآخر. يقول الزمخشري (نقلا عن الزجاج): إن صيغة فَعْلان من الصيغ التي تدل على الامتلاء، كغضبان، وشبعان، وسكران، وجوعان، فإنها تدل على الامتلاء من الفعل الذي اشتُقت منه، فكذلك الرحمن معناها الممتلئ رحمة، ورحيم تدل على الاتصاف بالرحمة التي تليق بذاته العلية من غير امتلاء. ولذلك يقول الزمخشري ومن تبعه في دراساته البيانية للقرآن الكريم: إن الرحمن أبلغ من الرحيم ، وإن كان كلامه تعالى كله فوق الكلام البشرى وما ترى فيه من تفاوت، وإن كان كله في أعلى درجات البيان لَا يساويه بيان للإنسان. وبدراسة اللفظين في القرآن يتبين لنا الفرق بينهما في الاستعمال القرآني السامي في بلاغته إلى ما لَا يتسامى إليه كلام بشر، ولا يدانيه شيءٌ من الكلام الإنساني. وعند الاتجاه إلى استقراء الآيات القرآنية نجد القرآن الكريم جمع بين الوصفين في آيتين غير البسملة وقد ذكرتا، وذكر وصف الرحمن منفردا في نحو ستينموضعًا من كتاب الله العزيز، وكان يذكر ذلك الوصف السامي غير مضاف إلى فعل من الأفعال، ولا واقع على أحد كقوله تعالى: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى...)، وكقوله تعالى: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا)، وقوله تعالى: (الرَّحْمَن عَلَّمَ الْقُرْآنَ)، ومثل قوله تعالى: (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ). وهكذا في نحو ستين آية يذكر وصف الرحمن مجردا من الإضافة إلى شيء أو شخص أو فعل كما يذكر الله تعالى، وذكر وصف الرحيم منفردًا عن الرحمن في أكثر من ثلاثين ومائة آية، ونجد أنها مضافة إلى رحمته سبحانه وتعالى بالعباد مثل قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رحِيمٌ)، ومثل قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رحِيمٌ)، ومثل قوله تعالى: (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). ومن هذه الموازنات بين استعمال القرآن لكلمة رحمن ، واستعماله لكلمة رحيم ننتهي إلى ما يأتي: أولا: أن وصف الرحمن وصف ذاتي للذات العلية لَا يتعلق بفعل ولا بشخص يذكر، ولكنه وصف لله أو اسم له كلفظ الجلالة، ولكنه يشعرنا بالرحمة، كما أنه لفظ يشعر بالألوهية واستحقاق العبادة؛ ولذلك قال بعض العلماء: إن كلمة الرحمن اسم لله تعالى، وأما الرحيم فهو وصف لله تعالى يتعلق برحمته بالعباد المكلفين المخاطبين بشريعته، والذين طلب منهم أن يقوموا بحق الله تعالى في إجابة أوامره، واجتناب نواهيه؛ ولذلك يقترن كثيرا بالتوبة والمغفرة.ثانيا: أن الرحمة في الرحمن أكثر من الرحيم ، ولذلك قالوا: إن رحمة الرحمن، هي الرحمة بالوجود كله، فبرحمة الرحمن يرزق الله من في السماوات والأرض، وبرحمته الواسعة ينزل الغيث، ويرسل الرياح، ومهَّد الأرض، وجعل الجبال، وبرحمة الرحمن بعث الرسل مبشرين ومنذرين، وبرحمة الرحمن جازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْر أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ). وهكذا كانت رحمة الرحمن شاملة الوجود كله، والرحيم متعلق في رحمته بالمكلفين. ثالثا: أن الرحمن أكثر رحمة لما في الوصف بالرحمة فيه من شمول يشمل الوجود الإنساني كله، ووصف الرحيم خاص بالمكلفين، كما يدل على ذلك سياق اللفظ في القرآن الكريم. ومن هذا الاستقراء والتتبع، واستنباط المعاني لألفاظ (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) من استعمال القرآن ننتهي إلى أن بيان معاني (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم) أن الله سبحانه وتعالى يأمرنا أن نتلو القرآن مبتدئين تالين لآياته باسمه الأقدس. نتبرك به ونتيمن ونسبح باسمه، وهو الله الإله المتفرد بالخلق والتكوين والتدبير والمتفرد بالعبودية وحده جل جلاله لأنه بديع السماوات والأرض والوجود كله، وهو الرحمن ذو الرحمة الواسعة التي تعم الوجود كله في السماوات والأرض، والدنيا والآخرة، المدبر للوجود برحمته، وهو الرحيم بعباده يغفر لهم ويتوب عليهم، ويشرع لهم من الشرائع ما يكون خيرًا لهم في معادهم ومعاشهم، وهو بكل شيء عليم.
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الظلال:
الحياة في ظلال القرآن نعمة. نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها. نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه.
والحمد لله.. لقد منَّ علي بالحياة في ظلال القرآن فترة من الزمان، ذقت فيها من نعمته ما لم أذق قط في حياتي. ذقت فيها هذه النعمة التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه.
لقد عشت أسمع الله - سبحانه - يتحدث إلي بهذا القرآن.. أنا العبد القليل الصغير.. أي تكريم للإنسان هذا التكريم العلوي الجليل؟ أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل؟ أي مقام كريم يتفضل به على الإنسان خالقه الكريم؟
وعشت - في ظلال القرآن - أنظر من علو إلى الجاهلية التي تموج في الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة.. أنظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال، وتصورات الأطفال، واهتمامات الأطفال.. كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال، ومحاولات الأطفال. ولثغة الأطفال.. وأعجب.. ما بال هذا الناس؟! ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة، ولا يسمعون النداء العلوي الجليل. النداء الذي يرفع العمر ويباركه ويزكيه؟
عشت أتملى - في ظلال القرآن - ذلك التصور الكلامل الشامل الرفيع النظيف للوجود.. لغاية الوجود كله، وغاية الوجود الإنساني.. وأقيس إليه تصورات الجاهلية التي تعيش فيها البشرية، في شرق وغرب، وفي شمال وجنوب.. وأسأل.. كيف تعيش البشرية في المستنقع الآسن، وفي الدرك الهابط، وفي الظلام البهيم وعندها ذلك المرتع الزكي، وذلك المرتقى العالي، وذلك النور الوضيء؟
وعشت - في ظلال القرآن - أحس التناسق الجميل بين حركة الإنسان كما يريدها الله، وحركة هذا الكون الذي أبدعه الله.. ثم أنظر.. فأرى التخبط الذي تعانيه البشرية في انحرافها عن السنن الكونية، والتصادم بين التعاليم الفاسدة الشريرة التي تملى عليها وبين فطرتها التي فطرها الله عليها. وأقول في نفسي: أي شيطان لئيم هذا الذي يقود خطاها إلى هذا الجحيم؟ يا حسرة على العباد !
وعشت - في ظلال القرآن - أرى الوجود أكبر بكثير من ظاهره المشهود.. أكبر في حقيقته، وأكبر في تعدد جوانبه.. إنه عالم الغيب والشهادة لا عالم الشهادة وحده. وإنه الدنيا والآخرة، لا هذه الدنيا وحدها.. والنشأة الإنسانية ممتدة في شعاب هذا المدى المتطاول كله إنما هو قسط من ذلك النصيب. وما يفوته هنا من الجزاء لا يفوته هناك. فلا ظلم ولا بخس ولا ضياع. على أن المرحلة التي يقطعها على ظهر هذا الكوكب إنما هي رحلة في كون حي مأنوس، وعالم صديق ودود. كون ذي روح تتلقى وتستجيب، وتتجه إلى الخالق الواحد الذي تتجه إليه روح المؤمن في خشوع: ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال. . تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده. . أي راحة، وأي سعة وأي أنس، وأي ثقة يفيضها على القلب هذا التصور الشامل الكامل الفسيح الصحيح؟
وعشت - في ظلال القرآن - أرى الإنسان أكرم بكثير من كل تقدير عرفته البشرية من قبل للإنسان ومن بعد.. إنه إنسان بنفخة من روح الله: فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. . وهو بهذه النفخة مستخلف في الأرض: وإذ قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة. . ومسخر له كل ما في الأرض: وسخر لكم ما في الأرض جميعا.. ولأن الإنسان بهذا القدر من الكرامة والسمو جعل الله الآصرة التي يتجمع عليها البشر هي الآصرة المستمدة من النفخة الإلهية الكريمة. جعلها آصرة العقيدة في الله.. فعقيدة المؤمن هي وطنه، وهي قومه، وهي أهله.. ومن ثم يتجمع البشر عليها وحدها، لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج !. .
والمؤمن ذو نسب عريق، ضارب في شعاب الزمان. إنه واحد من ذلك الموكب الكريم، الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم: نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب ويوسف، وموسى وعيسى، ومحمد.. عليهم الصلاة والسلام.. وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون. .
هذا الموكب الكريم، الممتد في شعاب الزمان من قديم، يواجه - كما يتجلى في ظلال القرآن - مواقف متشابهة، وأزمات متشابهة، وتجارب متشابهة على تطاول العصور وكر الدهور، وتغير المكان، وتعدد الأقوام. يواجه الضلال والعمى والطغيان والهوى، والاضطهاد والبغي، والتهديد والتشريد. ولكنه يمضي في طريقه ثابت الخطو، مطمئن الضمير، واثقا من نصر الله، متعلقا بالرجاء فيه، متوقعا في كل لحظة وعد الله الصادق الأكيد: وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا. فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين، ولنسكننكم الأرض من بعدهم. ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد. . موقف واحد وتجربة واحدة. وتهديد واحد. ويقين واحد. ووعد واحد للموكب الكريم.. وعاقبة واحدة ينتظرها المؤمنون في نهاية المطاف. وهم يتلقون الاضطهاد والتهديد والوعيد. .
الحياة في ظلال القرآن
وفي ظلال القرآن تعلمت أنه لا مكان في هذا الوجود للمصادفة العمياء، ولا للفلتة العارضة: إنا كل شيء خلقناه بقدر. . وخلق كل شيء فقدره تقديرا. . وكل أمر لحكمة. ولكن حكمة الغيب العميقة قد لا تتكشف للنظرة الإنسانية القصيرة: فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل
الله فيه خيرا كثيرا. . وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم. والله يعلم وأنتم لا تعلمون. . والأسباب التي تعارف عليها الناس قد تتبعها آثارها وقد لا تتبعها، والمقدمات التي يراها الناس حتمية قد تعقبها نتائجها وقد لا تعقبها. ذلك أنه ليست الأسباب والمقدمات هي التي تنشئ الآثار والنتائج، وإنما هي الإرادة الطليقة التي تنشئ الآثار والنتائج كما تنشئ الأسباب والمقدمات سواء: لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا. . وما تشاءون إلا أن يشاء الله. . والمؤمن يأخذ بالأسباب لأنه مأمور بالأخذ بها. والله هو الذي يقدر آثارها ونتائجها.. والاطمئنان إلى رحمة الله وعدله وإلى حكمته وعلمه هو وحده الملاذ الأمين، والنجوة من الهواجس والوساوس: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا، والله واسع عليم. .
ومن ثم عشت - في ظلال القرآن - هادئ النفس، مطمئن السريرة، قرير الضمير.. عشت أرى يد الله في كل حادث وفي كل أمر. عشت في كنف الله وفي رعايته. عشت أستشعر إيجابية صفاته تعالى وفاعليتها.. أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء؟. . وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير. . والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. . واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه. . فعال لما يريد. . ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه. إن الله بالغ أمره. . ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها. . أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه. . ومن يهن الله فما له من مكرم. . ومن يضلل الله فما له من هاد. . إن الوجود ليس متروكا لقوانين آلية صماء عمياء. فهناك دائما وراء السنن الإرادة المدبرة، والمشيئة المطلقة.. والله يخلق ما يشاء ويختار. كذلك تعلمت أن يد الله تعمل. ولكنها تعمل بطريقتها الخاصة، وأنه ليس لنا أن نستعجلها، ولا أن نقترح على الله شيئا. فالمنهج الإلهي - كما يبدو في ظلال القرآن - موضوع ليعمل في كل بيئة، وفي كل مرحلة من مراحل النشأة الإنسانية، وفي كل حالة من حالات النفس البشرية الواحدة.. وهو موضوع لهذا الإنسان الذي يعيش في هذه الأرض، آخذ في الاعتبار فطرة هذا الإنسان وطاقاته واستعداداته، وقوته وضعفه، وحالاته المتغيرة التي تعتريه.. إن ظنه لا يسوء بهذا الكائن فيحتقر دوره في الأرض، أو يهدر قيمته في صورة من صور حياته، سواء وهو فرد أو وهو عضو في جماعة. كذلك هو لا يهيم مع الخيال فيرفع هذا الكائن فوق قدره وفوق طاقته وفوق مهمته التي أنشأه الله لها يوم أنشأه.. ولا يفترض في كلتا الحالتين أن مقومات فطرته سطحية تنشأ بقانون أو تكشط بجرة قلم !.. الإنسان هو هذا الكائن بعينه. بفطرته وميوله واستعداداته يأخذ المنهج الإلهي بيده ليرتفع به إلى أقصى درجات الكمال المقدر له بحسب تكوينه ووظيفته، ويحترم ذاته وفطرته ومقوماته، وهو يقوده في طريق الكمال الصاعد إلى الله.. ومن ثم فإن المنهج الإلهي موضوع للمدى الطويل - الذي يعلمه خالق هذا الإنسان ومنزل هذا القرآن - ومن ثم لم يكن معتسفا ولا عجولا في تحقيق غاياته العليا من هذا المنهج. إن المدى أمامه ممتد فسيح، لا يحده عمر فرد، ولا تستحثه رغبة فان، يخشى أن يعجله الموت عنتحقيق غايته البعيدة، كما يقع لأصحاب المذاهب الأرضية الذين يعتسفون الأمر كله في جيل واحد، ويتخطون الفطرة المتزنة الخطى لأنهم لا يصبرون على الخطو المتزن ! وفي الطريق العسوف التي يسلكونها تقوم المجازر، وتسيل الدماء، وتتحطم القيم، وتضطرب الأمور. ثم يتحطمون هم في النهاية وتتحطم مذاهبهم المصطنعة تحت مطارق الفطرة التي لا تصمد لها المذاهب المعتسفة ! فأما الإسلام فيسير هينا لينا مع الفطرة، يدفعها من هنا، ويردعها من هناك، ويقومها حين تميل، ولكنه لا يكسرها ولا يحطمها. إنه يصبر عليها صبر العارف البصير الواثق من الغاية المرسومة.. والذي لا يتم في هذه الجولة يتم في الجولة الثانية أو الثالثة أو العاشرة أو المائة أو الألف.. فالزمن ممتد، والغاية واضحة، والطريق إلى الهدف الكبير طويل، وكما تنبت الشجرة الباسقة وتضرب بجذورها في التربة، وتتطاول فروعها وتتشابك.. كذلك ينبت الإسلام ويمتد في بطء وعلى هينة وفي طمأنينة. ثم يكون دائما ما يريده الله أن يكون.. والزرعة قد تسقى عليها الرمال، وقد يأكل بعضها الدود، وقد يحرقها الظمأ. وقد يغرقها الري. ولكن الزارع البصير يعلم أنها زرعة للبقاء والنماء، وأنها ستغالب الآفات كلها على المدى الطويل، فلا يعتسف ولا يقلق، ولا يحاول إنضاجها بغير وسائل الفطرة الهادئة المتزنة، السمحة الودود.. إنه المنهج الإلهي في الوجود كله.. ولن تجد لسنة الله تبديلا. .
والحق في منهج الله أصيل في بناء هذا الوجود. ليس فلتة عابرة، ولا مصادفة غبر مقصودة.. إن الله سبحانه هو الحق. ومن وجوده تعالى يستمد كل موجود وجوده: ذلك بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل، وأن الله هو العلي الكبير. . وقد خلق الله هذا الكون بالحق لا يتلبس بخلقه الباطل: ما خلق الله ذلك إلا بالحق. . ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ! والحق هو قوام هذا الوجود فإذا حاد عنه فسد وهلك: ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن. . ومن ثم فلا بد للحق أن يظهر، ولا بد للباطل أن يزهق.. ومهما تكن الظواهر غير هذا فإن مصيرها إلى تكشف صريح: بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. .
والخير والصلاح والإحسان أصيلة كالحق، باقية بقاءه في الأرض: أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها، فاحتمل السيل زبدا رابيا، ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع، زبد مثله. كذلك يضرب الله الحق والباطل. فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. كذلك يضرب الله الأمثال. .. ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء. .
أي طمأنينة ينشئها هذا التصور؟ وأي سكينة يفيضها على القلب؟ وأي ثقة في الحق والخير والصلاح؟ وأي قوة واستعلاء على الواقع الصغير يسكبها في الضمير؟
أثر الحياة في ظلال القرآن
من فترة الحياة - في ظلال القرآن - إلى يقين جازم حاسم.. إنه لا صلاح لهذه الأرض، ولا راحة لهذه البشرية، ولا طمأنينة لهذا الإنسان، ولا رفعة ولا بركة ولا طهارة، ولا تناسق مع سنن الكون وفطرة الحياة.. إلا بالرجوع إلى الله. .
والرجوع إلى الله - كما يتجلى في ظلال القرآن - له صورة واحدة وطريق واحد.. واحد لا سواه.. إنه العودة بالحياة كلها إلى منهج الله الذي رسمه للبشرية في كتابه الكريم.. إنه تحكيم هذا الكتاب وحده في حياتها. والتحاكم إليه وحده في شؤونها. وإلا فهو الفساد في الأرض، والشقاوة للناس، والارتكاس في الحمأة، والجاهلية التي تعبد الهوى من دون الله: فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم. ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله؟ إن الله لا يهدي القوم الظالمين. .
إن الاحتكام إلى منهج الله في كتابه ليس نافلة ولا تطوعا ولا موضع اختيار، إنما هو الإيمان.. أو.. فلا إيمان.. وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. . ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون. إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض، والله ولي المتقين. .
والأمر إذن جد.. إنه أمر العقيدة من أساسها.. ثم هو أمر سعادة هذه البشرية أو شقائها. .
إن هذه البشرية - وهي من صنع الله - لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده - سبحانه - وقد جعل في منهجه وحده مفاتيح كل مغلق، وشفاء كل داء: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين. . إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم. . ولكن هذه البشرية لا تريد أن ترد القفل إلى صانعه، ولا أن تذهب بالمريض إلى مبدعه، ولا تسلك في أمر نفسها، وفي أمر إنسانيتها، وفي أمر سعادتها أو شقوتها.. ما تعودت أن تسلكه في أمر الأجهزة والآلات المادية الزهيدة التي تستخدمها في حاجاتها اليومية الصغيرة.. وهي تعلم أنها تستدعي لإصلاح الجهاز مهندس المصنع الذي صنع الجهاز. ولكنها لا تطبق هذه القاعدة على الإنسان نفسه، فترده إلى المصنع الذي منه خرج، ولا أن تستفتي المبدع الذي أنشأ هذا الجهاز العجيب، الجهاز الإنساني العظيم الكريم الدقيق اللطيف، الذي لا يعلم مساربه ومداخله إلا الذي أبدعه وأنشأه: إنه عليم بذات الصدور. ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟. .
ومن هنا جاءت الشقوة للبشرية الضالة. البشرية المسكينة الحائرة، البشرية التي لن تجد الرشد، ولن تجد الهدى، ولن تجد الراحة، ولن تجد السعادة، إلا حين ترد الفطرة البشرية إلى صانعها الكبير، كما ترد الجهاز الزهيد إلى صانعه الصغير !
ولقد كانت تنحية الإسلام عن قيادة البشرية حدثا هائلا في تاريخها، ونكبة قاصمة في حياتها، نكبة لم تعرف لها البشرية نظيرا في كل ما ألم بها من نكبات. .
لقد كان الإسلام قد تسلم القيادة بعد ما فسدت الأرض، وأسنت الحياة، وتعفنت القيادات، وذاقت البشرية الويلات من القيادات المتعفنة، و ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. .
تسلم الإسلام القيادة بهذا القرآن، وبالتصور الجديد الذي جاء به القرآن، وبالشريعة المستمدة من هذا التصور.. فكان ذلك مولدا جديدا للإنسان أعظم في حقيقته من المولد الذي كانت به نشأته. لقد أنشأ هذا القرآن للبشرية تصورا جديدا عن الوجود والحياة والقيم والنظم، كما حقق لها واقعا اجتماعيا فريدا، كان يعز على خيالها تصوره مجرد تصور، قبل أن ينشئه لها القرآن إنشاء.. نعم ! لقد كان هذا الواقع من النظافة والجمال، والعظمة والارتفاع، والبساطة واليسر، والواقعية والإيجابية، والتوازن والتناسق. .. بحيث لا يخطر للبشرية على بال، لولا أن الله أراده لها، وحققه في حياتها.. في ظلال القرآن، ومنهج القرآن، وشريعة القرآن.
ثم وقعت تلك النكبة القاصمة. ونحي الإسلام عن القيادة. نحي عنها لتتولاها الجاهلية مرة أخرى، في صورة من صورها الكثيرة. صورة التفكير المادي الذي تتعاجب به البشرية اليوم، كما يتعاجب الأطفال بالثوب المبرقش واللعبة الزاهية الألوان !
إن هناك عصابة من المضللين الخادعين أعداء البشرية. يضعون لها المنهج الإلهي في كفة والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى؛ ثم يقولون لها: اختاري !!! اختاري إما المنهج الإلهي في الحياة والتخلي عن كل ما أبدعته يد الإنسان في عالم المادة، وإما الأخذ بثمار المعرفة الإنسانية والتخلي عن منهج الله !!! وهذا خداع لئيم خبيث. فوضع المسألة ليس هكذا أبدا.. إن المنهج الإلهي ليس عدوا للإبداع الإنساني. إنما هو منشئ لهذا الإبداع وموجه له الوجهة الصحيحة.. ذلك كي ينهض الإنسان بمقام الخلافة في الأرض. هذا المقام الذي منحه الله له، وأقدره عليه، ووهبه من الطاقات المكنونة ما يكافئ الواجب المفروض عليه فيه، وسخر له من القوانين الكونية ما يعينه على تحقيقه، ونسق بين تكوينه وتكوين هذا الكون ليملك الحياة والعمل والإبداع.. على أن يكون الإبداع نفسه عبادة لله، ووسيلة من وسائل شكره على آلائه العظام، والتقيد بشرطه في عقد الخلافة، وهو أن يعمل ويتحرك في نطاق ما يرضي الله. فأما أولئك الذين يضعون المنهج الإلهي في كفة، والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى.. فهم سيئو النية، شريرون، يطاردون البشرية المتعبة الحائرة كلما تعبت من التيه والحيرة والضلال، وهمت أن تسمع لصوت الحادي الناصح، وأن تؤوب من المتاهة المهلكة وأن تطمئن إلى كنف الله. ..
وهنالك آخرون لا ينقصهم حسن النية، ولكن ينقصهم الوعي الشامل، والإدراك العميق.. هؤلاء يبهرهم ما كشفه الإنسان من القوى والقوانين الطبيعية، وتروعهم انتصارات الإنسان في عالم المادة. فيفصل ذلك البهر وهذه الروعة في شعورهم بين القوى الطبيعية والقيم الإيمانية، وعملها وأثرها الواقعي في الكون وفي واقع الحياة، ويجعلون للقوانين الطبيعية مجالا، وللقيم الإيمانية مجالا آخر، ويحسبون أن القوانين الطبيعية تسير في طريقها غير متأثرة بالقيم الإيمانية، وتعطي نتائجها سواء آمن الناس أم كفروا. اتبعوا منهج الله أم خالفوا عنه. حكموا بشريعة الله أم بأهواء الناس !
هذا وهم.. إنه فصل بين نوعين من السنن الإلهية هما في حقيقتهما غير منفصلين. فهذه القيم الإيمانية هي بعض سنن الله في الكون كالقوانين الطبيعية سواء بسواء. ونتائجها مرتبطة ومتداخلة، ولا مبرر للفصل بينهما في حس المؤمن وفي تصوره.. وهذا هو التصور الصحيح الذي ينشئه القرآن في النفس حين تعيش في ظلال القرآن. ينشئه وهو يتحدث عن أهل الكتب السابقة وانحرافهم عنها وأثر هذا الانحراف في نهاية المطاف: ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم. ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم. وينشئه وهو يتحدث عن وعد نوح لقومه: فقلت: استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا. . وينشئه وهو يربط بين الواقع النفسي للناس والواقع الخارجي الذي يفعله الله بهم إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. .
إن الإيمان بالله، وعبادته على استقامة، وإقرار شريعته في الأرض. .. كلها إنفاذ لسنن الله. وهي سنن ذات فاعلية إيجابية، نابعة من ذات المنبع الذي تنبثق منه سائر السنن الكونية التي نرى آثارها الواقعية بالحس والاختبار.
ولقد تأخذنا في بعض الأحيان مظاهر خادعة لافتراق السنن الكونية، حين نرى أن اتباع القوانين الطبيعية يؤدي إلى النجاح مع مخالفة القيم الإيمانية.. هذا الافتراق قد لا تظهر نتائجه في أول الطريق، ولكنها تظهر حتما في نهايته.. وهذا ما وقع للمجتمع الإسلامي نفسه. لقد بدأ خط صعوده من نقطة التقاء القوانين الطبيعية في حياته مع القيم الإيمانية. وبدأ خط هبوطه من نقطة افتراقهما. وظل يهبط ويهبط كلما انفرجت زاوية الافتراق حتى وصل إلى الحضيض عندما أهمل السنن الطبيعية والقيم الإيمانية جميعا. .
وفي الطرف الآخر تقف الحضارة المادية اليوم. تقف كالطائر الذي يرف بجناح واحد جبار، بينما جناحه الآخر مهيض، فيرتقي في الإبداع المادي بقدر ما يرتكس في المعنى الإنساني. ويعاني من القلق والحيرة والأمراض النفسية والعصبية ما يصرخ منه العقلاء هناك.. لولا أنهم لا يهتدون إلى منهج الله وهو وحده العلاج والدواء.
إن شريعة الله للناس هي طرف من قانونه الكلي في الكون. فإنفاذ هذه الشريعة لا بد أن يكون له أثر إيجابي في التنسيق بين سيرة الناس وسيرة الكون.. والشريعة إن هي إلا ثمرة الإيمان لا تقوم وحدها بغير أصلها الكبير. فهي موضوعة لتنفذ في مجتمع مسلم، كما أنها موضوعة لتساهم في بناء المجتمع المسلم. وهي متكاملة مع التصور الإسلامي كله للوجود الكبير وللوجود الإنساني، ومع ما ينشئه هذا التصور من تقوى في الضمير، ونظافة في الشعور، وضخامة في الاهتمامات، ورفعة في الخلق، واستقامة في السلوك. .. وهكذا يبدو التكامل والتناسق بين سنن الله كلها سواء ما نسميه القوانين الطبيعية وما نسميه القيم الإيمانية.. فكلها أطراف من سنة الله الشاملة لهذا الوجود.
والإنسان كذلك قوة من قوى الوجود. وعمله وإرادته، وإيمانه وصلاحه، وعبادته ونشاطه. ... هي كذلك قوى ذات آثار إيجابية في هذا الوجود وهي مرتبطة بسنة الله الشاملة للوجود.. وكلها تعمل متناسقة، وتعطي ثمارها كاملة حين تتجمع وتتناسق، بينما تفسد آثارها وتضطرب وتفسد الحياة معها، وتنتشر الشقوة بين الناس والتعاسة حين تفترق وتتصادم: ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. . فالارتباط قائم وثيق بين عمل الإنسان وشعوره وبين ماجريات الأحداث في نطاق السنة الإلهية الشاملة للجميع. ولا يوحي بتمزيق هذا الارتباط، ولا يدعو إلى الإخلال بهذا التناسق، ولا يحول بين الناس وسنة الله الجارية، إلا عدو للبشرية يطاردها دون الهدى، وينبغي لها أن تطارده، وتقصيه من طريقها إلى ربها الكريم. .
هذه بعض الخواطر والانطباعات من فترة الحياة في ظلال القرآن. لعل الله ينفع بها ويهدي. وما تشاءون إلا أن يشاء الله.
{بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ}
مقدمة السورة:
الفاتحة مكية وآياتها سبع
يردد المسلم هذه السورة القصيرة ذات الآيات السبع، سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة على الحد الأدنى، وأكثر من ضعف ذلك إذا هو صلى السنن، وإلى غير حد إذا هو رغب في أن يقف بين يدي ربه متنفلا، غير الفرائض والسنن. ولا تقوم صلاة بغير هذه السورة لما ورد في الصحيحين عن رسول الله ﷺ من حديث عبادة بن الصامت: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " .
إن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية، وكليات التصور الإسلامي، وكليات المشاعر والتوجيهات، ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة، وحكمة بطلان كل صلاة لا تذكر فيها. .
بسم الله الرحمن الرحيم:
تبدأ السورة: (بسم الله الرحمن الرحيم). . ومع الخلاف حول البسملة: أهي آية من كل سورة أم هي آية من القرآن تفتتح بها عند القراءة كل سورة، فإن الأرجح أنها آية من سورة الفاتحة، وبها تحتسب آياتها سبعا. وهناك قول بأن المقصود بقوله تعالى: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم). . هو سورة الفاتحة بوصفها سبع آيات (من المثاني) لأنها يثنى بها وتكرر في الصلاة.
والبدء باسم الله هو الأدب الذي أوحى الله لنبيه ﷺ في أول ما نزل من القرآن باتفاق، وهو قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك. . .). . وهو الذي يتفق مع قاعدة التصور الإسلامي الكبرى من أن الله (هو الأول والآخر والظاهر والباطن). . فهو - سبحانه - الموجود الحق الذي يستمد منه كل موجود وجوده، ويبدأ منه كل مبدوء بدأه. فباسمه إذن يكون كل ابتداء. وباسمه إذن تكون كل حركة وكل اتجاه.
ووصفه - سبحانه - في البدء بالرحمن الرحيم، يستغرق كل معاني الرحمة وحالاتها. . وهو المختص وحده باجتماع هاتين الصفتين، كما أنه المختص وحده بصفة الرحمن. فمن الجائز أن يوصف عبد من عباده بأنه رحيم، ولكن من الممتنع من الناحية الإيمانية أن يوصف عبد من عباده بأنه رحمن. ومن باب أولى أن تجتمع له الصفتان. . ومهما يختلف في معنى الصفتين: أيتهما تدل على مدى أوسع من الرحمة، فهذا الاختلاف ليس مما يعنينا تقصيه في هذه الظلال؛ إنما نخلص منه إلى استغراق هاتين الصفتين مجتمعتين لكل معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها.
وإذا كان البدء باسم الله وما ينطوي عليه من توحيد الله وأدب معه يمثل الكلية الأولى في التصور الإسلامي. . فإن استغراق معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها في صفتي الرحمن الرحيم يمثل الكلية الثانية في هذا التصور، ويقرر حقيقة العلاقة بين الله والعباد.
واللَّهُ أسْماكَ سُمًى مُبارَكًا... آثَرَكَ اللَّهُ بِهِ إيَثارَكا
والقَلْبُ بَعِيدٌ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، واشْتِقاقُهُ مِنَ السُّمُوِّ لِأنَّهُ رِفْعَةٌ لِلْمُسَمّى وشِعارٌ لَهُ. ومِنَ السِّمَةِ عِنْدَ الكُوفِيِّينَ، وأصْلُهُ وسَمَ حُذِفَتِ الواوُ وعُوِّضَتْ عَنْها هَمْزَةُ الوَصْلِ لِيَقِلَّ إعْلالُهُ. ورُدَّ بِأنَّ الهَمْزَةَ لَمْ تُعْهَدْ داخِلَةً عَلى ما حُذِفَ صَدْرُهُ في كَلامِهِمْ، ومِن لُغاتِهِ سِمٌ وسُمٌ قالَ:إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَلَيْكُما
وَإنْ أُرِيدَ بِهِ الصِّفَةُ، كَما هو رَأْيُ الشَّيْخِ أبِي الحَسَنِ الأشْعَرِيِّ، انْقَسَمَ انْقِسامَ الصِّفَةِ عِنْدَهُ: إلى ما هو نَفْسُ المُسَمّى، وإلى ما هو غَيْرُهُ، وإلى ما لَيْسَ هو ولا غَيْرَهُ. وإنَّما قالَ: بِسْمِ اللَّهِ ولَمْ يَقُلْ بِاللَّهِ، لِأنَّ التَّبَرُّكَ والِاسْتِعانَةَ بِذِكْرِ اسْمِهِ. أوْ لِلْفَرْقِ بَيْنَ اليَمِينِ والتَّيَمُّنِ. ولَمْ تُكْتَبِ الألِفُ عَلى ما هو وضْعُ الخَطِّ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ، وطُوِّلَتِ الباءُ عِوَضًا عَنْها.كَحِلْفَةٍ مِن أبِي رَباحٍ... ∗∗∗ يُشْهِدُها لاهَهُ الكُبارُ
وَقِيلَ عَلَمٌ لِذاتِهِ المَخْصُوصَةِ لِأنَّهُ يُوصَفُ ولا يُوصَفُ بِهِ، ولِأنَّهُ لا بُدَّ لَهُ مِنِ اسْمٍ تَجْرِي عَلَيْهِ صِفاتُهُ ولا يَصْلُحُ لَهُ مِمّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ سِواهُ، ولِأنَّهُ لَوْ كانَ وصْفًا لَمْ يَكُنْ قَوْلُ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، تَوْحِيدًا مِثْلَ: لا إلَهَ إلّا الرَّحْمَنُ، فَإنَّهُ لا يَمْنَعُ الشَّرِكَةَ، والأظْهَرُ أنَّهُ وصْفٌ في أصْلِهِ لَكِنَّهُ لَمّا غَلَبَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لا يُسْتَعْمَلُ في غَيْرِهِ وصارَ لَهُ كالعَلَمِ مِثْلَ: الثُّرَيّا والصَّعِقِ أُجْرِيَ مَجْراهُ في إجْراءِ الأوْصافِ عَلَيْهِ، وامْتِناعِ الوَصْفِ بِهِ، وعَدَمِ تَطَرُّقِ احْتِمالِ الشَّرِكَةِ إلَيْهِ، لِأنَّ ذاتَهُ مِن حَيْثُ هو بِلا اعْتِبارٍ أمْرٌ آخَرُ حَقِيقِيٌّ أوْ غَيْرُهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ لِلْبَشَرِ، فَلا يُمْكِنُ أنْ يُدَلَّ عَلَيْهِ بِلَفْظٍ، ولِأنَّهُ لَوْ دَلَّ عَلى مُجَرَّدِ ذاتِهِ المَخْصُوصَةِ لَما أفادَ ظاهِرُ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿وَهُوَ اللَّهُ في السَّماواتِ﴾ مَعْنًى صَحِيحًا، ولِأنَّ مَعْنى الِاشْتِقاقِ هو كَوْنُ أحَدِ اللَّفْظَيْنِ مُشارِكًا لِلْآخَرِ في المَعْنى والتَّرْكِيبِ، وهو حاصِلٌ بَيْنَهُ وبَيْنَ الأُصُولِ المَذْكُورَةِ، وقِيلَ أصْلُهُ لاها بِالسُّرْيانِيَّةِ فَعُرِّبَ بِحَذْفِ الألِفِ الأخِيرَةِ، وإدْخالِ اللّامِ عَلَيْهِ، وتَفْخِيمِ لامِهِ إذا انْفَتَحَ ما قَبْلَهُ أوِ انْضَمَّ سُنَّةً، وقِيلَ مُطْلَقًا، وحَذْفُ ألِفِهِ لَحْنٌ تُفْسُدُ بِهِ الصَّلاةُ، ولا يَنْعَقِدُ بِهِ صَرِيحُ اليَمِينِ، وقَدْ جاءَ لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ:ألا لا بارَكَ اللَّهُ في سُهَيْلٍ... ∗∗∗ إذا ما اللَّهُ بارَكَ في الرِّجالِ
وَ (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) اسْمانِ بُنِيا لِلْمُبالَغَةِ مِن رَحِمَ، كالغَضْبانِ مِن غَضِبَ، والعَلِيمِ مِن عَلِمَ، والرَّحْمَةُ في اللُّغَةِ: رِقَّةُ القَلْبِ، وانْعِطافٌ يَقْتَضِي التَّفَضُّلَ والإحْسانَ، ومِنهُ الرَّحِمُ لِانْعِطافِها عَلى ما فِيها. وأسْماءُ اللَّهِ تَعالى إنَّما تُؤْخَذُ بِاعْتِبارِ الغاياتِ الَّتِي هي أفْعالٌ دُونَ المَبادِي الَّتِي تَكُونُ انْفِعالاتٍ. و (الرَّحْمَنِ) أبْلَغُ مِنَ (الرَّحِيمِ)، لِأنَّ زِيادَةَ البِناءِ تَدُلُّ عَلى زِيادَةِ المَعْنى كَما في قَطَّعَ وقَطَعَ وكُبّارٍ وكِبارٍ، وذَلِكَ إنَّما يُؤْخَذُ تارَةً بِاعْتِبارِ الكَمِّيَّةِ، وأُخْرى بِاعْتِبارِ الكَيْفِيَّةِ، فَعَلى الأوَّلِ قِيلَ: يا رَحْمَنَ الدُّنْيا لِأنَّهُ يَعُمُّ المُؤْمِنَ والكافِرَ، ورَحِيمَ الآخِرَةِ لِأنَّهُ يَخُصُّ المُؤْمِنَ، وعَلى الثّانِي قِيلَ: يا رَحْمَنَ الدُّنْيا والآخِرَةِ، ورَحِيمَ الدُّنْيا، لِأنَّ النِّعَمَ الأُخْرَوِيَّةَ كُلُّها جِسامٌ، وأمّا النِّعَمُ الدُّنْيَوِيَّةُ فَجَلِيلَةٌ وحَقِيرَةٌ، وإنَّما قُدِّمَ والقِياسُ يَقْتَضِي التَّرَقِّيَ مِنَ الأدْنى إلى الأعْلى، لِتَقَدُّمِ رَحْمَةِ الدُّنْيا، ولِأنَّهُ صارَ كالعِلْمِ مِن حَيْثُ إنَّهُ لا يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهُ لِأنَّ مَعْناهُ المُنْعِمُ الحَقِيقِيُّ البالِغُ في الرَّحْمَةِ غايَتَها، وذَلِكَ لا يَصْدُقُ عَلى غَيْرِهِ لِأنَّ مَن عَداهُ فَهو مُسْتَعِيضٌ بِلُطْفِهِ وإنْعامِهِ يُرِيدُ بِهِ جَزِيلَ ثَوابٍ أوْ جَمِيلَ ثَناءٍ أوْ مَزِيجَ رِقَّةِ الجِنْسِيَّةِ أوْ حُبَّ المالِ عَنِ القَلْبِ، ثُمَّ إنَّهُ كالواسِطَةِ في ذَلِكَ لِأنَّ ذاتَ النِّعَمِ ووُجُودَها، والقُدْرَةَ عَلى إيصالِها، والدّاعِيَةَ الباعِثَةَ عَلَيْهِ، والتَّمَكُّنَ مِنَ الِانْتِفاعِ بِها، والقُوى الَّتِي بِها يَحْصُلُ الِانْتِفاعُ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن خَلْقِهِ لا يَقْدِرُ عَلَيْها أحَدٌ غَيْرُهُ. أوْ لِأنَّ الرَّحْمَنَ لَمّا دَلَّ عَلى جَلائِلِ النِّعَمِ وأُصُولِها ذَكَرَ الرَّحِيمَ لِيَتَناوَلَ ما خَرَجَ مِنها، فَيَكُونَ كالتَّتِمَّةِ والرَّدِيفِ لَهُ. أوْ لِلْمُحافَظَةِ عَلى رُءُوسِ الآيِ.واللَّهُ أسْماكَ سُمًى مُبارَكًا ∗∗∗ آثَرَكَ اللَّهُ بِهِ إيثارَكا
والقَلْبُ بَعِيدٌ؛ غَيْرُ مُطَّرِدٍ؛ واشْتِقاقُهُ مِنَ السُّمُوِّ لِأنَّهُ رَفْعٌ لِلْمُسَمّى؛ وتَنْوِيهٌ لَهُ؛ وعِنْدَ الكُوفِيِّينَ مِنَ السِّمَةِ؛ وأصْلُهُ "وَسْمٌ"؛ حُذِفَتِ الواوَ؛ وعَوَّضَتْ عَنْها هَمْزَةُ الوَصْلِ؛ لِيَقِلَّ إعْلالُها؛ ورُدَّ عَلَيْهِ بِأنَّ الهَمْزَةَ لَمْ تُعْهَدْ داخِلَةً عَلى ما حُذِفَ صَدْرُهُ في كَلامِهِمْ؛ ومِن لُغاتِهِمْ "سِمٌ"؛ و"سُمٌ"؛ قالَ:بِاسْمِ الَّذِي في كُلِّ سُورَةٍ سِمُهْ ∗∗∗
وَإنَّما لَمْ يَقُلْ: "بِاللَّهِ"؛ لِلْفَرْقِ بَيْنَ اليَمِينِ؛ والتَّيَمُّنِ؛ أوْ لِتَحْقِيقِ ما هو المَقْصُودُ بِالِاسْتِعانَةِ هَهُنا؛ فَإنَّها تَكُونُ تارَةً بِذاتِهِ (تَعالى) - وحَقِيقَتُها طَلَبُ المَعُونَةِ؛ عَلى إيقاعِ الفِعْلِ وإحْداثِهِ؛ أيْ "إفاضَةُ القُدْرَةِ"؛ المُفَسَّرَةُ عِنْدَ الأُصُولِيِّينَ مِن أصْحابِنا بِما يَتَمَكَّنُ بِهِ العَبْدُ مِن أداءِ ما لَزِمَهُ؛ المُنْقَسِمَةُ إلى مُمْكِنَةٍ؛ ومُيَسَّرَةٍ؛ وهي المَطْلُوبَةُ بِـ "إيّاكَ نَسْتَعِينُ" -؛ وتارَةً أُخْرى بِاسْمِهِ - عَزَّ وعَلا - وحَقِيقَتُها طَلَبُ المَعُونَةِ في كَوْنِ الفِعْلِ مُعْتَدًّا بِهِ شَرْعًا؛ فَإنَّهُ ما لَمْ يُصَدَّرْ بِاسْمِهِ (تَعالى) يَكُونُ بِمَنزِلَةِ المَعْدُومِ؛ ولَمّا كانَتْ كُلُّ واحِدَةٍ مِنَ الِاسْتِعانَتَيْنِ واقِعَةً؛ وجَبَ تَعْيِينُ المُرادِ بِذِكْرِ الِاسْمِ؛ وإلّا فالمُتَبادَرُ مِن قَوْلِنا "بِاللَّهِ"؛ عِنْدَ الإطْلاقِ؛ لا سِيَّما عِنْدَ الوَصْفِ بِـ "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" هي الِاسْتِعانَةُ الأُولى؛ إنْ قِيلَ: فَلْيُحْمَلِ الباءُ عَلى التَّبَرُّكِ؛ ولْيُسْتَغْنَ عَنْ ذِكْرِ الِاسْمِ لِما أنَّ التَّبَرُّكَ لا يَكُونُ إلّا بِهِ؛ قُلْنا: ذاكَ فَرْعُ كَوْنِ المُرادِ بِـ "اللَّهِ" هو الِاسْمُ؛ وهَلِ التَّشاجُرُ إلّا فِيهِ؟! فَلا بُدَّ مِن ذِكْرِ الِاسْمِ؛ لِيَنْقَطِعَ احْتِمالُ إرادَةِ المُسَمّى؛ ويَتَعَيَّنُ حَمْلُ الباءِ عَلى الِاسْتِعانَةِ الثّانِيَةِ؛ أوِ التَّبَرُّكِ؛ وإنَّما لَمْ يُكْتَبِ الألِفَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ؛ قالُوا: وطُوِّلَتِ الباءُ عِوَضًا عَنْها.ألا لا بارَكَ اللَّهُ في سُهَيْلٍ ∗∗∗ إذا ما اللَّهُ بارَكَ في الرِّجالِ
وَ ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾؛ صِفَتانِ مَبْنِيَّتانِ مِن "رَحِمَ"؛ بَعْدَ جَعْلِهِ لازِمًا بِمَنزِلَةِ الغَرائِزِ؛ بِنَقْلِهِ إلى "رَحُمَ"؛ بِالضَّمِّ؛ كَما هو المَشْهُورُ؛ وقَدْ قِيلَ: إنَّ "الرَّحِيمِ" لَيْسَ بِصِفَةٍ مُشَبَّهَةٍ؛ بَلْ هي صِيغَةُ مُبالَغَةٍ؛ نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ؛ في قَوْلِهِمْ: هو رَحِيمٌ فُلانًا؛ والرَّحْمَةُ في اللُّغَةِ: رِقَّةُ القَلْبِ؛ والِانْعِطافُ؛ ومِنهُ "الرَّحِمُ"؛ لِانْعِطافِها عَلى ما فِيها؛ والمُرادُ هَهُنا: التَّفَضُّلُ؛ والإحْسانُ؛ وإرادَتُهُما؛ بِطَرِيقِ إطْلاقِ اسْمِ السَّبَبِ - بِالنِّسْبَةِ إلَيْنا - عَلى مُسَبِّبِهِ البَعِيدِ؛ أوِ القَرِيبِ؛ فَإنَّ أسْماءَ اللَّهِ (تَعالى) تُؤْخَذُ بِاعْتِبارِ الغاياتِ الَّتِي هي أفْعالٌ؛ دُونَ المَبادِئِ الَّتِي هي انْفِعالاتٌ؛ والأوَّلُ مِنَ الصِّفاتِ الغالِبَةِ؛ حَيْثُ لَمْ يُطْلَقْ عَلى غَيْرِهِ (تَعالى)؛ وإنَّما امْتَنَعَ صَرْفُهُ إلْحاقًا لَهُ بِالأغْلَبِ في بابِهِ مِن غَيْرِ نَظَرٍ إلى الِاخْتِصاصِ العارِضِ؛ فَإنَّهُ كَما حُظِرَ وُجُودُ "فَعْلى"؛ حُظِرَ وُجُودُ "فَعْلانَةٌ"؛ فاعْتِبارُهُ يُوجِبُ اجْتِماعَ الصَّرْفِ؛ وعَدَمِهِ؛ فَلَزِمَ الرُّجُوعُ إلى أصْلِ هَذِهِ الكَلِمَةِ قَبْلَ الِاخْتِصاصِ بِأنْ تُقاسَ إلى نَظائِرِها مِن بابِ "فَعَلَ يَفْعَلُ"؛ فَإذا كانَ كُلُّها مَمْنُوعَةٌ مِنَ الصَّرْفِ - لِتَحَقُّقِ وُجُودِ "فَعْلى" فِيها - عُلِمَ أنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ أيْضًا في أصْلِها مِمّا تَحَقَّقَ فِيها وُجُودُ "فَعْلى"؛ فَتُمْنَعُ مِنَ الصَّرْفِ؛ وفِيهِ مِنَ المُبالَغَةِ ما لَيْسَ في "الرَّحِيمِ"؛ ولِذَلِكَ قِيلَ: يا رَحْمَنَ الدُّنْيا والآخِرَةِ؛ ورَحِيمَ الدُّنْيا؛ وتَقْدِيمُهُ - مَعَ كَوْنِ القِياسِ تَأْخِيرَهُ - رِعايَةٌ لِأُسْلُوبِ التَّرَقِّي إلى الأعْلى؛ كَما في قَوْلِهِمْ: فُلانٌ عالِمٌ نِحْرِيرٌ؛ وشُجاعٌ باسِلٌ؛ وجَوادٌ فَيّاضٌ؛ لِأنَّهُ بِاخْتِصاصِهِ بِهِ عَزَّ وجَلَّ صارَ حَقِيقًا بِأنْ يَكُونَ قَرِينًا لِلِاسْمِ الجَلِيلِ الخاصِّ بِهِ (تَعالى)؛ ولِأنَّ ما يَدُلُّ عَلى جَلائِلِ النِّعَمِ وعَظائِمِها وأُصُولِها أحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ مِمّا يَدُلُّ عَلى دَقائِقِها وفُرُوعِها؛ وإفْرادُ الوَصْفَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ بِالذِّكْرِ لِتَحْرِيكِ سِلْسِلَةِ الرَّحْمَةِ.بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (1)
سورة الفاتحة هي السورة الوحيدة التي أمر الإسلام أتباعه أن يقرءوها في كل صلاة. وفي جميع الركعات، وفي كل الأوقات، ولهذا أصبح حفظها ميسورا لكل مؤمن.
وهذه السورة على صغر حجمها، وقلة آياتها، قد اشتملت بوجه إجمالي على مقاصد الدين من توحيد، وتعبد، وأحكام، ووعد ووعيد.
ونرى من الخير قبل أن نبدأ في تفسيرها بالتفصيل، أن نمهد لذلك بالكلام عما يأتي:
أولا: متى نزلت سورة الفاتحة؟
للإجابة على هذا السؤال نقول: إن الرأي الراجح بين المحققين من العلماء أنها نزلت بمكة، بل هي من أوائل ما نزل من القرآن بمكة.
وقيل: إنها مدنية. وقيل: إنها نزلت مرتين مرة بمكة حين فرضت الصلاة ومرة بالمدينة حين حولت القبلة.
قال القرطبي: الأول أصح لقوله- تعالى- في سورة الحجر: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وسورة الحجر مكية بالإجماع. ولا خلاف في أن فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنه لم يكن في الإسلام قط صلاة بغير الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يدل على ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب . وهذا خبر عن الحكم لا عن الابتداء .
ثانيا: عدد آياتها: وهي سبع آيات لقوله- تعالى-: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ. قال العلماء: السبع المثاني هي الفاتحة.
وقال ابن كثير: هي سبع آيات بلا خلاف. وقال عمرو بن عبيد: هي ثماني آيات لأنه جعل إِيَّاكَ نَعْبُدُ آية. وقال حسين الجعفي: هي ست آيات وهذان القولان شاذان .
ثالثا: أسماؤها: لسورة الفاتحة أسماء كثيرة من أشهرها:
1- الفاتحة أو فاتحة الكتاب، وسميت بذلك لأنه تفتتح قراءة القرآن بها لفظا. وتفتتح بها الكتابة في المصحف خطا، وتفتتح بها الصلوات، وإن لم تكن هي أول ما نزل من القرآن. وقد اشتهرت بهذا الاسم في أيام النبوة.
وقد أصبح هذا الاسم علما بالغلبة لتلك الطائفة من الآيات التي مبدؤها الْحَمْدُ لِلَّهِ..
ونهايتها.. وَلَا الضَّالِّينَ.
2- أم القرآن أو الكتاب وسميت بذلك لاشتمالها إجمالا على المقاصد التي ذكرت فيه تفصيلا، أو لاشتمالها على ما فيه من الثناء على الله بما هو أهله، والتعبد بأمره ونهيه، وبيان وعده ووعيده، أو على جملة معانيه من الحكم النظرية، والأحكام العملية التي هي سلوك الصراط المستقيم، والاطلاع على معارج السعداء ومنازل الأشقياء.
قال ابن جرير: والعرب تسمى كل أمر جامع أمّا، وكل مقدم له توابع تتبعه أما فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ: أم الرأس . وتسمى لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها أما .
3- السبع المثاني جمع مثنى كفعلي اسم مكان. أو مثنى- بالتشديد- من التثنية على غير قياس. وسميت بذلك لأنها سبع آيات في الصلاة، أى تكرر فيها أخرج الإمام أحمد، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: هي أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي القرآن العظيم .
4- وتسمى- أيضا- سورة الحمد . 5- و الكنز . 6- و الواقية .
7- و الشفاء ، لحديث. هي الشفاء من كل داء.
8- و الكافية لأنها تكفي عن سواها ولا يكفى سواها عنها.
9- و الأساس . 10- و الرقية .
هذا، وقد ذكر القرطبي للفاتحة اثنى عشر اسما، كما ذكر السيوطي لها في كتابه الإتقان خمسة وعشرين اسما.
رابعا: فضلها: ورد في فضل سورة الفاتحة أحاديث كثيرة منها:
ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد بن المعلى- رضي الله عنه- قال:
كنت أصلي في المسجد، فدعاني النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم أجبه فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلّي.
فقال: ألم يقل الله: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ.
ثم قال لي: لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد . ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج، قلت: يا رسول الله. ألم تقل: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن. قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته .
وروى مسلّم والنسائي، عن ابن عباس، قال:
بينما جبريل قاعد عند النبي صلّى الله عليه وسلّم سمع نقيضا من فوقه- أي: صوتا- فرفع رأسه فقال:
هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم. فسلّم وقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما، ولم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته .
وروى مسلّم عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج (ثلاثا) : غير تمام فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: قال الله- تعالى-: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قال الله تعالى: أثنى علي عبدي. وإذا قال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال الله: مجدني عبدي. فإذا قال:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.
قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل .
وأخرج الإمام أحمد في مسنده، عن عبد الله بن جابر، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: ألا أخبرك بأخير سورة في القرآن؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: اقرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ حتى تختمها .
تلك هي بعض الأحاديث التي وردت في فضل هذه السورة الكريمة.
وقد ذكر العلماء أنه يسن للمسلّم قبل القراءة أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، استجابة لقوله- تعالى- فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ .
ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : ألتجئ إلى الله وأتحصن به، واستجير بجنابه من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي.
قال ابن كثير: والشيطان في لغة العرب كل متمرد من الجن والإنس والدواب وكل شيء.
وهو مشتق من شطن إذا بعد، فهو بعيد بطبعه عن طباع الشر، وبعيد بفسقه عن كل خير.
وقيل: مشتق من شاط لأنه مخلوق من نار. والأول أصح إذ عليه يدل كلام العرب، فهم:
يقولون تشيطن فلان إذا فعل أفعال الشيطان، ولو كان من شاط. لقالوا: تشيط، فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح .
والرجيم: فعيل بمعنى مفعول أي أنه مرجوم مطرود من رحمة الله ومن كل خير، وقيل:
رجيم بمعنى راجم لأنه يرجم الناس بالوساوس والشكوك.
قال بعض العلماء: وإنما خصت القراءة بطلب الاستعاذة مع أنه قد أمر بها على وجه العموم في جميع الشئون، لأن القرآن مصدر الهداية والشيطان مصدر الضلال، فهو يقف للإنسان بالمرصاد في هذا الشأن على وجه خاص، فيثير أمامه ألوانا من الشكوك فيما يقرأ، وفيما يفيد من قراءته، وفيما يقصد بها، فيفوت عليه الانتفاع بهدى الله وآياته، فعلمنا الله أن نتقي ذلك كله بهذه الاستعاذة التي هي في الواقع عنوان صدق، وتعبير حق، عن امتلاء قلب المؤمن بمعنى اللجوء إلى الله، وقوة عزيمته في طرد الوساوس والشكوك، واستقبال الهداية بقلب طاهر،وعقل واع، وإيمان ثابت .
قال القرطبي: وقد أجمع العلماء على أن التعوذ ليس من القرآن ولا آية منه، وهو قول القارئ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
والآن وبعد هذا التمهيد الموجز الذي تكلمنا فيه عن نزول سورة الفاتحة، وعن عدد آياتها، وعن أشهر أسمائها، وعن بعض الأحاديث التي وردت في فضلها نحب أن نبدأ في تفسير السورة الكريمة فنقول- وبالله التوفيق-:
{ بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }
الاسم: اللفظ الذى يدل على ذات أو معنى. وقد اختلف النحويون في اشتقاقه على وجهين، فقال البصريون: هو مشتق من السمو، وهو العلو والرفعة، فقيل: اسم، لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به.
وقال الكوفيون: إنه مشتق من السمة وهي العلامة، لأن الاسم علامة لمن وضع له، فأصل اسم على هذا وسم .
ويرى المحققون أن رأي البصريين أرجح، لأنه يقال في تصغير اسم سُمىَ، وفي جمعه أسماء، والتصغير والجمع يردان الأشياء إلى أصولها. ولو كان أصله وسم - كما قال الكوفيون - لقيل في جمعه: أوسام، وفي تصغيره وسيم.
ولفظ الجلالة وهو الله علم على ذات الخالق - عز وجل - تفرد به - سبحانه - ولا يطلق على غيره، ولا يشاركه فيه أحد.
قال القرطبي: قوله الله هذا الاسم أكبر أسمائه - سبحانه - وأجمعها حتى قال بعض العلماء: إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره، ولذلك لم يثن ولم يجمع: فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإِلهية، المنعوت بنعوت الربوبيه، المنفرد بالوجود الحقيقي، لا إله إلا هو - سبحانه -
و { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } صفتان مشتقتان من الرحمة. والرحمة في أصل اللغة: رقة في القلب تقتضي الإِحسان، وهذا المعنى لا يليق أن يكون وصفاً لله - تعالى-، ولذا فسرها بعض العلماء بإرادة الإِحسان. وفسرها آخرون بالإِحسان نفسه.
والموافق لمذهب السلف أن يقال: هي صفة قائمة بذاته - تعالى - لا نعرف حقيقتها، وإنما نعرف أثرها الذي هو الإِحسان.
وقد كثرت أقوال المفسرين في العلاقة بين هاتين الصفتين، فبعضهم يرى أن { ٱلرَّحْمـٰنِ } هو المنعم على جميع الخلق. وأن { ٱلرَّحِيمِ } هو المنعم على المؤمنين خاصه. ويرى آخرون أن { ٱلرَّحْمـٰنِ } هو المنعم بجلائل النعم، وأن { ٱلرَّحِيمِ } هو المنعم بدقائقها.
ويرى فريق ثالث أن الوصفين بمعنى واحد وأن الثاني منهما تأكيد للأول. والذى يراه المحققون من العلماء أن الصفتين ليستا بمعنى واحد، بل روعي فب كل منهما معنى لم يراع في الآخر، فالرحمن بمعنى عظيم الرحمة، لأن فعلان صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمته، ويلزم منه الدوام كغضبان وسكران. والرحيم بمعنى دائم الرحمة، لأن صيغته فعيل تستعمل في الصفات الدائمة ككريم وظريف. فكأنه قيل: العظيم الرحمة الدائمة.
أو أن { ٱلرَّحْمـٰنِ } صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة والإِحسان. و { ٱلرَّحِيمِ } صفة فعل تدل على وصول الرحمة والإِحسان وتعديهما إلى المنعم عليه.
ولعل مما يؤيد ذلك أن لفظ الرحمن لم يذكر في القرآن إلا مجرى عليه الصفات كما هو الشأنِ في أسماء الذات. قال - تعالى-:
{ ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } و
{ ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ }
{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ }
وهكذا...
أما لفظ الرحيم فقد كثر في القرآن استعماله وصفاً فعلياً، وجاء في الغالب بأسلوب التعدية والتعلق بالمنعم عليه. قال - تعالى -
{ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }
{ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً }
{ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً }
إلخ.
قال بعض العلماء وهذا الرأي في نظرنا هو أقوى الآراء، فإن تخصيص أحد الوصفين بدقائق النعم أو ببعض المنعم عليهم لا دليل عليه، كما أنه ليس مستساغاً أن يقال في القرآن: إن كلمة ذكرت بعد أخرى لمجرد تأكيد المعنى المستفاد منها .
والجار والمجرور بسم متعلق بمحذوف تقديره ابتدئ.
والمعنى: ابتدئ قراءتي متبركاً ومتيمناً باسم الله الذى هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، والذى رحمته وسعت كل شيء، وأتبرأ مما كان يفعله المشركون والضالون، من ابتدائهم قراءتهم وأفعالهم باسم اللات أو باسم العزى أو باسم غيرهما من الآلهة الباطلة.
هذا وقد أجمع العلماء على أن البسملة جزء آية من سورة النمل فى قوله - تعالى -
{ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }
ثم اختلفوا بعد ذلك في كونها آية مستقلة أنزلت للفصل بين السور مرة واحدة، أو هى آية من سورة الفاتحة ومن كل سورة ألخ.
فبعضهم يرى أن البسملة آية من الفاتحة ومن كل سورة، ومن حججهم أن السلف قد أثبتوها في المصحف مع الأمر بتجريد القرآن مما ليس منه، ولذا لم يكتبوا آمين . فثبت بهذا أن البسملة جزء من الفاتحة ومن كل سورة.
وبهذا الرأي قال ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وسعيد بن جبير والشافعي، وأحمد في أحد قوليه.
ويرى آخرون أن البسملة ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وقالوا: إنها آية فذة. من القرآن أنزلت للفصل والتبرك للابتداء بها، ومن حججهم أنها لو كانت آية من الفاتحة ومن كل سورة، لما اختلف الناس في ذلك، ولما اضطربت أقوالهم في كونها آية من كل سورة أو من الفاتحة فقط.
وكما وقع الخلاف بين العلماء في كونها آية مستقلة أو آية من كل سورة، فقد وقع الخلاف بينهم - أيضاً - في وجوب قراءتها فى الصلاة، وفي الجهر بها أو الإِسرار إذا قرئت.
وتحقيق القول في ذلك مرجعه إلى كتب الفقه، وإلى كتب التفسير التي عنيت بتفسير آيات الأحكام.
عَلَى رَأْسِهِ أُمٌّ لَنَا نَقْتَدِي بِهِ ∗∗∗ ................................
يعني علامة نتجه إليها ونقصدها، الفاتحة عندما تقول: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ويش معناها؟ مَن يجيبني على معنى ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؟ كلنا نقرؤها يا إخواني.أَلَا لَيْتَ الشَّبَابَ يَعُودُ يَوْمًا ∗∗∗ فَأُخْبِرَهُ بِمَـــــــا فَعَـــــــلَالْمَشِيـــــــــبُ
ممكنا ولَّا غير ممكن؟ لكان ممكنًا؛ لأني قلت لواحد: احلق لحيتك وتصير شاب، وهذا لا يمكن، ولكنه يستفيد من ذلك مخالفة طريق الرسل وموافقة طريق المشركين والمجوس، ثم إنه ليأخذني العجب يا إخواني أن يظهر قوم على دينهم وعلى عاداتهم بما يسمى (الخنافس)، والحمد لله الناس دول الخنافس الحقيقية ما هي موجودة في الدور الآن، لكن هؤلاء وُجدوا بيننا الخنافس، يخلي الإنسان رأسه ويخلي عوارضه والله ما أدري كله ولا بعضه.{بِسْمِ اللهِ الرحمن الرَّحِيمِ} قال ابن رشد في البيان (في رسم تدريسه): لم يختلف قول مالك: إنّها لا تقرأ في الفريضة لا في أوّل الحمد، ولا في (أول) السورة التي بعدها لأنها ليست آية منها.
(وليست) من القرآن إلا في سورة النمل: وإنما ثبت في المصحف الاستفتاح بها.
قال: ويتحصل في قراءتها في أول الحمد في الفريضة أربعة (وجوه): قراءتها للشافعي - وكراهتها لمالك - واستحبابها لمحمد ابن مسلمة - والرابع قراءتها سرّا استحبابا -.
وأما النافلة فلمالك فيها في الحمد قولان، وله فيما عدا الحمد ثلاثة، فله في هذه الرواية القراءة، وله في رواية أشهب عنه عدمها إلا أن يقرأ القرآن في صلاته عرضا، وفي المدونة أنّه يخيّر - انتهى.
قال القاضي عماد الدين: ذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها ليست آية من الفاتحة ولا من أول كل سورة وذهب الشافعي وجماعة إلى أنها آية من الفاتحة وعنه في كونها آية من (أول) كل سورة قولان: ((فمن أصحابه من حمل القولين على أنها من القرآن في أول كل سورة، ومنهم من حملها على أنها هل هي آية برأسها في أول كل سورة أو هي مع كل آية من أول كل سورة آية؟ ونقل السهيلي)) في الروض الأنف (عن) داود وأبي حنيفة أنها آية مقترنة مع السورة.
ابن عرفة: قيل البسملة آية من كل سورة.
فقال الغزالي في المستصفى: معناه أنها آية مع كل سورة وليست جزءا من كل سورة.
وقال غيره: معناه أنها آية أي جزء من كل سورة.
وورد في الحديث عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: (ما كنا نعلم تمام السورة إلا بالبسملة) فظاهره (أنها) تكرر إنزالها مع كل سورة مثل {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وظاهر غيره من الأحاديث أنه لم يتكَرر فإذا قلنا: إنها مع أول كل سورة فكيف (تصح) قراءة ورش بإسقاطها.
قال: لكن يجاب بما (قال) ابن الحاجب بتعارض الشبهات: أي أن كل واحد من الخصمين يرى أن ما أتى به خصمه شبهة أعني دليلا باطلا وهما قويان فتعارضت الشبهات.
قال ابن عرفة: ولا بد من زيادة ضميمة أخرى وهي الإجماع على أنها قرآن من حيث الجملة، فلذلك صح التعارض.
أجاب ابن عرفة بأن التأكيد شائع في كلام العرب وليس فيه تحصيل الحاصل.
فإن قلت: يلزم عليه (أنْ تَكُون) الفاتحة في القرآن مرتين لتزولها مرتين وكان (تكرر) كما (تكرر) {فَبِأَيّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذّبَان}.
فإن قلنا: إنما ذلك إذا نزلت على أنها غير الأولى.
فقد ذكر الأصوليون أن الغيرين يصدقان على المثلين أما إذا نزلت على أنها الأولى بعينها فلا يلزم ذلك فيها.
زاد القاضي العماد في إبطال النزول بمكة والمدينة أنه يلزم منه أن يكون كلما نزل بمكة نزل المدينة مرة أخرى، لأن جبريل عليه السلام كان (يعرّضه) القرآن في كل سنة مرة، وفي الأخيرة مرتين فيكون ذلك إنزالا آخر وهذا لا يقوله أحد.
وقال: ولعلهم يعنون بنزولها مرتين، أن جبريل نزل حين حَوَلت القبلة فأخبره عليه الصلاة والسلام أن الفاتحة ركن في الصلاة كما كانت بمكة، وأقرأه فيها قراءة لم (يكن أقرأه بها) في مكة فظنّوا ذلك إنزالاً وهو ضعيف.
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)}
{بسمِ اللَّهِ} أبدأ بسم الله، أو بدأت بسم الله، الاسم صلة، أو ليس بصلة عند الجمهور، واشتق من السمة، وهي العلامة، أو من السمو.
الله - (الله) أخص أسماء الرب لم يتسم به غيره {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] تسمى باسمه، أو شبيهاً. أبو حنيفة: هو الاسم الأعظم وهو علم إذ لا بد اللذات من اسم علم يتبعه أسماء الصفات، أو هو مشتق من الوله لأنه يأله إليه العباد: أي يفزعون إليه في أمورهم، فالمألوه إليه إله، كما أن المأموم [به] إمام أو اشتق من التأله وهو التعبدن تأله فلان: تعبد، واشتق من فعل العبادة فلا يتصف به في الأزل، أو من استحقاقها على الأصح فيتصف به أزلاً {الرَّحْمَن الرَّحِيمِ} الرحمن والرحيم الراحم، أو الرحمن أبلغ، وكانت الجاهلية تصرفه للرب سبحانه وتعالى، الشنفري:
إلا ضربت تلك الفتاة هجينها *** ألا هدر الرحمن ربي يمينها
ولما سُمي مسيلمة بالرحمن قُرِن لله تعالى الرحمن الرحيم، لأن أحداً لم يتسم بهما،، واشتقا من رحمة واحدة، أو الرحمن من رحمته لجميع الخلق، والرحيم من رحمته لأهل طاعته، أو الرحمن من رحمته لأهل الدنيا، والرحيم من رحمته لأهل [الآخرة]، أو الرحمن من الرحمن التي يختص بها، والرحيم من الرحمن التي يوجد في العباد مثلها.
عَلى رَأْسِهِ أُمٌّ لَها يُقْتَدى بِها جِماعُ أُمُورٍ لا يُعاصى لَها أمْرُ
وَقِيلَ لِما مَضى عَلى الإنْسانِ مِن سِنِي عُمْرِهِ، أُمٌّ لِتَقَدُّمِها.إذا كانَتِ الخَمْسُونَ أُمَّكَ لَمْ يَكُنْ ∗∗∗ لِرَأْيِكَ إلّا أنْ يَمُوتَ طَبِيبُ
واخْتُلِفَ في تَسْمِيَتِها بِأُمِّ الكِتابِ، فَجَوَّزَهُ الأكْثَرُونَ، لِأنَّ الكِتابَ هو القُرْآنُ، ومَنَعَ مِنهُ الحَسَنُ، وابْنُ سِيرِينَ، وزَعَما أنَّ أُمَّ الكِتابِ، اسْمُ اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، فَلا يُسَمّى بِهِ غَيْرُهُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإنَّهُ في أُمِّ الكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزُّخْرُفِ:٤] .فَلِجُوا المَسْجِدَ وادْعُوا رَبَّكم ∗∗∗ وادْرُسُوا هَذِي المَثانِيَ والطُّوَلْ
***إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَلَيْكُما ومَن يَبْكِ حَوْلًا كامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْ
فَذِكْرُ اسْمِ السَّلامِ زِيادَةٌ، وإنَّما أرادَ: ثُمَّ السَّلامُ عَلَيْكُما.إذا لَمْ تَسْتَطِعْ أمْرًا فَدَعْهُ ∗∗∗ وجاوِزْهُ إلى ما تَسْتَطِيعُ ∗∗∗ وصِلْهُ بِالدُّعاءِ فَكُلُّ أمْرٍ ∗∗∗ سَما لَكَ أوْ سَمَوْتَ لَهُ وُلُوعُ
وَتَكَلَّفَ مَن راعى مَعانِيَ الحُرُوفِ بِبِسْمِ اللَّهِ تَأْوِيلًا، أجْرى عَلَيْهِ أحْكامَ الحُرُوفِ المَعْنَوِيَّةَ، حَتّى صارَ مَقْصُودًا عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ في كُلِّ تَسْمِيَةٍ، ولَهم فِيهِ ثَلاثَةُ أقاوِيلَ: أحَدُها: أنَّ الباءَ بَهاؤُهُ وبَرَكَتُهُ، وبِرُّهُ وبَصِيرَتُهُ، والسِّينَ سَناؤُهُ وسُمُوُّهُ وسِيادَتُهُ، والمِيمَ مَجْدُهُ ومَمْلَكَتُهُ ومَنُّهُ، وهَذا قَوْلُ الكَلْبِيِّ.لَقَدْ بَسْمَلَتْ لَيْلى غَداةَ لَقِيتُها ∗∗∗ فَيا حَبَّذا ذاكَ الحَبِيبُ المُبَسْمِلُ
فَأمّا قَوْلُهُ: (اللَّهِ)، فَهو أخَصُّ أسْمائِهِ بِهِ، لِأنَّهُ لَمْ يَتَسَمَّ بِاسْمِهِ الَّذِي هو (اللَّهُ) غَيْرُهُ.لِلَّهِ دَرُّ الغانِياتِ المُدَّهِ ∗∗∗ لَمّا رَأيْنَ خَلِقَ المُمَوَّهِ
سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِن تَألُّهِ
أيْ مِن تَعَبُّدٍ، وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قَرَأ: ﴿وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ﴾ أيْ وعِبادَتَكَ.أوَتَتْرُكُونَ إلى القَسَّيْنِ هِجْرَتَكم ∗∗∗ ومَسْحَكم صُلْبَهم رَحْمَنَ قُرْبانًا
قالَ: ولِذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ الرَّحْمَنِ والرَّحِيمِ، لِيَزُولَ الِالتِباسُ، فَعَلى هَذا يَكُونُ الأصْلُ فِيهِ تَقْدِيمَ الرَّحِيمِ عَلى الرَّحْمَنِ لِعَرَبِيَّتِهِ، لَكِنْ قَدَّمَ الرَّحْمَنَ لِمُبالَغَتِهِ.ألا ضَرَبَتْ تِلْكَ الفَتاةُ هَجِينَها ∗∗∗ ألا ضَرَبَ الرَّحْمَنُ رَبِّي يَمِينَها
فَإذا كانا اسْمَيْنِ عَرَبِيَّيْنِ فَهُما مُشْتَقّانِ مِنَ الرَّحْمَةِ، والرَّحْمَةُ هي النِّعْمَةُ عَلى المُحْتاجِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَما أرْسَلْناكَ إلا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ [الأنْبِياءِ: ١٠٧]، يَعْنِي نِعْمَةً عَلَيْهِمْ، وإنَّما سُمِّيَتِ النِّعْمَةُ رَحْمَةً لِحُدُوثِها عَنِ الرَّحْمَةِ.[سورة الفاتحة (1) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
السورة طائفة من القرآن مؤلفة من ثلاث آيات فأكثر لها اسم يعرف بطريق الرواية، وقد روى لهذه السورة عدة أسماء اشتهر منها: أم الكتاب، أم القرآن.
(لاشتمالها على مقاصد القرآن من الثناء على الله والتعبد بأمره ونهيه، وبيان وعده ووعيده) ، (والسبع المثاني لأنها تثنى فى الصلاة) ، والأساس (لأنها أصل القرآن وأول سورة فيه) ، والفاتحة (لأنها أول القرآن فى هذا الترتيب أو أول سورة نزلت)
فقد أخرج البيهقي فى كتابه الدلائل عن أبى ميسرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: إنى إذا خلوت وحدي سمعت نداء فقد والله خشيت أن يكون هذا أمرا.
فقالت معاذ الله، ما كان الله ليفعل بك، فو الله إنك لتؤدى الأمانة وتصل الرّحم.
وتصدق.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم أخبر ورقة بذلك، وإن ورقة أشار عليه بأن يثبت ويسمع النداء، وإنه صلى الله عليه وسلم لما خلا ناداه الملك يا محمد قل: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين- حتى بلغ ولا الضالين .
وقد رجح هذا بأنها مشتملة على مقاصد القرآن على سبيل الإجمال، ثم فصل ما أجملته بعد.
بيان هذا أن القرآن الكريم اشتمل على التوحيد، وعلى وعد من أخذ به بحسن المثوبة ووعيد من تجافى عنه وتركه بسىء العقوبة، وعلى العبادة التي تحيى التوحيد فى القلوب وتثبته فى النفوس، وعلى بيان سبيل السعادة الموصل إلى نعيم الدنيا والآخرة، وعلى القصص الحاوي أخبار المهتدين الذين وقفوا عند الحدود التي سنها الله لعباده، وفيها سعادتهم فى دنياهم وآخرتهم، والضالين الذين تعدّوا الحدود، ونبذوا أحكام الشرائع وراءهم ظهريا.
وقد حوت الفاتحة هذه المعاني جملة، فالتوحيد يرشد إليه قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)
لأنه يدل على أن كل ثناء وحمد يصدر عن نعمة فهو له، ولن يكون هذا إلا إذا كان عز اسمه مصدر النعم التي تستوجب الحمد، وأهمها نعمة الإيجاد والتربية وذلك صريح قوله: (رَبِّ الْعالَمِينَ) وقد استكمله بقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وبذلك اجتثّ جذور الشرك التي كانت فاشية فى جميع الأمم، وهى اتخاذ أولياء من دون الله يستعان بهم على قضاء الحاجات ويتقرب بهم إلى الله زلفى.
والوعد والوعيد يتضمنهما قوله: (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) إذ الدين هو الجزاء وهو إما ثواب للمحسن وإما عقاب للمسىء.
والعبادة تؤخذ من قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) .
وطريق السعادة يدل عليه قوله: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) إذ معناه أنه لا تتم السعادة إلا بالسير على ذلك الصراط القويم، فمن خالفه وانحرف عنه كان فى شقاء مقيم.
والقصص والأخبار يهدى إليها قوله: (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) فهو يرشد إلى أن هناك أمما قد مضت وشرع الله شرائع لهديها فاتبعتها وسارت على نهجها، فعلينا أن نحذو حذوها ونسير على سننها.
وقوله: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) يدل على أن غير المنعم عليهم صنفان:
صنف خرج عن الحق بعد علمه به، وأعرض عنه بعد أن استبان له، ورضى بما ورثه عن الآباء والأجداد وهؤلاء هم المغضوب عليهم، وصنف لم يعرف الحق أبدا أو عرفه على وجه مضطرب مهوش، فهو فى عماية تلبس الحق بالباطل وتبعد عن الجادة الموصلة إلى الصراط السوي، وهؤلاء هم الضالون.
وهذه السورة إحدى السور المكية التي نزلت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وعدة آيها سبع.
وقد نزل القرآن الكريم منجّما أي مفرقا فى ثلاث وعشرين سنة بحسب الحوادث التي دعت إلى نزوله، وقد نزل بعضه بمكة قبل الهجرة وبعضه بالمدينة بعدها، ولكل من المكي والمدني ميزات يعرف بها.
ميزات المكي:
فمن ميزات المكي أنه نزل لبيان أسس الدين من الإيمان بالله واليوم الآخر، والملائكة والكتاب والنبيين، وفعل الخيرات وترك المنكرات، مع إيجاز فى التعبير، واختصار فى الأسلوب، ويتضح ذلك جليا فى قصار المفصّل كالحاقة والواقعة والمرسلات.
ميزات المدني:
ومن ميزات المدني أنه جاء بأحكام العبادات والمعاملات الشخصية والمدنية فى السلم والحرب، وأصول التشريع للحكومات الإسلامية، إلى إسهاب فى الأسلوب وبسطة فى القول، ولا سيما عند محاجة أهل الكتاب، والنعي عليهم بتحريف ما أنزل إليهم ودعوتهم إلى التوحيد الخالص، وبيان أن الإسلام الذي جاء به القرآن هو دين الأنبياء صلوات الله عليهم جميعا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تمهيد
يرى بعض الصحابة كأبى هريرة وعلىّ وابن عباس وابن عمر، وبعض التابعين كسعيد بن جبير وعطاء والزهري وابن المبارك وبعض فقهاء مكة وقرائها ومنهم ابن كثير، وبعض قراء الكوفة وفقهائها ومنهم عاصم والكسائي والشافعي وأحمد، أن البسملة آية من كل سورة من سورة القرآن الكريم.
ومن أدلتهم على ذلك:
(1) إجماع الصحابة ومن بعدهم على إثباتها فى المصحف أول كل سورة عدا سورة براءة، مع الأمر بتجريد القرآن من كل ما ليس منه، ومن ثم لم يكتبوا (آمين) فى آخر الفاتحة.
(2) ما ورد في ذلك من الأحاديث،
فقد أخرج مسلم فى صحيحه عن أنس رضى الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزلت علىّ آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ،
وروى أبو داود عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف انقضاء السورة، حتى ينزل عليه (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
وروى الدار قطنى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا قرأتم الحمد لله فاقرءوا بسم الله الرّحمن الرحيم فإنها أم القرآن والسبع المثاني، وبسم الله الرّحمن الرحيم إحدى آياتها .
(3) أجمع المسلمون على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى، والبسملة بينهما فوجب جعلها منه.
ويرى مالك وغيره من علماء المدينة، والأوزاعى وجماعة من علماء الشام، وأبو عمرو يعقوب من قراء البصرة وهو الصحيح من مذهب أبى حنيفة- أنها آية مفردة من القرآن أنزلت لبيان رءوس السور والفصل بينها.
ويرى عبد الله بن مسعود أنها ليست من القرآن أصلا وهو رأى بعض الحنفية.
ومن أدلتهم على ذلك
حديث أنس قال: صليت خلف النبي صلّى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان، وكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم فى أول قراءة ولا آخرها.
الإيضاح
(بسم) الاسم هو اللفظ الذي يدل على ذات كمحمد وإنسان، أو معنى كعلم وأدب.
وقد أمرنا الله بذكره وتسبيحه فى آيات فقال: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) وقال: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) وقال:
(فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) .
وأمرنا بذكر اسمه وتسبيحه فى آيات أخرى فقال: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) وقال: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) وقال: (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) .
ومن ذلك يعلم أن ذكر المسمى مطلوب بتذكر القلب إياه ونطق اللسان به لتذكر عظمته وجلاله ونعمه المتظاهرة على عباده، وذكره باللسان هو ذكر أسمائه الحسنى وإسناد الحمد والشكر إليه وطلب المعونة منه على إيجاد الأفعال وإحداثها.
وذكر الاسم مشروع ومطلوب كذلك، فيعظم الاسم مقرونا بالحمد والشكر وطلب المعونة فى كون الفعل معتدا به شرعا، فإنه ما لم يصدّر باسمه تعالى يكون بمنزلة المعدوم.
(اللَّهِ) علم مختص بالمعبود بالحق لم يطلق على غيره تعالى، وكان العربي فى الجاهلية إذا سئل من خلق السموات والأرض؟ يقول الله: وإذا سئل هل خلقت اللات والعزّى شيئا من ذلك؟ يجيب (لا) .
والإله اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بالحق.
(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) كلاهما مشتق من الرحمة وهى معنى يقوم بالقلب يبعث صاحبه على الإحسان إلى سواه، ويراد منها فى جانب المولى عزّ اسمه أثرها وهو الإحسان.
إلا أن لفظ (الرَّحْمنِ) يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة وهى إسباغ النعم والإحسان، ولفظ (الرَّحِيمِ) يدل على منشأ هذه الرحمة، وأنها من الصفات الثابتة اللازمة له، فإذا وصف الله جل ثناؤه بالرحمن استفيد منه لغة أنه المفيض للنعم، ولكن لا يفهم منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائما.
وإذا وصف بعد ذلك بالرحيم علم أن لله صفة ثابتة دائمة هى الرحمة التي يكون أثرها الإحسان الدائم وتلك الصفة على غير صفات المخلوقين، وإذا يكون ذكر الرحيم بعد الرحمن كالبرهان على أنه يفيض الرحمة على عباده دائما لثبوت تلك الصفة له على طريق الدوام والاستمرار.
افتتح عزّ اسمه كتابه الكريم بالبسملة إرشادا لعباده أن يفتتحوا أعمالهم بها،
وقد ورد في الحديث كل أمر ذى بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر
(أي مقطوع الذنب ناقص) .
وقد كان العرب قبل الإسلام يبدءون أعمالهم بأسماء آلهتهم فيقولون باسم اللات أو باسم العزى، وكذلك كان يفعل غيرهم من الأمم، فإذا أراد امرؤ منهم أن يفعل أمرا مرضاة لملك أو أمير يقول أعمله باسم فلان، أي إن ذلك العمل لا وجود له لولا ذلك الملك أو الأمير.
وإذا فمعنى أبتدئ عملى باسم الله الرحمن الرحيم أننى أعمله بأمر الله ولله لا لحظ نفسى وشهواتها.
ويمكن أن يكون المراد- أن القدرة التي أنشأت بها العمل هى من الله ولولا ما أعطانى من القدرة لم أفعل شيئا، فأنا أبرأ من أن يكون عملى باسمي، بل هو باسمه تعالى، لأننى أستمد القوة والعون منه، ولولا ذلك لم أقدر على عمله، وإذا فمعنى البسملة التي جاءت أول الكتاب الكريم، أن جميع ما جاء فى القرآن من الأحكام والشرائع والأخلاق والآداب والمواعظ- هو لله ومن الله ليس لأحد غيره فيه شىء، وكأنه قال اقرأ يا محمد هذه السورة بسم الله الرحمن الرحيم، أي اقرأها على أنها من الله لا منك، فإنه أنزلها عليك لتهديهم بها إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم فى الدنيا والآخرة، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد من تلاوتها على أمته أنه يقرأ عليهم هذه السورة باسم الله لا باسمه أي أنها من الله لا منه، فإنما هو مبلّغ عنه تبارك وتعالى كما جاء فى قوله:
(وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) .
أنزلت علي آنفا سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم وروى أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يعرف فصل السورة - وفي رواية انقضاء السورة - حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم . وأخرجه الحاكم في المستدرك، وقال صحيح على شرط الشيخين. وروى الدارقطني من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قرأتم الحمد لله (أي سورة الحمد لله ) فاقرأوا {بسم الله الرحمن الرحيم} فإنها أم القرآن والسبع المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها وذهب مالك وغيره من علماء المدينة، والأوزاعي وغيره من علماء الشام، وأبو عمرو ويعقوب من قراء البصرة إلى أنها آية مفردة أنزلت لبيان رءوس السور والفصل بينها، وعليه الحنفية، وقال حمزة من قراء الكوفة وروي عن أحمد: أنها آية من الفاتحة دون غيرها، وثمة أقوال أخرى شاذة.
هذا - وقد قال الأستاذ الإمام: القرآن إمامنا وقدوتنا، فافتتاحه بهذه الكلمة إرشاد لنا بأن نفتتح أعمالنا بها فما معنى هذا؟ ليس معناه أن نفتتح أعمالنا باسم من أسماء الله تعالى بأن نذكره على سبيل التبرك أو الاستعانة به، بل أن نقول هذه العبارة: {بسم الله الرحمن الرحيم} فإنها مطلوبة لذاتها.
أقول الآن: الاسم هو اللفظ الذي يدل على ذات من الذوات كحجر وخشب وزيد، أو معنى من المعاني كالعلم والفرح. وقال ابن سيده: هو اللفظ الموضوع على الجوهر أو العرض. وقال الراغب: الاسم ما يعرف به ذات الشيء وأصله. وقال كثيرون: إنه مشتق من السمو، وإن أصله سمو؛ لأن تصغيره سمي وجمعه أسماء. والسمو: العلو، كأن الاسم يعلو مسماه بكونه عنوانا له ودليلا عليه. وقال آخرون: إنه من السمة، وهي العلامة، وأصله وسم. وقال بعض الباحثين في الكلام والفلسفة: إن الاسم يطلق على نفس الذات والحقيقة والوجود والعين - وهي عندهم أسماء مترادفة - وهذا القول ليس من اللغة في شيء، ولا هو من الفلسفة النافعة، بل من الفلسفة الضارة، وإن قال الألوسي بعد نقله عن ابن فورك والسهيلي: وممن يعض عليه بالنواجذ بل لا ينبغي أن يذكر مثل هذا القول إلا لأجل النهي عن إضاعة الوقت في قراءة ما بني عليه من السفسطة في إثبات قول القائلين: إن الاسم عين المسمى. وقد كتبوا لغوا كثيرا في هذه المسألة، وقلما ترى أحدا رضي كلام غيره فيها، ولكن قد يرضيه كلام نفسه الذي يؤيد به ما لم يفهمه من كلام غيره.
والحق أن الاسم: هو اللفظ الذي ينطق به لسانك ويكتبه قلمك، كقولك: الشمس أو زيد أو مكة. والمسمى: هو الكوكب المعروف أو الشخص المعين أو البلد المحدد، وقد يكون بعيدا عنك عند إطلاق الاسم.
ولفظ اسم اسم لهذا النوع من اللفظ الذي يدل على الجواهر والأعراض، دون الأحداث التي تسمى في النحو أفعالا. ومدلوله مثل مدلول لفظ إنسان يطلق على أفراد كثيرة كلفظ الشمس الذي تنطق به وتكتبه، ولفظ زيد ولفظ مكة ، وغير ذلك من أسماء الموجودات.
فالاسم غير المسمى في اللغة، وقد أخطأ من نسب إلى سيبويه غير هذا كما قال ابن القيم، بل قال في كتابه (بدائع الفوائد): ما قال نحوي قط ولا عربي إن الاسم عين المسمى، وذكر بعض من قال باتحاد الاسم والمسمى بالتسمية وبين الخطأ في ذلك. وأن معنى {سبح اسم ربك الأعلى} سبح ربك ذاكرا اسمه الأعلى، ومعنى سبح باسم ربك سبحه ناطقا باسمه العظيم.
ومنشأ الاشتباه عند بعضهم أن الله تعالى أمرنا بذكره و تسبيحه في آيات، وبذكر اسمه وتسبيح اسمه في آيات أخرى، فقال تعالى: { واذكر اسم ربك و تبتل إليه تبتيلا } [المزمل: 89] { واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا } [الإنسان: 25] { ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا } [الحج: 40] { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين } [الأنعام: 118] { وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه } [الأنعام: 119] { فاذكروا اسم الله عليها صواف } [الحجر: 36] أي البدن عند نحرها، وقال تعالى: { ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا } [الأحزاب: 41 - 42]. { فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم } [البقرة: 198]. { فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا } [198 - 200}. { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض } [آل عمران: 191]. { فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم } [النساء: 103]. وقال تعالى في التسبيح: { إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون } [الأعراف: 206] أي يسبحون ربك فعدى التسبيح بنفسه إلى ضمير الرب كما عداه بنفسه إلى اسم الرب في قوله تعالى: { سبح اسم ربك الأعلى } [الأعلى: 1] وبالباء في قوله: { فسبح باسم ربك العظيم } [الواقعة: 74، 96]. وقال { سبح لله ما في السماوات والأرض } [الحديد: 1] ومثله كثير. وقال تعالى: { فتبارك الله } [المؤمنون: 14]. { تبارك الذي نزل الفرقان } [الفرقان: 1] كما قال: { تبارك اسم ربك } [الرحمن: 78].
رأى بعضهم أن يجمع بين هذه الآيات بجعل الاسم عين المسمى، وأن ذكر الله وذكر اسمه وتسبيحه وتسبيح اسمه واحد؛ لأن اسمه عين ذاته، وأن هذا خير من القول بأن لفظ اسم مقحم زائد. والصواب أن الذكر في اللغة ضد النسيان، وهو ذكر القلب، ولذلك قرنه بالتفكر في سورة آل عمران [3: 191] وهما عبادتان قلبيتان، وقال: { واذكر ربك إذا نسيت } [الكهف: 24] ويطلق الذكر أيضا على النطق باللسان؛ لأنه دليل على ذكر القلب وعنوان وسبب له، وإنما يذكر اللسان اسم الله تعالى كما يذكر من كل الأشياء أسماءها، دون ذوات مسمياتها، فإذا قال: نار لا يقع جسم النار على لسانه فيحرقه، وإذا قال الظمآن: ماء لا يحصل مسمى هذا اللفظ في فيه فينقع غلته، فذكر الله تعالى في القلب هو تذكر عظمته وجلاله وجماله ونعمه، وورد التصريح بالأمر بذكر نعمة الله وآلاء الله. وذكره باللسان هو ذكر أسمائه الحسنى وإسناد الحمد والشكر والثناء إليها، وكذلك تسبيحه تعالى، فالقلب يسبحه باعتقاد كماله وتذكر تنزيهه عما لا يليق به، واللسان يسبحه بإضافة التسبيح إلى أسمائه من غير ذكر للفظ الاسم. روى أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم في مستدركه وابن حبان في صحيحه عن عقبة بن عامر قال: لما نزلت {فسبح باسم ربك العظيم} قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوها في ركوعكم فلما نزلت {سبح اسم ربك الأعلى} قال: اجعلوها في سجودكم والمراد أن يقولوا: سبحان ربي العظيم لا سبحان اسم ربي العظيم فقد روى أحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه الترمذي عن حذيفة قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم وفي سجوده سبحان ربي الأعلى . ولهذا ورد في الكلام عن الذبائح ذكر اسم الله عليها {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} وتقدم آنفا ذكر عدة آيات في هذا - فعلم من هذا التحقيق: أن الاسم غير المسمى، وأن ذكر الاسم مشروع، وذكر المسمى مشروع. والفرق بينهما ظاهر كالصبح، وكذلك التسبيح والتبارك، فكما يعظم الله يعظم اسمه الكريم، فيذكر مقرونا بالحمد والشكر والثناء والتقديس. وقد صرحوا بأن تعمد إهانة أسماء الله تعالى في اللفظ والكتابة كفر؛ لأنه لا يمكن أن يأتي من مؤمن. ا هـ. ما زدته الآن.
وقال الأستاذ الإمام ما معناه عندما تقول: إنني أذكر اسم الله تعالى كالعزيز والحكيم، لا تعني أنك تذكر لفظ اسم فلو كان قولهم: إن المراد من الابتداء بالكلمة بسم الله التبرك باسم الله هو الصواب لكان ينبغي أن يكون قولك: بالله الرحمن الرحيم مثل {بسم الله الرحمن الرحيم} وقوله تعالى: { بسم الله مجراها ومرساها } [هود: 41] وقد قال بعضهم: إن الإضافة هاهنا للبيان، أي أفتتح كلامي بسم الله، ولكن يقتضي أن يكون لفظ الرحمن الرحيم واردا على اللفظ وهو غير صحيح. وإرادة أن الأسماء الثلاثة هي المبينة للفظ الاسم تمحل ظاهر، فما المقصود إذا من هذا التعبير؟
مثل هذا التعبير مألوف عند جميع الأمم، ومنهم العرب، وهو أن الواحد منهم إذا أراد أن يفعل أمرا ما لأجل أمير أو عظيم بحيث يكون متجردا من نسبته إليه ومنسلخا عنه، يقول: أعمله باسم فلان، ويذكر اسم ذلك الأمير أو السلطان؛ لأن اسم الشيء دليل وعنوان عليه، فإذا كنت أعمل عملا لا يكون له وجود ولا أثر، لولا السلطان الذي به أمر، أقول إن عملي هذا باسم السلطان أي إنه معنون باسمه ولولاه لما عملته. فمعنى أبتدئ عملي {بسم الله الرحمن الرحيم} أنني أعمله بأمره وله لا لي، ولا أعمله باسمي مستقلا به على أنني فلان. فكأني أقول: إن هذا العمل لله لا لحظ نفسي. وفيه وجه آخر وهو: أن القدرة التي أنشأت بها العمل هي من الله تعالى، فلولا ما منحني منها لم أعمل شيئا، فلم يصدر عني هذا العمل إلا باسم الله ولم يكن باسمي، إذ لولا ما آتاني من القوة عليه لم أستطع أن آتيه. وقد تم هذا المعنى بلفظ {الرحمن الرحيم} كما هو ظاهر. وحاصل المعنى أنني أعمل عملي متبرئا من أن يكون باسمي، بل هو باسمه تعالى، لأنني استمد القوة والعناية منه وأرجو إحسانه عليه، فلولاه لم أقدر عليه ولم أعمله، بل وما كنت عاملا له على تقدير القدرة عليه، لولا أمره ورجاء فضله، فلفظ الاسم معناه مراد، ومعنى لفظ الجلالة مراد أيضا، وكذلك كل من لفظ {الرحمن الرحيم}. وهذا الاستعمال معروف مألوف في كل اللغات. وأقربه إليكم اليوم ما ترونه في المحاكم النظامية حيث يبتدئون الأحكام قولا وكتابة باسم السلطان فلان أو الخديوي فلان.
ومعنى البسملة في الفاتحة أن جميع ما يقرر في القرآن من الأحكام والآيات وغيرها هو لله ومنه، ليس لأحد غير الله فيه شيء ا هـ.
أقول: هذا صفوة ما قرره في متعلق {بسم الله} ومعناها، وهاهنا نظر آخر فيه، وهو أن القرآن كان وحيا يلقيه الروح الأمين في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - وكل سورة منه مبتدأة ببسملة، فمتعلق البسملة من ملك الوحي تعلم من أول آية نزل بها وهي قوله تعالى: {اقرأ باسم ربك} فمعنى البسملة الذي كان يفهمه النبي - صلى الله عليه وسلم - من روح الوحي: اقرأ يا محمد هذه السورة {بسم الله الرحمن الرحيم} على عباده، أي اقرأها على أنها منه تعالى لا منك، فإنه برحمته بهم أنزلها عليك لتهديهم بها إلى ما فيه الخير لهم في الدنيا والآخرة. وعلى هذا كان يقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - من متعلق البسملة أنني أقرأ السورة عليكم أيها الناس باسم الله لا باسمي، وعلى أنها منه لا مني، فإنما أنا مبلغ عنه - عز وجل - { وأمرت لأن أكون أول المسلمين } [الزمر: 12]. { وأن أتلو القرآن } [البقرة: 92] إلخ.
اختصر الأستاذ الإمام في الكلام على لفظ اسم ولفظ الجلالة؛ لأن الكلام فيهما مشهور. وقد تكلمنا على اللفظ الأول، وهاك جملة صالحة في اللفظ الآخر العظيم:
لفظ الجلالة {الله} علم على ذات واجب الوجود، قال ابن مالك: وضع معرفا، وقيل: أصله إله فحذفت همزته وأدخلت عليه الألف واللام، وقيل: أصله الإله، والإله في اللغة: يطلق على كل معبود، ولذلك جمعوه على آلهة، وما كل معبود سموه إلها يطلقون عليه اسم {الله} فإن هذا الاسم الكريم كان خاصا في لغتهم بخالق السماوات والأرض وكل شيء. فالتعريف فيه خصصه بالواحد الفرد الكامل، كما جعلوا لفظ النجم بالتعريف خاصا بالثريا. فكان العربي في الجاهلية إذا سئل من خلقك أو من خلق السماوات والأرض؟ يقول: الله وإذا سئل عن بعض آلهتهم: هل خلقت اللات والعزى شيئا من هذه الموجودات؟ يقول: لا وقد احتج القرآن عليهم باعتقادهم هذا كما يأتي في محله. وإنما كانوا يتوسلون بها إلى الله ويعتقدون شفاعتها عنده.
قال بعض العلماء: إن لفظ إله من أله بمعنى عبد فهو بمعنى معبود ككتاب بمعنى المكتوب، يقال: أله يأله إلاهة وألوهة وألوهية، كما يقال عبد يعبد عبادة وعبودة وعبودية فهو صفة بمعنى اسم المفعول، وقيل: هو من أله بمعنى تحير، وقيل: من وله بمعنى تحير. وهو إذا استشكل من جهة اللفظ - لأنه تعالى منزه عن الحيرة - يصح أن يقال من جهة المعنى، والمراد أنه سبب الحيرة. لأن الناظرين إذا ارتقوا في سلم أسباب التكوين ينتهون عند درجة الحيرة في معرفة الموجد الأول الذي هو موجود بنفسه لا بسبب ولا علة سابقة عليه، وبه وجد كل ما عداه، لا يستطيعون الوصول إلى حقيقة هذا الموجود العظيم الذي لا يعقل وجود هذه الكائنات الممكنة إلا بوجوده حتى إن الملاحدة الماديين لما بحثوا في أصل الموجودات، وارتقوا إلى معرفة البسائط التي تركبت منها الكائنات، قالوا: إنه لا بد أن يكون لها منشأ وحده مجهول الذات، ذو قوة وحياة.
والحاصل أن اسم الجلالة الله علم على ذات الباري سبحانه وتعالى تجري عليه الصفات ولا يوصف به. ولفظ الإله صفة. والجمهور على أن معناه الشرعي: المعبود بحق، ولذلك أنكر القرآن عليهم تسمية أصنامهم آلهة، والتحقيق أنه أنكر عليهم تأليهها وعبادتها، لا مجرد تسميتها، وقد سماها هو آلهة في قوله: { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب } [هود: 101] ولا يظهر في هذه الآية قصد الحكاية.
ومما يترتب على قولنا: أن لفظ الجلالة {الله} علم يوصف ولا يوصف به أن أسماء الله الحسنى صفات تجري على هذا الاسم العظيم، ولكونها صفات وصفت بالحسنى. قال تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه } [الأعراف: 180] وتسند إليه تعالى أفعال هذه الصفات، ويقال: رحم الله فلانا، ويرحمه الله، واللهم ارحم فلانا، وتضاف إليه مصادرها فيقال: رحمة الله وربوبيته ومغفرته { إن رحمة الله قريب من المحسنين } [الأعراف: 56] وهذه الأسماء المشتقة كل منها يدل على ذات الله تعالى وعلى الصفة التي اشتق منها معا بالمطابقة، وعلى الذات وحدها أو الصفة بالتضمن، ولكل منها لوازم يدل عليها بالالتزام، كدلالة الرحمن على الإحسان والإنعام، ودلالة الحكيم على الإتقان والنظام، ودلالة الرب على البعث والجزاء؛ لأن الرب الكامل لا يترك مربوبيه سدى، ومن عرف الأسماء الحسنى، والصفات العليا، عرف أن اسم الجلالة الأعظم {الله} يدل عليها كلها وعلى لوازمها الكمالية وعلى تنزهه عن أضدادها السلبية، فدل هذا الاسم الأعلى على اتصاف مسماه بجميع صفات الكمال، وتنزهه عن جميع النقائص، فسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ا هـ ما أحببت زيادته الآن.
قال الأستاذ الإمام ما معناه: والرحمن الرحيم مشتقان من الرحمة وهي معنى يلم بالقلب فيبعث صاحبه ويحمله على الإحسان إلى غيره، وهو محال على الله تعالى بالمعنى المعروف عند البشر؛ لأنه في البشر ألم في النفس شفاؤه الإحسان والله تعالى منزه عن الآلام والانفعالات، فالمعنى المقصود بالنسبة إليه من الرحمة أثرها وهو الإحسان. وقد مشى الجلال في تفسيره وتبعه الصبان على أن الرحمن والرحيم بمعنى واحد، وأن الثاني تأكيد للأول. ومن العجيب أن يصدر مثل هذا القول عن عالم مسلم وما هي إلا غفلة نسأل الله أن يسامح صاحبها.
(قال): وأنا لا أجيز لمسلم أن يقول في نفسه أو بلسانه: إن في القرآن كلمة تغاير أخرى، ثم تأتي لمجرد تأكيد غيرها بدون أن يكون لها في نفسها معنى تستقل به. نعم قد يكون في معنى الكلمة ما يزيد معنى الأخرى تقريرا أو إيضاحا، ولكن الذي لا أجيزه هو أن يكون معنى الكلمة هو عين معنى الأخرى بدون زيادة، ثم يؤتى بها لمجرد التأكيد لا غير بحيث تكون من قبيل ما يسمى بالمترادف في عرف أهل اللغة. فإن ذلك لا يقع إلا في كلام من يرمي في لفظه إلى مجرد التنميق والتزويق. وفي العربية طرق للتأكيد ليس هذا منها، وأما ما يسمونه بالحرف الزائد الذي يأتي للتأكيد فهو حرف وضع لذلك، ومعناه هو التأكيد وليس معناه معنى الكلمة التي يؤكدها، الباء في قوله تعالى: { وكفى بالله شهيدا } [الفتح: 28] تؤكد معنى اتصال الكفاية بجانب الله جل شأنه بذاتها ومعناها الذي وضعت له. ومعنى وصفها بالزيادة أنها كذلك في الإعراب، وكذلك معنى من في قوله { وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله } [البقرة: 102] ونحو ذلك. أما التكرار للتأكيد أو التقريع أو التهويل فأمر سائغ في أبلغ الكلام عندما يظهر ذلك القصد منه كتكرار جملة { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 13] ونحوها عقب ذكر كل نعمة، وهي عند التأمل ليست مكررة، فإن معناها عند ذكر كل نعمة: أفبهذه النعمة تكذبان. وهكذا كل ما جاء في القرآن على هذا النحو.
والجمهور على أن معنى الرحمن المنعم بجلائل النعم، ومعنى الرحيم المنعم بدقائقها، وبعضهم يقول: إن الرحمن هو المنعم بنعم عامة تشمل الكافرين مع غيرهم، والرحيم هو المنعم بالنعم الخاصة بالمؤمنين. وكل هذا تحكم في اللغة مبني على أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. ولكن الزيادة تدل على زيادة الوصف مطلقا، فصفة الرحمن تدل على كثرة الإحسان الذي يعطيه سواء كان جليلا أو دقيقا. وأما كون أفراد الإحسان الذي يدل عليها اللفظ الأكثر حروفا أعظم من أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأقل حروفا فهو غير معني ولا مراد. وقد قارب من قال: إن معنى الرحمن المحسن بالإحسان العام، ولكنه أخطأ في تخصيص مدلول الرحيم بالمؤمنين، ولعل الذي حمل من قال: إن الثاني مؤكد للأول على قوله هذا هو عدم الاقتناع بما قالوه من التفرقة مع عدم التفطن لما هو أحسن منه.
قال الأستاذ الإمام: والذي أقول إن صيغة فعلان تدل على وصف فعلى فيه معنى المبالغة كفعال وهو في استعمال اللغة للصفات العارضة كعطشان وغرثان وغضبان، وأما صيغة فعيل فإنها تدل في الاستعمال على المعاني الثابتة كالأخلاق والسجايا في الناس كعليم وحكيم وحليم وجميل. والقرآن لا يخرج عن الأسلوب العربي البليغ في الحكاية عن صفات الله - عز وجل - التي تعلو عن مماثلة صفات المخلوقين. فلفظ الرحمن يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة بالفعل وهي إفاضة النعم والإحسان، ولفظ الرحيم يدل على منشأ هذه الرحمة والإحسان وعلى أنها من الصفات الثابتة الواجبة. وبهذا المعنى لا يستغنى بأحد الوصفين عن الآخر ولا يكون الثاني مؤكدا للأول، فإذا سمع العربي وصف الله جل ثناؤه بالرحمن وفهم منه أنه المفيض للنعم فعلا لا يعتقد منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائما. لأن الفعل قد ينقطع إذا لم يكن عن صفة لازمة ثابتة وإن كان كثيرا، فعندما يسمع لفظ الرحيم يكمل اعتقاده على الوجه الذي يليق بالله تعالى ويرضيه سبحانه. ويعلم أن لله صفة ثابتة هي الرحمة التي عنها يكون أثرها، وإن كانت تلك الصفة على غير مثال صفات المخلوقين، ويكون ذكرها بعد الرحمن كذكر الدليل بعد المدلول ليقوم برهانا عليه ا هـ.
أقول قد سبق العلامة ابن القيم إلى مثل هذه التفرقة، ولكنه عكس في دلالة الاسمين الكريمين. قال: وأما الجمع بين الرحمن والرحيم ففيه معنى بديع، وهو أن الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم، وكأن الأول الوصف والثاني الفعل، فالأول دال على أن الرحمة صفته أي صفة ذات له سبحانه، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته، أي صفة فعل له سبحانه، فإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى: { وكان بالمؤمنين رحيما } [الأحزاب: 43]، { إنه بهم رءوف رحيم } [التوبة: 117] ولم يجيء قط رحمن بهم، فعلمت أن رحمن هو الموصوف بالرحمة. ورحيم هو الراحم برحمته. قالرحمه الله تعالى: هذه النكتة لا تكاد تجدها في كتاب، وإن تنفست عندها مرآة قلبك لم تنجل لك صورتها.
وقال في كتاب آخر عند ذكر الاسمين الكريمين: وكرر أذانا (أي إعلاما) بثبوت الوصف وحصول أثره وتعلقه بمتعلقاته، فالرحمن: الذي الرحمة وصفه، والرحيم: الراحم لعباده، ولهذا يقول تعالى: { وكان بالمؤمنين رحيما } [السجدة: 43]. { إنه بهم رءوف رحيم } [التوبة: 117] ولم يجيء رحمن بعباده ولا رحمن بالمؤمنين، مع ما في اسم الرحمن الذي هو على وزن (فعلان) من سعة هذا الوصف وثبوت جميع معناه للموصوف به، ألا ترى أنهم يقولون: غضبان للممتلئ غضبا، وندمان وحيران وسكران ولهفان لمن ملئ بذلك، فبناء فعلان للسعة والشمول المراد منه. ا هـ.
أقول: إن هذه الأمثلة تؤيد ما قاله الأستاذ الإمام من أن صيغة (فعلان) تدل على الصفة العارضة، ولا تدل على الدائمة، فاحتيج إلى صيغة أخرى تدل على الصفة الثابتة الدائمة وهي صيغة (فعيل) فهذا أقوى ما قيل في نكتة الجمع بين الاسمين الكريمين بالصيغتين. ويليه دلالة أحدهما على الرحمة بالقوة، والآخر دلالته عليها بالفعل، وهذا معنى آخر ألم به هذان الإمامان، ولكن ابن القيم جعل لفظ الرحيم هو الدال على الرحمة بالفعل بدليل الآيتين اللتين أوردهما، ولفظ الرحمن هو الدال عليها بالقوة لعدم تعلق مثل ذلك الظرف به، وهو قوي. وعكس (محمد عبده) وجعل ذلك من مدلول الصيغة باللزوم.
{الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم} قالوا: إن معنى الحمد الثناء باللسان، وقيدوه بالجميل؛ لأن كلمة ثناء تستعمل في المدح والذم جميعا، يقال: أثنى عليه شرا، كما يقال: أثنى عليه خيرا. ويقولون: إن أل التي في الحمد هي للجنس في أي فرد من أفراده لا للاستغراق ولا للعهد المخصوص؛ لأنه لا يصار إلى كل منهما في فهم الكلام إلا بالبديل، وهو غير موجود في الآية، ومعنى كون الحمد لله تعالى بأي نوع من أنواعه، هو أن أي شيء يصح الحمد عليه فهو مصدره، وإليه مرجعه، فالحمد له على كل حال.
وهذه الجملة خبرية ولكنها استعملت لإنشاء الحمد - فأما معنى الخبرية فهو إثبات أن الثناء الجميل في أي أنواعه تحقق، فهو ثابت له تعالى وراجع إليه؛ لأنه متصف بكل ما يحمد عليه الحامدون فصفاته أجل الصفات، وإحسانه عم جميع الكائنات، ولأن جميع ما يصح أن يتوجه إليه الحمد مما سواه فهو منه جل ثناؤه، إذ هو مصدر الكون كله، فيكون له ذلك الحمد أولا وبالذات. والخلاصة: أن أي حمد يتوجه إلى محمود ما فهو لله تعالى، سواء لاحظه الحامد أو لم يلاحظه. وأما معنى الإنشائية فهو أن الحامد جعلها عبارة عما وجهه من الثناء إلى الله تعالى في الحال.
هذا ملخص ما قاله الأستاذ الإمام، وأقول الآن: التعريف المشهور بين العلماء للحمد: أنه الثناء باللسان على الجميل الاختياري. أي الفعل الجميل الصادر عن فاعله باختياره، أي سواء أسدى هذا الجميل إلى الحامد أم لا. ا هـ وأزيد عليهم: أنه قد يحمد غير الفاعل المختار تنزيلا له منزلة الفاعل في نفعه، ومنه: إنما يحمد السوق من ربح . وهذا هو المتبادر من استعمال اللغة. وحذف بعضهم قيد الاختيار ليدخل في الحمد الثناء على صفات الكمال ولذلك وصف بعضهم الجميل الاختياري بقوله: سواء كان من الفضائل - أي الصفات الكمالية لصاحبها أو الفواضل، وهي ما يتعدى أثره من الفضل إلى غير صاحب الفضل. والظاهر أن الحمد على الفضائل وصفات الكمال إنما يكون باعتبار ما يترتب عليها من الأفعال الاختيارية، ما عدا هذا من الثناء تسميه العرب مدحا. يقال: مدح الرياض، ومدح المال، ومدح الجمال، ولا يطلق الحمد على مثل هذه الأشياء، وقيل: هما مترادفان.
والمقام المحمود للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ما يحمد فيه لما يناله الناس كلهم من خير دعائه وشفاعته على المشهور. وسيأتي تفسيره في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقد يقال: إن ما ذكر هو الحمد الذي يكون من بعض الناس لبعض، وأما الله - عز وجل - فإنه يحمد لذاته باعتبار أنها مصدر جميع الوجود الممكن وما فيه من الخيرات والنعم، أو مطلقا خصوصية له، إذ ليست ذات أحد من الخلق كذاته، ويحمد لصفاته باعتبار تعلقها وآثارها كما سترى بيانه في تفسير الرب والرحمن والرحيم.
{رب العالمين} يشعر هذا الوصف ببيان وجه الثناء المطلق، ومعنى الرب: السيد المربي الذي يسوس مسوده ويربيه ويدبره، ولفظ العالمين جمع عالم بفتح اللام جمع جمع المذكر العاقل تغليبا، وأريد به جميع الكائنات الممكنة، أي: إنه رب كل ما يدخل في مفهوم لفظ العالم. وما جمعت العرب لفظ العالم هذا الجمع إلا لنكتة تلاحظها فيه، وهي أن هذا اللفظ لا يطلق عندهم على كل كائن وموجود كالحجر والتراب، وإنما يطلقونه على كل جملة متمايزة لأفرادها صفات تقربها من العاقل الذي جمعت جمعه، إن لم تكن منه فيقال: عالم الإنسان، وعالم الحيوان، وعالم النبات. ونحن نرى أن هذه الأشياء هي التي يظهر فيها معنى التربية الذي يعطيه لفظ رب ؛ لأن فيها مبدأها وهو الحياة والتغذي والتولد، وهذا ظاهر في الحيوان. ولقد كان السيد (أي جمال الدين الأفغاني)رحمه الله تعالى يقول: الحيوان شجرة قطعت رجلها من الأرض فهي تمشي، والشجرة حيوان ساخت رجلاه في الأرض، فهو قائم في مكانه يأكل ويشرب، وإن كان لا ينام ولا يغفل.
هذا ملخص ما قاله الأستاذ الإمام. وأزيد الآن أن بعض العلماء قال: إن المراد بالعالمين هنا أهل العلم والإدراك من الملائكة والإنس والجن، ويؤثر عن جدنا الإمام جعفر الصادق عليه الرضوان. أن المراد به الناس فقط كما يدل على هذا وذاك استعمال القرآن في مثل: { أتأتون الذكران من العالمين } [الشعراء: 165] أي الناس، ومثل { ليكون للعالمين نذيرا } [الفرقان: 1] ويرى بعضهم: أنه على هذا مشتق من العلم. ومن قال: يعم جميع أجناس المخلوقات يرى أنه مشتق من العلامة، وربوبية الله للناس تظهر بتربيته إياهم، وهذه التربية قسمان: تربية خلقية بما يكون به نموهم، وكمال أبدانهم وقواهم النفسية والعقلية - وتربية شرعية تعليمية وهي ما يوحيه إلى أفراد منهم ليكمل به فطرتهم بالعلم والعمل إذا اهتدوا به. فليس لغير رب الناس أن يشرع للناس عبادة، ولا أن يحرم عليهم ويحل لهم من عند نفسه بغير إذن منه تعالى.
{الرحمن الرحيم} تقدم معناهما وبقي الكلام في إعادتهما، والنكتة فيها ظاهرة وهي أن تربيته تعالى للعالمين ليست لحاجة به إليهم كجلب منفعة أو دفع مضرة، وإنما هي لعموم رحمته وشمول إحسانه. وثم نكتة أخرى وهي أن البعض يفهم من معنى الرب: الجبروت والقهر، فأراد الله تعالى أن يذكرهم برحمته وإحسانه ليجتمعوا بين اعتقاد الجلال والجمال، فذكر الرحمن وهو المفيض للنعم بسعة وتجدد لا منتهى لهما، والرحيم الثابت له وصف الرحمة لا يزايله أبدا. فكأن الله تعالى أراد أن يتحبب إلى عباده، فعرفهم أن ربوبيته ربوبية رحمة وإحسان ليعلموا أن هذه الصفة هي التي ربما يرجع إليها معنى الصفات، وليتعلقوا به ويقبلوا على اكتساب مرضاته، منشرحة صدورهم، مطمئنة قلوبهم، ولا ينافي عموم الرحمة وسبقها ما شرعه الله من العقوبات في الدنيا، وما أعده من العذاب في الآخرة للذين يتعدون الحدود، وينتهكون الحرمات، فإنه وإن سمي قهرا بالنسبة لصورته ومظهره فهو في حقيقته وغايته من الرحمة؛ لأن فيه تربية للناس وزجرا لهم عن الوقوع فيما يخرج عن حدود الشريعة الإلهية، وفي الانحراف عنها شقاؤهم وبلاؤهم، وفي الوقوف عندها سعادتهم ونعيمهم، والوالد الرءوف يربي ولده بالترغيب فيما ينفعه والإحسان عليه إذا قام به، وربما لجأ إلى الترهيب والعقوبة إذا اقتضت ذلك الحال، ولله المثل الأعلى لا إله إلا هو وإليه يرجعون.
أقول الآن: إنني لا أرى وجها للبحث في عد ذكر الرحمن الرحيم في سورة الفاتحة تكرارا أو إعادة مطلقا، أما على القول بأن البسملة ليست آية منها فظاهر، وأما على القول بأنها آية منها فيحتاج إلى بيان، وهو أن جعلها آية منها ومن كل سورة يراد به ما تقدم شرحه آنفا من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلقنها ويبلغها للناس على أنها (أي السورة) منزلة من عند الله تعالى أنزلها برحمته لهداية خلقه، وأنه - صلى الله عليه وسلم - لا كسب له فيها ولا صنع، وإنما هو مبلغ لها بأمر الله تعالى. فهي مقدمة للسور كلها إلا سورة براءة المنزلة بالسيف، وكشف الستار عن نفاق المنافقين، فهي بلاء على من أنزل أكثرها في شأنهم لا رحمة بهم. وإذا كان المراد ببدء الفاتحة بالبسملة أنها منزلة من الله رحمة بعباده فلا ينافي ذلك أن يكون من موضوع هذه السورة بيان رحمة الله تعالى مع بيان ربوبيته للعالمين، وكونه الملك الذي يملك وحده جزاء العاملين على أعمالهم، وأنه بهذه الأسماء والصفات كان مستحقا للحمد من عباده، كما أنه مستحق له في ذاته، ولهذا نسب الحمد إلى اسم الذات، الموصوف بهذه الصفات.
والحاصل: أن معنى الرحمة في بسملة كل سورة، هو أن السورة منزلة برحمة الله وفضله فلا يعد ما عساه يكون في أول السورة أو أثنائها من ذكر الرحمة مكررا مع ما في البسملة، وإن كان مقرونا بذكر التنزيل كأول سورة فصلت { حم تنزيل من الرحمن الرحيم } [فصلت: 1 - 2] لأن الرحمة في البسملة للمعنى العام في الوحي والتنزيل، وفي السور للمعنى الخاص الذي تبينه السورة، وقد لاحظ هذا المعنى من قال: إن البسملة آية مستقلة فاصلة بين السور. وأما من قال: إنها آية من كل سورة فمراده أنها تقرأ عند الشروع في قراءتها، وأن من حلف ليقرأن سورة كذا لا يبرأ إلا إذا قرأ البسملة معها، وأن الصلاة لا تصح إلا بقراءتها أيضا.
هذا - وأما حظ العبد من وصف الله بالربوبية فهو أن يحمده تعالى ويشكره باستعمال نعمه التي تتربى بها القوى الجسدية والعقلية فيما خلقت لأجله، فليحسن تربية نفسه وتربية من يوكل إليه تربيته من أهل وولد ومريد وتلميذ، وباستعمال نعمته بهداية الدين في تربية نفسه الروحية والاجتماعية، وكذا تربية من يوكل إليه تربيتهم وألا يبغي كما بغى فرعون فيدعي أنه رب الناس، وكما بغى فراعنة كثيرون ولا يزالون يبغون بجعل أنفسهم شارعين يتحكمون في دين الناس بوضع العبادات التي لم ينزلها الله تعالى، وبقولهم: هذا حلال وهذا حرام من عند أنفسهم أو من عند أمثالهم، فيجعلون أنفسهم شركاء لله في ربوبيته. قال تعالى: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } [الشورى: 21] وفسر النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أربابا بمثل هذا.
وأما حظ العبد من وصف الله بالرحمة فهو أن يطالب نفسه بأن يكون رحيما بكل من يراه مستحقا للرحمة من خلق الله تعالى حتى الحيوان الأعجم، وأن يتذكر دائما أنه يستحق بذلك رحمة الله تعالى، قال - صلى الله عليه وسلم -: إنما يرحم الله من عباده الرحماء رواه الطبراني عن جرير بسند صحيح، وقال: الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم من حديث ابن عمر، ورويناه مسلسلا بالأولية من طريق الشيخ أبي المحاسن محمد القاوقجي الطرابلسي الشامي. وقال - صلى الله عليه وسلم -: من رحم ولو ذبيحة عصفوررحمه الله يوم القيامة رواه البخاري في الأدب المفرد والطبراني عن أبي أمامة، وأشار السيوطي في الجامع الصغير إلى صحته. ومما يدل على الترغيب في رحمة الحيوان والرفق به بغير لفظ الرحمة حديث: في كل ذات كبد حرى أجر رواه أحمد وابن ماجه عن سراقة بن مالك، وأحمد أيضا عن عبد الله بن عمرو. وهو حديث صحيح.
ومن مباحث اللغة أن لفظ الرحمن خاص بالله تعالى كلفظ الجلالة. قالوا: لم يسمع عن أحد من العرب أنه أطلقه على غير الله تعالى، وكذلك لفظ رحمن غير معرف، قالوا: لم يرد إطلاقه على غير الله تعالى إلا في شعر لبعض الذين فتنوا بمسيلمة الكذاب قال فيه: وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا.
وقيل: إن هذا تعنت وغلو لا من الاستعمال المعروف عند العرب، وأما العرب فكانت تطلق لفظ رب على الناس، يقولون: رب الدار ورب هذه الأنعام مثلا لا رب الأنعام مطلقا. قال عبد المطلب في يوم الفيل: أما الإبل فأنا ربها، وأما البيت فإن له ربا يحميه، وقال تعالى في حكاية قول يوسف عليه السلام في مولاه عزيز مصر: { إنه ربي أحسن مثواي } [يوسف: 23] ويرى بعض العلماء أن هذا الاستعمال ممنوع في الإسلام، واستدل بالنهي في الحديث عن قول المملوك لسيده ربي والصواب أن يمنع ما ورد النص به كهذا الاستعمال، وما من شأنه ألا يقال إلا في البارئتعالى كلفظ الرب بالتعريف مطلقا، ولفظ رب الناس، رب المخلوقات، رب العالمين، وما أشبه ذلك.
{مالك يوم الدين}
قرأ عاصم والكسائي ويعقوب: مالك والباقون ملك وعليها أهل الحجاز والفرق بينهما أن المالك ذو الملك بكسر الميم، والملك ذو الملك بضمها، والقرآن يشهد للأولى بمثل قوله: { يوم لا تملك نفس لنفس شيئا } [الإنفطار: 19] وللثانية بقوله: { لمن الملك اليوم } [غافر: 16] قال بعضهم: إن قراءة ملك أبلغ؛ لأن هذا اللفظ يفهم منه معنى السلطان والقوة والتدبير. قال آخرون: إن القراءة الأخرى أبلغ؛ لأن الملك هو الذي يدبر أعمال رعيته العامة، ولا تصرف له بشيء من شئونهم الخاصة، والمالك سلطته أعم، فلا ريب أن مالكه هو الذي يتولى جميع شئونه دون سلطانه.
وأقول الآن: الظاهر أن قراءة ملك أبلغ؛ لأن معناها المتصرف في أمور العقلاء المختارين بالأمر والنهي والجزاء، ولهذا يقال: ملك الناس ولا يقال ملك الأشياء. قاله الراغب. وقال في {ملك يوم الدين} تقديره الملك في يوم الدين؛ لقوله: { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } [غافر: 16] ا هـ. وإنما كان هذا أبلغ؛ لأن السياق يدلنا على أن المراد بالآية تذكير المكلفين بما ينتظرهم من الجزاء على أعمالهم رجاء أن تستقيم أحوالهم، ومعنى {مالك يوم الدين} قد يستفاد من قوله {رب العالمين} على أن مجموع القراءتين يدل على المعنيين فكلاهما ثابت، ولكن القراءة في الصلاة بملك يوم الدين تثير من الخشوع ما لا تثيره القراءة الأخرى التي يفضلها بعضهم؛ لأنها تزيد حرفا في النطق. وورد في الحديث أن للقارئ بكل حرف كذا حسنة، ولكن فاتهم أن حسنة واحدة تكون أكبر تأثيرا في القلب خير من مائة حسنة يكن دونها في التأثير.
و {الدين} يطلق في اللغة على الحساب وعلى المكافأة، وورد كما تدين تدان وقال الشاعر:
وعلى الجزاء وهو قريب من معنى المكافأة، وعلى الطاعة، وعلى الإخضاع، وعلى السياسة؛ يقال: دنته، ودينته فلانا (بالتشديد) أي وليته سياسته، وهو قريب من معنى الإخضاع، وعلى الشريعة: ما يؤخذ العباد به من التكاليف. والمناسب هنا من هذه المعاني الجزاء والخضوع وإنما قال يوم الدين ولم يقل الدين لتعريفنا بأن للدين يوما ممتازا عن سائر الأيام، وهو اليوم الذي يلقى فيه كل عامل عمله ويوفى جزاءه.
ولسائل أن يسأل: أليست كل الأيام أيام جزاء. وكل ما يلاقيه الناس في هذه الحياة من البؤس هو جزاء على تفريطهم في أداء الحقوق والقيام بالواجبات التي عليهم؟ والجواب: بلى إن أيامنا التي نحن فيها قد يقع فيها الجزاء على أعمالنا، ولكن ربما لا يظهر لأربابه إلا على بعضها دون جميعها. والجزاء على التفريط في العمل الواجب إنما يظهر في الدنيا ظهورا تاما بالنسبة إلى مجموع الأمة لا إلى كل فرد من الأفراد، فما من أمة انحرفت عن صراط الله المستقيم ولم تراع سننه في خليقته إلا وأحل بها العدل الإلهي ما تستحق من الجزاء كالفقر والذل وفقد العزة والسلطة. وأما الأفراد فإننا نرى كثيرا من المسرفين الظالمين يقضون أعمارهم منغمسين في الشهوات واللذات، نعم إن ضمائرهم توبخهم أحيانا وإنهم لا يسلمون من المنغصات، وقد يصيبهم النقص في أموالهم، وعافية أبدانهم، وقوة عقولهم. ولكن هذا كله لا يقابل بعض أعمالهم القبيحة، لا سيما الملوك والأمراء الذين تشقى بأعمالهم السيئة أمم وشعوب. كذلك نرى من المحسنين في أنفسهم وللناس من يبتلى بهضم حقوقه، ولا ينال الجزاء الذي يستحقه على عمله، فإن كان قد ينال رضاء نفسه وسلامة أخلاقه وصحة ملكاته، فما ذلك كل ما يستحق، وفي ذلك اليوم يوفى كل فرد من أفراد العالمين جزاءه كاملا لا يظلم شيئا منه، كما قال تعالى: { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } [الزلزلة: 7 - 8].
علمنا الله أنه رحمن رحيم ليجذب قلوبنا إليه، ولكن هل يشعر كل عباده بهذه المنة فينجذبوا إليه الانجذاب المطلوب؟ أليس فينا من يسلك كل سبيل لا يبالي بمستقيم ومعوج؟ بلى، ولهذا أعقب سبحانه ذكر الرحمة بذكر الدين، فعرفنا أنه يدين العباد ويجازيهم على أعمالهم فكان من رحمته بعباده أن رباهم بنوعي التربية كليهما: الترغيب والترهيب، كما تشهد بذلك آيات القرآن الكثيرة { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم } [الحجر: 49 - 50].
{إياك نعبد وإياك نستعين}
ما هي العبادة؟ يقولون هي الطاعة مع غاية الخضوع، وما كل عبارة تمثل المعنى تمام التمثيل، وتجليه للأفهام واضحا لا يقبل التأويل، فكثيرا ما يفسرون الشيء ببعض لوازمه ويعرفون الحقيقة برسومها، بل يكتفون أحيانا بالتعريف اللفظي ويبينون الكلمة بما يقرب من معناها، ومن ذلك هذه العبارة التي شرحوا بها معنى العبادة، فإن فيها إجمالا وتساهلا. وإننا إذا تتبعنا آي القرآن وأساليب اللغة واستعمال العرب لـ عبد وما يماثلها ويقاربها في المعنى - كخضع وخنع وأطاع وذل - نجد أنه لا شيء من هذه الألفاظ يضاهي عبد ويحل محلها ويقع موقعها، ولذلك قالوا: إن لفظ العباد مأخوذ من العبادة، فتكثر إضافته إلى الله تعالى، ولفظ العبيد تكثر إضافته إلى غير الله تعالى؛ لأنه مأخوذ من العبودية بمعنى الرق، وفرق بين العبادة والعبودية بذلك المعنى، ومن هنا قال بعض العلماء: إن العبادة لا تكون في اللغة إلا لله تعالى، ولكن استعمال القرآن يخالفه.
يغلو العاشق في تعظيم معشوقه والخضوع له غلوا كبيرا حتى يفنى هواه في هواه، وتذوب إرادته في إرادته، ومع ذلك لا يسمى خضوعه هذا عبادة بالحقيقة، ويبالغ كثير من الناس في تعظيم الرؤساء والملوك والأمراء، فترى من خضوعهم لهم وتحريهم مرضاتهم ما لا تراه من المتحنثين القانتين، دع سائر العابدين، ولم يكن العرب يسمون شيئا من هذا الخضوع عبادة، فما هي العبادة إذا؟
تدل الأساليب الصحيحة، والاستعمال العربي الصراح على أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية، ناشئ عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها، واعتقاده بسلطة له لا يدرك كنهها وماهيتها. وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به، ولكنها فوق إدراكه، فمن ينتهي إلى أقصى الذل لملك من الملوك لا يقال إنه عبده وإن قبل موطئ أقدامه، ما دام سبب الذل والخضوع معروفا وهو الخوف من ظلمه المعهود، أو الرجاء بكرمه المحدود، اللهم إلا بالنسبة إلى الذين يعتقدون أن الملك قوة غيبية سماوية أفيضت على الملوك من الملأ الأعلى، واختارتهم للاستعلاء على سائر أهل الدنيا، لأنهم أطيب الناس عنصرا، وأكرمهم جوهرا، وهؤلاء هم الذين انتهى بهم هذا الاعتقاد إلى الكفر والإلحاد، فاتخذوا الملوك آلهة وأربابا وعبدوهم عبادة حقيقية.
للعبادة صور كثيرة في كل دين من الأديان شرعت لتذكير الإنسان بذلك الشعور بالسلطان الإلهي الأعلى الذي هو روح العبادة وسرها، ولكل عبادة من العبادات الصحيحة أثر في تقويم أخلاق القائم بها وتهذيب نفسه، والأثر إنما يكون عن ذلك الروح، والشعور الذي قلنا إنه منشأ التعظيم والخضوع، فإذا وجدت صورة العبادة خالية من هذا المعنى لم تكن عبادة، كما أن صورة الإنسان وتمثاله ليس إنسانا.
خذ إليك عبادة الصلاة مثلا، وانظر كيف أمر الله بإقامتها دون مجرد الإتيان بها، وإقامة الشيء: هي الإتيان به مقوما كاملا يصدر عن علته وتصدر عنه آثاره. وآثار الصلاة ونتائجها هي ما أنبأنا الله تعالى بها بقوله: { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } [العنكبوت: 45] وقوله - عز وجل -: { إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين } [المعارج: 19 - 22] وقد توعد الذين يأتون بصورة الصلاة من الحركات والألفاظ مع السهو عن معنى العبادة وسرها فيها المؤدي إلى غايتها بقوله: { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون } [الماعون: 4 - 7] فسماهم مصلين، لأنهم أتوا بصورة الصلاة، ووصفهم بالسهو عن الصلاة الحقيقية التي هي توجه القلب إلى الله تعالى المذكر بخشيته، والمشعر للقلوب بعظم سلطانه، ثم وصفهم بأثر هذا السهو وهو الرياء ومنع الماعون. وذكر الأستاذ الإمام أن الرياء ضربان: رياء النفاق وهو العمل لأجل رؤية الناس، ورياء العادة وهو العمل بحكمها من غير ملاحظة معنى العمل وسره وفائدته، ولا ملاحظة من يعمل له ويتقرب إليه به، وهو ما عليه أكثر الناس، فإن صلاة أحدهم في طور الرشد والعقل هي عين ما كان يحاكي به أباه في طور الطفولية عندما يراه يصلي - يستمر على ذلك بحكم العادة من غير فهم ولا عقل، وليس لله شيء في هذه الصلاة، وقد ورد في بعض الأحاديث: أن من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا وأنها تلف كما يلف الثوب البالي ويضرب بها وجهه وأما الماعون فهو المعونة والخير الذي تقدم في الآية الأخرى أن من شأن الإنسان أن يكون منوعا له إلا المصلين.
والاستعانة: طلب المعونة، وهي إزالة العجز والمساعدة على إتمام العمل الذي يعجز المستعين عن الاستقلال به بنفسه.
ثم تكلم الأستاذ الإمام على حصر العبادة والاستعانة في الله تعالى الذي دل عليه تقديم المفعول {إياك} على الفعل {نعبد} و {نستعين} فقال ما مثاله:
أمرنا الله تعالى بألا نعبد غيره؛ لأن السلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب ليست إلا له دون غيره، فلا يشاركه فيها أحد فيعظم تعظيم العبادة، وأمرنا بألا نستعين بغيره أيضا، وهذا يحتاج إلى البيان؛ لأنه أمرنا أيضا في آيات أخرى بالتعاون: { وتعاونوا على البر والتقوى } [المائدة: 2] فما معنى حصر الاستعانة به مع ذلك؟
الجواب: أن كل عمل يعمله الإنسان تتوقف ثمرته ونجاحه على حصول الأسباب التي اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون مؤدية إليه وانتفاء الموانع التي من شأنها بمقتضى الحكمة أن تحول دونه وقد مكن الله تعالى الإنسان بما أعطاه من العلم والقوة من دفع بعض الموانع وكسب بعض الأسباب، وحجب عنه البعض الآخر، فيجب علينا أن نقوم بما في استطاعتنا من ذلك. ونبذل في إتقان أعمالنا كل ما نستطيع من حول وقوة، وأن نتعاون ويساعد بعضنا بعضا على ذلك. ونفوض الأمر فيما وراء كسبنا إلى القادر على كل شيء، ونلجأ إليه وحده، ونطلب المعونة المتممة للعمل والمواصلة لثمرته منه سبحانه دون سواه، إذ لا يقدر على ما وراء الأسباب الممنوحة لكل البشر على السواء إلا مسبب الأسباب، ورب الأرباب، فقوله تعالى: {وإياك نستعين} متمم لمعنى قوله: {إياك نعبد} لأن الاستعانة بهذا المعنى فزع من القلب إلى الله وتعلق من النفس به، وذلك من مخ العبادة، فإذا توجه العبد بها إلى غير الله تعالى كان ضربا من ضروب العبادة الوثنية التي كانت ذائعة في زمن التنزيل وقبله، وخصت بالذكر لئلا يتوهم الجهلاء أن الاستعانة بمن اتخذوهم أولياء من دون الله، واستعانوا بهم فيما وراء الأسباب المكتسبة لعامة الناس، هي كالاستعانة بسائر الناس في الأسباب العامة، فأراد الحق جل شأنه أن يرفع هذا اللبس عن عباده ببيان أن الاستعانة بالناس فيما هو في استطاعة الناس إنما هو ضرب من استعمال الأسباب المسنونة، وما منزلتها إلا كمنزلة الآلات فيما هي آلات له، بخلاف الاستعانة بهم في شئون تفوق القدرة والقوى الموهوبة لهم، والأسباب المشتركة بينهم، كالاستعانة في شفاء المرض بما وراء الدواء، وعلى غلبة العدو بما وراء العدة والعدة، فإن ذلك مما لا يجوز الفزع والتوجه فيه إلى غير الله تعالى صاحب السلطان الأعظم، على ما لا يصل إليه سلطان أحد من العالم.
ضرب الأستاذ الإمام مثلا لذلك، الزارع يبذل جهده في الحرث والعزق وتسميد الأرض وريها، ويستعين بالله تعالى على إتمام ذلك بمنع الآفات والجوائح السماوية أو الأرضية، ومثل بالتاجر يحذق في اختيار الأصناف، ويمهر في صناعة الترويج، ثم يتوكل على الله فيما بعد ذلك. ثم قال: ومن هنا تعلمون أن الذين يستعينون بأصحاب الأضرحة والقبور على قضاء حوائجهم، وتيسير أمورهم، وشفاء أمراضهم، ونماء حرثهم وزرعهم، وهلاك أعدائهم، وغير ذلك من المصالح، هم عن صراط التوحيد ناكبون، وعن ذكر الله معرضون.
أرشدتنا هذه الكلمة الوجيزة {وإياك نستعين} إلى أمرين عظيمين هما معراج السعادة في الدنيا والآخرة: (أحدهما): أن نعمل الأعمال النافعة، ونجتهد في إتقانها ما استطعنا؛ لأن طلب المعونة لا يكون إلا على عمل بذل فيه المرء طاقته فلم يوفه حقه، أو يخشى ألا ينجح فيه، فيطلب المعونة على إتمامه وكماله، فمن وقع من يده القلم على المكتب لا يطلب المعونة من أحد على إمساكه، ومن وقع تحت عبء ثقيل يعجز عن النهوض به وحده، يطلب المعونة من غيره على رفعه، ولكن بعد استفراغ القوة في الاستقلال به، وهذا الأمر هو مرقاة السعادة الدنيوية، وركن من أركان السعادة الأخروية.
(ثانيهما): ما أفاده الحصر من وجوب تخصيص الاستعانة بالله تعالى وحده فيما وراء ذلك، وهو روح الدين، وكمال التوحيد الخالص الذي يرفع نفوس معتقديه ويخلصها من رق الأغيار، ويفك إرادتهم من أسر الرؤساء الروحانيين، والشيوخ الدجالين، ويطلق عزائمهم من قيد المهيمنين الكاذبين، من الأحياء والميتين، فيكون المؤمن مع الناس حرا خالصا وسيدا كريما، ومع الله عبدا خاضعا { ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما } [الأحزاب: 71].
وأقول أيضا: عبادة الله تعالى هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لألوهيته، واستعانته هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لربوبيته، أما الأول فظاهر؛ لأنه هو الإله الحق فلا يعبد بحق سواه، وأما الثاني: فلأنه هو المربي للعباد الذي وهب لهم جميع ما تكمل به تربيتهم الصورية والمعنوية، ومن هنا تعلم أن إيراد ذكر العبادة والاستعانة بعد ذكر اسم الجلالة الأعظم، واسم الرب الأكرم، إنما هو لترتبهما عليهما من قبيل ترتيب النشر على اللف. والاستعانة بهذا المعنى ترادف التوكل على الله وتحل محله، وهو كمال التوحيد والعبادة الخالصة، ولذلك جمع القرآن بينهما في مثل قوله تعالى: { ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه } [هود: 123].
فهذه الاستعانة هي ثمرة التوحيد واختصاص الله تعالى بالعبادة، فإن من معنى العبادة: الشعور بأن السلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب العامة، الموهوبة من الله تعالى لعباده كافة، هي لله وحده، كما تنطق به الآية التي استشهدنا بها آنفا على قرن العبادة بالتوكل، فمن كان موحدا خالصا لا يستعين بغير الله تعالى قط، فما كان من أنواع المعونة داخلا في حلقات سلسلة الأسباب كان طلبه بسببه طلبا من الله تعالى ولكنه يحتاج في تحقق ذلك إلى قصد وملاحظة وشهود قلبي، وما كان غير داخل فيها يتوجه في طلبه إلى الله تعالى بلا واسطة ولا حجاب، وبهذا البيان تعلم أنه لا منافاة بين التوحيد والتوكل وبين الأخذ بالأسباب وإقامة سنن الله تعالى فيها، بل الكمال والأدب في الجمع بينهما، فالسيد المالك إذا نصب لعبده وخدمه مائدة يأكلون منها غدوا وعشيا، وجعل لهم خدما يقومون بأمرها، لا يكون طلب الطعام منه إلا بالاختلاف إلى المائدة، وإنما ينبغي ألا يغفلوا بها وبخدمها عن ذكر صاحب الفضل الذي أنشأها بماله وسخر أولئك الخدم للآكلين عليها، ولا عن حمده وشكره، فهذا مثال مائدة الكون بأسبابه ومسبباته، والعبد إذا احتاج شيئا من الأشياء التي لم يجعلها سيده مبذولة لجميع عبيده في كل وقت، طلبه منه دون سواه، فإن أظهر الحاجة إلى غيره كان ذلك من قلة ثقته بمولاه، وجعل ذلك الغير في مرتبته أو أجدر منه بالفضل. هذا في العبيد مع السادة الذين لهم نظراء وأنداد، فكيف إذا كان العبد الذي يتوجه إلى غير مولاه، لا يجد من يتوجه إليه سواه، إلا أمثاله من العبيد المحتاجين إلى المولى مثله؛ لأنه هو السيد الصمد الذي ليس له كفوا أحد؟
ثم إن لفظ الاستعانة يشعر بأن يطلب العبد من الربتعالى الإعانة على شيء له فيه كسب ليعينه على القيام به، وفي هذا تكريم للإنسان بجعل عمله أصلا في كل ما يحتاج إليه لإتمام تربية نفسه وتزكيتها، وإرشاد له إلى أن ترك العمل والكسب، ليس من سنة الفطرة ولا من هدي الشريعة، فمن تركه كان كسولا مذموما لا متوكلا محمودا، وبتذكيره من جهة أخرى بضعفه لكيلا يغتر، فيتوهم أنه مستغن بكسبه عن عناية ربه، فيكون من الهالكين في عاقبة أمره.
إذا تدبرت هذا فهمت منه نكتة من نكت تقديم العبادة على الاستعانة، وهي أن الثانية ثمرة للأولى، ولا ينافي هذا أن العبادة نفسها مما يستعان عليه بالله تعالى ليوفق العابد للإتيان بها على الوجه المرضي له - عز وجل -. لا منافاة بين الأمرين؛ لأن الثمرة التي تخرج من الشجرة تكون حاوية للنواة التي تخرج منها شجرة أخرى. فالعبادة تكون سببا للمعونة من وجه، والمعونة تكون سببا للعبادة من وجه آخر، كذلك الأعمال تكون الأخلاق التي هي مناشئ الأعمال، فكل منهما سبب ومسبب وعلة ومعلول، والجهة مختلفة فلا دور في المسألة.
وأقول أيضا إن نكتة تقديم إياك على الفعلين نعبد، ونستعين هي إفادة الاختصاص والحصر على المشهور الذي جرى عليه الأستاذ الإمام كغيره فالمعنى إذا: نعبدك ولا نعبد غيرك ونستعينك ولا نستعين بسواك. وقد استخرج له بعض الغواصين على المعاني نكتا أخرى (منها) أن إياك ضمير راجع إلى الله تعالى، وقيل إن إيا اسم ظاهر مضاف إلى الضمير الذي هو الكاف، فتقديمه على الوجهين يؤذن بالاهتمام به الذي هو العلة الأصلية العامة للتقديم في هذه اللغة (ومنها) أنه من الأدب أيضا، (ومنها) أن إفادة الحصر بهذا الاسم أو الضمير المقدم على الفعل أبلغ من إفادة الحصر بالضمير المتصل الذي يقرن به ما يدل على ذلك من الكلم، كقولك: إنما نعبدك وإنما نستعينك، أو نستعين بك وحدك وإعادة، إياك مع الفعل الثاني يفيد أن كلا من العبادة والاستعانة مقصود بالذات فلا يستلزم كل منهما الآخر. ذلك بأن الاستعانة بالله تعالى يجب أن تكون عامة في كل شيء، ومن الناس من لا يستعين بالله على شيء من أعماله الاختيارية، زعما منهم أنهم يستقلون بذلك بدون إعانة خاصة منه تعالى كالقدرية. وأفضل الاستعانة ما كان على الطاعة والخير، وقد أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيد معاذ يوما وقال: والله إني لأحبك، أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك عبادتك وقد روينا هذا المعنى في الأحاديث المسلسلة. قال لي شيخنا أبو المحاسن محمد القاوقجي في طرابلس الشام: إني أحبك فقل: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ، قال لي شيخنا محمد عابد السندي في الحرم النبوي الشريف: إني أحبك إلخ وذكر سنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
{اهدنا الصراط المستقيم}
ذكر الأستاذ الإمام أولا ما قالوه في معنى الهداية لغة من أنها: الدلالة بلطف على ما يوصل إلى المطلوب، ثم بين أنواعها ومراتبها فقال ما مثاله: منح الله تعالى الإنسان أربع هدايات يتوصل بها إلى سعادته.
(أولاها): هداية الوجدان الطبيعي والإلهام الفطري. وتكون للأطفال منذ ولادتهم، فإن الطفل بعد ما يولد يشعر بألم الحاجة إلى الغذاء فيصرخ طالبا له بفطرته، وعندما يصل الثدي إلى فيه يلهم التقامه وامتصاصه. (الثانية): هداية الحواس والمشاعر، وهي متممة للهداية الأولى في الحياة الحيوانية، ويشارك الإنسان فيهما الحيوان الأعجم، بل هو فيهما أكمل من الإنسان، فإن حواس الحيوان وإلهامه يكملان له بعد ولادته بقليل، بخلاف الإنسان فإن ذلك يكمل فيه بالتدريج في زمن غير قصير، ألا تراه عقب الولادة لا تظهر عليه علامات إدراك الأصوات والمرئيات، ثم بعد مدة يبصر، ولكنه لقصر نظره يجهل تحديد المسافات، فيحسب البعيد قريبا فيمد يديه إليه ليتناوله وإن كان قمر السماء ولا يزال يغلط حسه حتى في طور الكمال:
(الهداية الثالثة): العقل، خلق الله الإنسان ليعيش مجتمعا ولم يعط من الإلهام والوجدان ما يكفي مع الحس الظاهر لهذه الحياة الاجتماعية كما أعطي النحل والنمل، فإن الله قد منحها من الإلهام ما يكفيها، لأن تعيش مجتمعة يؤدي كل واحد منها وظيفة العمل لجميعها، ويؤدي الجميع وظيفة العمل للواحد، وبذلك قامت حياة أنواعها كما هو مشاهد. أما الإنسان فلم يكن من خاصة نوعه أن يتوفر له مثل ذلك الإلهام، فحباه الله هداية هي أعلى من هداية الحس والإلهام، وهي العقل الذي يصحح غلط الحواس والمشاعر ويبين أسبابه، وذلك أن البصر يرى الكبير على البعد صغيرا، ويرى العود المستقيم في الماء معوجا، والصفراوي يذوق الحلو مرا. والعقل هو الذي يحكم بفساد مثل هذا الإدراك. (الهداية الرابعة): الدين، يغلط العقل في إدراكه كما تغلط الحواس، وقد يهمل الإنسان استخدام حواسه وعقله فيما فيه سعادته الشخصية النوعية ويسلك بهذه الهدايات مسالك الضلال، فيجعلها مسخرة لشهواته ولذاته حتى تورده موارد الهلكة. فإذا وقعت المشاعر في مزالق الزلل، واسترقت الحظوظ والأهواء العقل فصار يستنبط لها ضروب الحيل، فكيف يتسنى للإنسان مع ذلك أن يعيش سعيدا؟ وهذه الحظوظ والأهواء ليس لها حد يقف الإنسان عنده وما هو بعائش وحده، وكثيرا ما تتطاول به إلى ما في يد غيره، فهي لهذا تقتضي أن يعدو بعض أفراده على بعض، فيتنازعون ويتدافعون، ويتجادلون ويتجالدون، ويتواثبون ويتناهبون حتى يفني بعضهم بعضا، ولا تغني عنهم تلك الهدايات شيئا فاحتاجوا إلى هداية ترشدهم في ظلمات أهوائهم، إذا هي غلبت على عقولهم، وتبين لهم حدود أعمالهم ليقفوا عندها ويكفوا أيديهم عما وراءها. ثم إن مما أودع في غرائز الإنسان الشعور بسلطة غيبية متسلطة على الأكوان ينسب إليها كل ما لا يعرف له سببا. لأنها هي الواهبة كل موجود ما به قوام وجوده، وبأن له حياة وراء هذه الحياة المحدودة، فهل يستطيع أن يصل بتلك الهدايات الثلاث إلى تحديد ما يجب عليه لصاحب تلك السلطة الذي خلقه وسواه، ووهبه هذه الهدايات وغيرها، وما فيه سعادته في تلك الحياة الثانية؟ كلا إنه في أشد الحاجة إلى هذه الهداية الرابعة - الدين - وقد منحه الله تعالى إياها.
أشار القرآن إلى أنواع الهداية التي وهبها الله تعالى للإنسان في آيات كثيرة منها قوله تعالى: { وهديناه النجدين } [البلد: 10] أي طريقي السعادة والشقاوة والخير والشر.
قال الأستاذ الإمام: وهذه تشمل هداية الحواس الظاهرة والباطنة، وهداية العقل وهداية الدين، ومنها قوله تعالى: { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } [فصلت: 17] أي دللناهم على طريقي الخير والشر، فسلكوا سبل الشر المعبر عنه بالعمى. وذكر غير هاتين الآيتين مما في معناهما ثم قال
بقي معنا هداية أخرى وهي المعبر عنها بقوله تعالى: { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } [الأنعام: 90] فليس المراد من هذه الهداية ما سبق ذكره، فالهداية في الآيات السابقة بمعنى الدلالة، وهي بمنزلة إيقاف الإنسان على رأس الطريقين: المهلك، والمنجي، مع بيان ما يؤدي إليه كل منهما، وهي مما تفضل الله به على جميع أفراد البشر. وأما هذه الهداية فهي أخص من تلك، والمراد بها إعانتهم وتوفيقهم للسير في طريق الخير والنجاة مع الدلالة، وهي لم تكن ممنوحة لكل أحد كالحواس والعقل وشرع الدين.
ولما كان الإنسان عرضة للخطأ والضلال في فهم الدين وفي استعمال الحواس والعقل على ما قدمنا، كان محتاجا إلى المعونة الخاصة، فأمرنا الله بطلبها منه في قوله {اهدنا الصراط المستقيم} فمعنى {اهدنا الصراط المستقيم دلنا دلالة تصحبها معونة غيبية من لدنك تحفظنا بها من الضلال والخطأ، وما كان هذا أول دعاء علمنا الله إياه، إلا لأن حاجتنا إليه أشد من حاجتنا إلى كل شيء سواه.
ثم بين معنى الصراط (وهو الطريق) واشتقاقه، وقراءة الصراط بالسين المهملة واشتقاقها على نحو ما في كتب اللغة والتفسير، ومعنى المستقيم: وهو ضد المعوج، وقال: ليس المراد بمقابل المستقيم المعوج ذا التموج والتعاريج، بل المراد: كل ما فيه انحراف عن الغاية التي يجب أن ينتهي سالكه إليها. والمستقيم في عرف الهندسة: أقرب موصل بين طرفين، وهذا المعنى لازم للمعنى اللغوي كما هو ظاهر بالبداهة. وإنما قلنا: إن المراد بمقابل المستقيم كل ما فيه انحراف؛ لأن كل من يميل وينحرف عن الجادة يكون أضل عن الغاية ممن يسير عليها في خط ذي تعاريج؛ لأن هذا الأخير قد يصل إلى الغاية بعد زمن طويل. ولكن الأول لا يصل إليها أبدا. بل يزداد عنها بعدا كلما أوغل في السير وانهمك فيه.
وقد قالوا: إن المراد بالصراط المستقيم، الدين، أو الحق، أو العدل، أو الحدود. ونحن نقول: إنه جملة ما يوصلنا إلى سعادة الدنيا والآخرة من عقائد وآداب وأحكام وتعاليم. لم سمي الموصل إلى السعادة من ذلك صراطا وطريقا؟ خذ الحق مثلا وهو العلم الصحيح بالله وبالنبوة وبأحوال الكون والناس، ترى معنى الصراط فيه واضحا؛ لأن السبيل أو الصراط ما أسلكه وأسير فيه لبلوغ الغاية التي أقصدها، كذلك الحق الذي يبين لي الواقع الثابت في العقيدة الصحيحة هو كالجادة بين السبل المتفرقة المضلة، فالطريق الواضح للحس، يشبه الحق للعقل والنفس، سير حسي، وسير معنوي، كذلك إذا اعتبرت هذا المعنى في الحدود والأحكام تجده واضحا - قسمت أحكام الأعمال إلى: واجب، ومندوب، ومباح، ومحرم ومكروه، فكان هذا مريحا لنا من تمييز الخير من الشر بأنفسنا واجتهادنا، فبيان الأحكام بالهداية الكبرى وهي الدين كالطريق الواضح يسلك بالعمل. ومع هذا تجد الشهوات تتلاعب بالأحكام وترجعها إلى أهوائها كما يصرف السفهاء عقولهم وحواسهم فيما يرديهم. وهذا التلاعب بالدين إنما يصدر من علمائه. وضرب الأستاذ الإمام لذلك مثلا أحد الشيوخ المتفقهين، سرق كتابا من وقف أحد الأروقة في الأزهر مستحلا له بحجة أن قصد الواقف الانتفاع به، وهو يحصل بوجود الكتاب عنده، وأنه قد يفوت النفع ببقائه في الرواق حيث وضعه الواقف، إذ لا يوجد فيه من يفهمه مثله بزعمه!! واستحلال المحرمات بمثل هذا التأويل ليس بقليل، ولذلك كان الإنسان محتاجا أشد الاحتياج إلى العناية الإلهية الخاصة لأجل الاستقامة والسير في تلك الهدايات الأربع سيرا مستقيما يوصل إلى السعادة. لهذا نبهنا الله جل شأنه أن نلجأ إليه، ونسأله الهداية ليكون عونا لنا ينصرنا على أهوائنا وشهواتنا، وأن تكون استعانتنا في ذلك به لا بسواه، بعد أن نبذل ما نستطيع من الفكر والجهاد في معرفة ما أنزل إلينا من الشريعة والأحكام وأخذ أنفسنا بما نعلم من ذلك. وهذا أفضل ما نطلب فيه المعونة منه جل شأنه لاشتماله على خيري الدنيا والآخرة. فهو بهذه الآية يعلمنا كيف نستعين بعد أن علمنا اختصاصه بالاستعانة في قوله: {وإياك نستعين}.
{صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}
قال الأستاذ: الصراط المستقيم: هو الطريق الموصل إلى الحق، ولكنه تعالى ما بينه بذلك كما بينه في نحو سورة العصر وإنما بينه بإضافته إلى من سلك هذا الصراط كما قال في سورة الأنعام: {فبهداهم اقتده} وقد قلنا: إن الفاتحة مشتملة على إجمال ما فصل في القرآن حتى من الأخبار، التي هي مثل الذكرى والاعتبار، وينبوع العظة والاستبصار، وأخبار القرآن كلها تنطوي في إجمال هذه الآية.
(قال): فسر بعضهم المنعم عليهم بالمسلمين، والمغضوب عليهم: باليهود، والضالين بالنصارى، ونحن نقول إن الفاتحة أول سورة نزلت كما قال الإمام علي رضي الله عنه، وهو أعلم بهذا من غيره؛ لأنه تربى في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأول من آمن به، وإن لم تكن أول سورة على الإطلاق فلا خلاف في أنها من أوائل السور (كما مر في المقدمة) ولم يكن المسلمون في أول نزول الوحي بحيث يطلب الاهتداء بهداهم، وما هداهم إلا من الوحي ثم هم المأمورون بأن يسألوا الله أن يهديهم هذه السبيل، سبيل من أنعم الله عليهم من قبلهم، فأولئك غيرهم، وإنما المراد بهذا ما جاء في قوله تعالى: { فبهداهم اقتده } [الأنعام: 90] وهم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من الأمم السالفة. فقد أحال على معلوم أجمله في الفاتحة وفصله في سائر القرآن بقدر الحاجة، فثلاثة أرباع القرآن تقريبا قصص. وتوجيه للأنظار إلى الاعتبار بأحوال الأمم، في كفرهم وإيمانهم، وشقاوتهم وسعادتهم، ولا شيء يهدي الإنسان كالمثلات والوقائع. فإذا امتثلنا الأمر والإرشاد، ونظرنا في أحوال الأمم السالفة، وأسباب علمهم وجهلهم، وقوتهم وضعفهم، وعزهم وذلهم، وغير ذلك مما يعرض للأمم - كان لهذا النظر أثر في نفوسنا يحملنا على حسن الأسوة والاقتداء بأخبار تلك الأمم فيما كان سبب السعادة والتمكن في الأرض، واجتناب ما كان سبب الشقاوة أو الهلاك والدمار. ومن هنا ينجلي للعاقل شأن علم التاريخ وما فيه من الفوائد والثمرات، وتأخذه الدهشة والحيرة إذا سمع أن كثيرا من رجال الدين من أمة هذا كتابها يعادون التاريخ باسم الدين ويرغبون عنه، ويقولون: إنه لا حاجة إليه ولا فائدة له. وكيف لا يدهش ويحار والقرآن ينادي بأن معرفة أحوال الأمم من أهم ما يدعو إليه هذا الدين؟ { ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات } [الرعد: 6].
وهاهنا سؤال وهو: كيف يأمرنا الله تعالى باتباع صراط من تقدمنا وعندنا أحكام وإرشادات لم تكن عندهم، وبذلك كانت شريعتنا أكمل من شرائعهم، وأصلح لزماننا وما بعده؟ والقرآن يبين لنا الجواب وهو أنه يصرح بأن دين الله في جميع الأمم واحد، وإنما تختلف الأحكام بالفروع التي تختلف باختلاف الزمان، وأما الأصول فلا خلاف فيها. قال تعالى: { قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } [آل عمران: 64] الآية، وقال تعالى: { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } [النساء: 163] الآية. فالإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر، وترك الشر وعمل البر، والتخلق بالأخلاق الفاضلة مستو في الجميع. وقد أمرنا الله بالنظر فيما كانوا عليه والاعتبار بما صاروا إليه: لنقتدي بهم في القيام على أصول الخير. وهو أمر يتضمن الدليل على أن في ذلك الخير والسعادة. على حسب طريقة القرآن في قرن الدليل بالمدلول والعلة بالمعلول، والجمع بين السبب والمسبب. وتفصيل الأحكام التي هذه كلياتها بالإجمال، نعرفه من شرعنا وهدي نبينا عليه الصلاة والسلام ا هـ بتفصيل وإيضاح. وأزيد هنا أن في الإسلام من ضروب الهداية ما قد يعد من الأصول الخاصة بالإسلام، ويرى أنه مما يستدرك على ما قرره الأستاذ الإمام، كبناء العقائد في القرآن على البراهين العقلية والكونية، وبناء الأحكام الأدبية والعملية على قواعد المصالح والمنافع ودفع المضار والمفاسد، وكبيان أن للكون سننا مطردة تجري عليه عوالمه العاقلة وغير العاقلة، وكالحث على النظر في الأكوان، للعلم والمعرفة بما فيها من الحكم والأسرار التي يرتقي بها العقل وتتسع بها أبواب المنافع للإنسان، وكل ذلك مما امتاز به القرآن. والجواب عن هذا أنه تكميل لأصول الدين الثلاثة التي بعث بها كل نبي مرسل لجعل بنائه رصينا مناسبا لارتقاء الإنسان. وأما تلك الأصول وهي: الإيمان الصحيح، وعبادة الله تعالى وحده، وحسن المعاملة مع الناس، فهي التي لا خلاف فيها.
وأما وصفه تعالى الذين أنعم عليهم بأنهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فالمختار فيه أن المغضوب عليهم هم الذين خرجوا عن الحق بعد علمهم به، والذين بلغهم شرع الله ودينه فرفضوه ولم يتقبلوه، انصرافا عن الدليل، ورضاء بما ورثوه من القيل، ووقوفا عند التقليد، وعكوفا على هوى غير رشيد، وغضب الله يفسرونه بلازمه: وهو العقاب، ووافقهم الأستاذ الإمام، والذي ينطبق على مذهب السلف أن يقال: إنه شأن من شئونه تعالى يترتب عليه عقوبته وانتقامه، وإن الضالين هم الذين لم يعرفوا الحق ألبتة، أو لم يعرفوه على الوجه الصحيح الذي يقرن به العمل كما سيأتي تفصيله. وقرن المعطوف في قوله {ولا الضالين} بلا لما في غير من معنى النفي، أي وغير الضالين، ففيه تأكيد للنفي. وهو يدل على أن الطوائف ثلاث: المنعم عليهم، والمغضوب عليهم، والضالون. ولا شك أن المغضوب عليهم ضالون أيضا لأنهم بنبذهم الحق وراء ظهورهم قد استدبروا الغاية واستقبلوا غير وجهتها، فلا يصلون منها إلى المطلوب، ولا يهتدون فيها إلى مرغوب، ولكن فرقا بين من عرف الحق فأعرض عنه على علم، وبين من لم يظهر له الحق فهو تائه بين الطرق، لا يهتدي إلى الجادة الموصلة منها، وهم من لم تبلغهم الرسالة، أو بلغتهم على وجه لم يتبين لهم فيه الحق. فهؤلاء هم أحق باسم الضالين، فإن الضال حقيقة: هو التائه الواقع في عماية لا يهتدي معها إلى المطلوب، والعماية في الدين: هي الشبهات التي تلبس الحق بالباطل وتشبه الصواب بالخطأ.
الأستاذ الإمام: الضالون على أقسام: - القسم الأول من لم تبلغهم الدعوة إلى الرسالة، أو بلغتهم على وجه لا يسوق إلى النظر. فهؤلاء لم يتوفر لهم من أنواع الهداية سوى ما يحصل بالحس والعقل، وحرموا رشد الدين، فإن لم يضلوا في شئونهم الدنيوية ضلوا لا محالة فيما تطلب به نجاة الأرواح وسعادتها في الحياة الأخرى. على أن من شأن الدين الصحيح أن يفيض على أهله من روح الحياة ما به يسعدون في الدنيا والآخرة معا، فمن حرم الدين حرم السعادتين، وظهر أثر التخبط والاضطراب في أعماله المعاشية، وحل به من الرزايا ما يتبع الضلال والخبط عادة، سنة الله في هذا العالم ولن تجد لسنته تبديلا. أما أمرهم في الآخرة فعلى أنهم لن يساووا المهتدين في منازلهم، وقد يعفو الله عنهم وهو الفعال لما يريد.
وأزيد في إيضاح كلام الأستاذ: أن الذين حرموا هداية الدين لا يعقل أن يؤاخذوا في الآخرة على ترك شيء مما لا يعرف إلا بهذه الهداية. وهذا هو معنى كونهم غير مكلفين، وعليه جمهور المتكلمين لقوله تعالى في سورة الإسراء { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } [الإسراء: 15] ومن قال: إنهم مكلفون بالعقل لا يظهر وجه لقوله إلا إذا أراد أن حالهم في الآخرة تكون على حسب ارتقاء أرواحهم بهداية العقل وسلامة الفطرة، إذ لا شك أن من لم يبعث فيهم رسول يتفاوتون في إدراكهم وأعمالهم بتفاوت استعدادهم الفطري وما يصادفون من حسن التربية وقبحها. وبهذا يجمع بين القولين في تكليفهم وعدمه أو يفصل بينها. وما يعطيهم الله تعالى إياه في الآخرة على حسب حالهم في الخير والشر والفضيلة والرزيلة - يكون جزاء عادلا على أعمالهم الاختيارية ويزيدهم من فضله إن شاء وسأفصل هذا المعنى في تفسير الآيات المنزلة فيه إن شاء الله تعالى. وأعود الآن إلى إتمام سياق الأستاذ، قال:
القسم الثاني: من بلغته الدعوة على وجه يبعث على النظر، فساق همته إليه، واستفرغ جهده فيه، ولكن لم يوفق إلى الإيمان بما دعي إليه، وانقضى عمره وهو في الطلب، وهذا القسم لا يكون إلا أفرادا متفرقة في الأمم، ولا يعم حاله شعبا من الشعوب، فلا يظهر له أثر في أحوالها العامة، وما يكون لها من سعادة وشقاء في حياتها الدنيا أما صاحب هذه الحالة فقد ذهب بعض الأشاعرة إلى أنه ممن ترجى له رحمة الله تعالى، وينقل صاحب هذا الرأي مثله عن أبي الحسن الأشعري وأما على رأي الجمهور فلا ريب أن مؤاخذته أخف من مؤاخذة الجاحد الذي أنكر التنزيل، واستعصى على الدليل، وكفر بنعمة العقل، ورضي بحظه من الجهل.
القسم الثالث: من بلغتهم الرسالة وصدقوا بها، بدون نظر في أدلتها ولا وقوف على أصولها، فاتبعوا أهواءهم في فهم ما جاءت به من أصول العقائد، وهؤلاء هم المبتدعة في كل دين، ومنهم المبتدعون في دين الإسلام، وهم المنحرفون في اعتقادهم عما تدل عليه جملة القرآن وما كان عليه السلف الصالح وأهل الصدر الأول، ففرقوا الأمة إلى مشارب، يغص بمائها الوارد، ولا يرتوي منها الشارب، قال: وإني أشير إلى طرف من آثارهم في الناس: يأتي الرجل إلى دوائر القضاء فيستحلف بالله العلي العظيم، أو بالمصحف الكريم وهو كلام الله القديم، - أنه ما فعل كذا، فيحلف وعلامة الكذب بادية على وجهه، فيأتيه المستحلف من طريق آخر ويحمله على الحلف بشيخ من المشايخ الذين يعتقد لهم الولاية، فيتغير لونه، وتضطرب أركانه، ثم يرجع في أليته ويقول الحق، ويقر بأنه فعل ما حلف أولا أنه لم يفعله، تكريما لاسم ذلك الشيخ، وخوفا منه أن يسلب عنه نعمة أو يحل به نقمة إذا حلف باسمه كاذبا. فهذا ضلال في أصول العقيدة، يرجع إلى الضلال في الإيمان بالله تعالى وما يجب له من الوحدانية في الأفعال، ولو أردنا أن نسرد ما وقع فيه المسلمون من الضلال في العقائد الأصلية بسبب البدع التي عرضت على دين الإسلام لطال المقال، واحتيج إلى وضع مجلدات في وجوه الضلال، ومن أشنعها أثرا، وأشدها ضررا، خوض رؤساء الفرق منهم في مسائل القضاء والقدر، والاختيار والجبر، وتحقيق الوعد والوعيد، وتهوين مخالفة الله على نفوس العبيد.
إذا وزنا ما في أدمغتنا من الاعتقادات بكتاب الله تعالى من غير أن ندخلها أولا فيه يظهر لنا كوننا مهتدين أو ضالين. وأما إذا أدخلنا ما في أدمغتنا في القرآن وحشرناها فيه أولا فلا يمكننا أن نعرف الهداية من الضلال لاختلاط الموزون بالميزان. فلا يدرى ما هو الموزون من الموزون به - أريد أن يكون القرآن أصلا تحمل عليه المذاهب والآراء في الدين لا أن تكون المذاهب أصلا والقرآن هو الذي يحمل عليها، ويرجع بالتأويل أو التحريف إليها، كما جرى عليه المخذولون، وتاه فيه الضالون.
القسم الرابع: ضلال في الأعمال، وتحريف للأحكام عما وضعت له، كالخطأ في فهم معنى الصلاة والصيام وجميع العبادات، والخطأ في فهم الأحكام التي جاءت في المعاملات، ولنضرب لذلك مثلا: الاحتيال في الزكاة بتحويل المال إلى ملك الغير قبل حلول الحول ثم استرداده بعد مضي قليل من الحول الثاني، حتى لا تجب الزكاة فيه، ويظن المحتال أنه بحيلته قد خلص من أداء الفريضة، ونجا من غضب من لا تخفى عليه خافية، ولا يعلم أنه بذلك قد هدم ركنا من أهم أركان دينه، وجاء بعمل من يعتقد أن الله قد فرض فرضا وشرع بجانب ذلك الفرض ما يذهب به ويمحو أثره، وهو محال عليه جل شأنه.
ثلاثة أقسام من هذا الضلال أولها وثالثها ورابعها يظهر أثرها في الأمم فتختل قوى الإدراك فيها، وتفسد الأخلاق، وتضطرب الأعمال، ويحل بها الشقاء، عقوبة من الله لا بد من نزولها بهم، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنته تحويلا. ويعد حلول الضعف ونزول البلاء بأمة من الأمم من العلامات والدلائل على غضب الله تعالى عليها لما أحدثته في عقائدها وأعمالها مما لا يخالف سننه، ولا يتبع فيه سننه. لهذا علمنا الله تعالى كيف ندعوه بأن يهدينا طريق الذين ظهرت نعمته عليهم بالوقوف عند حدوده، وتقويم العقول والأعمال بفهم ما هدانا إليه، وأن يجنبنا طرق أولئك الذين ظهرت فيهم آثار نقمه بالانحراف عن شرائعه، سواء كان ذلك عمدا وعنادا، أو غواية وجهلا.
إذا ضلت الأمة سبيل الحق ولعب الباطل بأهوائها، ففسدت أخلاقها واعتلت أعمالها، وقعت في الشقاء لا محالة، وسلط الله عليها من يستذلها ويستأثر بشئونها ولا يؤخر لها العذاب إلى يوم الحساب، وإن كانت ستلاقي نصيبها منه أيضا، فإذا تمادى بها الغي وصل بها إلى الهلاك، ومحا أثرها من الوجود، هكذا علمنا الله تعالى كيف ننظر في أحوال من سبقنا، ومن بقيت آثارهم بين أيدينا من الأمم، لنعتبر ونميز بين ما به تسعد الأقوام وما به تشقى. أما في الأفراد فلم تجر سنة الله بلزوم العقوبة لكل ضال في هذه الحياة الدنيا، فقد يستدرج الضال من حيث لا يعلم، ويدركه الموت قبل أن تزول النعمة عنه، وإنما يلقى جزاءه { يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله } [الإنفطار: 19] ا هـ.
فوائد في تفسير الفاتحة
كان غرضنا الأول من كتابة تفسير الفاتحة ونشره في المنار هو بيان ما نستفيده من دروس شيخنا الأستاذ الإمام، مع شيء مما يفتح الله به علينا بالاختصار، فلذلك اختصرنا فيما كتبناه أولا، ثم لما طبعنا تفسير الفاتحة على حدته مرة ثانية زدنا فيه بعض زيادات، وكان بدا لنا أن نجعل هذا التفسير مطولا مستوفى. ولهذا زدنا في تفسير الفاتحة هنا زيادات كثيرة كما نبهنا على ذلك في المقدمة. وبعد الفراغ من طبعه رأينا أن نعززه بالفوائد الآتية:
حكمة إيثار ذكر الربوبية والرحمة في أول الفاتحة على سائر الصفات
قد علمت أن اسم الجلالة (الله) هو اسم الذات الجامع لمعاني الصفات العليا، وسائر الأسماء الحسنى، والأصول من هذه الأسماء والصفات التي ترجع إليها غيرها، وتعود إليها معانيها ولو بطريق اللزوم أربعة: اثنان منها ذاتيان وهما {الحي القيوم} والاثنان الآخران: فعليان وهما الرب والرحمن الرحيم، وبتعبير أظهر أو أصح اثنان منهما لا يتعلقان بتدبير الخلق، واثنان يتعلقان به، فالحي ذو الحياة وهي بأعم معانيها الصفة الوجودية التي هي الأصل في معقولنا لجميع صفات الكمال في الوجود من صفات ذات وصفات أفعال كالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، وهي الصفات التي يسميها علماء الكلام صفات المعاني. ويجعلون عليها مدار معرفة الله تعالى مع الصفات السلبية التي يراد بها تنزيهه سبحانه وتعالى عما لا يليق من النقص ومشابهة الخلق كالرحمة والحلم والغضب والعدل والعزة والخالقية والرازقية إلخ، وكمال الحياة يستلزم الاتصاف بهذه الصفات وبغيرها من صفات الكمال.
والحياة في الخلق قسمان: حسية ومعنوية، فالأولى: الحياة النباتية، والحياة الحيوانية، ولكل منها صفات لازمة لها أعلاها في الحياة الثانية حياة الإنسان التي من خواصها العلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام وغير ذلك مما يفقده بالموت. والثانية الحياة العقلية والعلمية والروحية الدينية. ومن الشواهد القرآنية على هذه الحياة قوله تعالى: { لينذر من كان حيا } [يس: 70] وقوله: { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } [الأنفال: 28] وكمال هذه الحياة للبشر لا يكون إلا في الآخرة وإنما يكون الاستعداد له في الدنيا بتزكية النفس بالعلم والعمل.
وحياة الخالقتعالى أعلى وأكمل من حياة جميع خلقه من الجن والإنس والملائكة وهي لا تشبهها { ليس كمثله شيء } [الشورى: 11]. وإنما نفهم من إطلاقها اللغوي مع التنزيه أنها الصفة الذاتية الواجبة الأزلية الأبدية التي يلزمها اتصافه بما وصف به نفسه من صفات الكمال، بدونها، فهي لا يتوقف تعقلها على غيرها من الصفات، ويتوقف تعقل جميع الصفات عليها، وعبر عنها بعضهم بأنها تصحح له الاتصاف بصفات المعاني.
وأما القيوم فأحسن ما قيل في تفسيرها في معجم (لسان العرب) وهو القائم (أي الثابت المتحقق) بنفسه مطلقا لا بغيره وهو مع ذلك يقوم به كل موجود حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا به اهـ. وسبقه إلى مثله غيره. وقولهم: القائم بنفسه بمعنى قول المتكلمين واجب الوجود أي الذي وجوده ثابت لذاته غير مستمد من وجود آخر فهو يستلزم القدم الذي لا أول له، والبقاء الذي لا آخر له { هو الأول والآخر } [الحديد: 3] وقولهم: الذي يقوم به كل موجود، معناه أنه لا وجود لشيء غيره ابتداء ولا بقاء إلا به، فكل وجود سواه مستمد منه وباق ببقائه إياه { إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده } [فاطر: 41] ومن كان هذا وصفه كان بالضرورة قادرا مريدا عليما حكيما، فإذا كانت الحياة تصحح لصاحبها الاتصاف بهذه الصفات وغيرها وتدل عليها بقيد الكمال دلالة التزام، فالقيومية تدل عليها دلالة بغير قيد.
ولجمع هذين الاسمين الكريمين هذه المعاني وغيرها من معاني الكمال الأعلى كان القول بأنهما مع اسم الجلالة - ما يعبر عنه بالاسم الأعظم - هو القول الراجح المختار عندنا، وإنما فسرنا الاسمين الكريمين هنا وذكرهما استطرادي لا يدخل في تفسير الفاتحة؛ لأن أكثر القراء لا يفهم معانيهما التي يدل عليها لفظهما بطرق الدلالة الثلاث: المطابقة والتضمن والالتزام.
وأما صفتا الربوبية والرحمة فهما الصفتان الدالتان على أن الله تعالى هو المالك المدبر لأمور العالم كلها، وعلى أن رحمته تعالى تغلب غضبه، وإحسانه الذي هو أثر رحمته يغلب انتقامه، ومعنى الانتقام لغة: الجزاء على السيئات، فإذا كان جزاء على السيئة بمثلها كان انتقام حق وعدل، وإن كان بأكثر من ذلك كان انتقام باطل وجور، والله تعالى منزه عن الباطل والجور { ولا يظلم ربك أحدا } [الكهف: 49] بل يتجاوز عن بعض السيئات، ويضاعف جزاء الحسنات { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون } [الفرقان: 42]، { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } [الروم: 42]، { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما } [النساء: 40] والآيات في الجزاء على السيئة بمثلها وعلى الحسنة بعشر أمثالها معروفة، وكذا آية المضاعفة سبعمائة ضعف وما شاء الله تعالى.
فمن شأن الرب المالك للعباد المدبر لأمورهم المربي لهم أن يجازي كل عامل بعمله، وينتقم للمظلوم من ظالمه، والجزاء بالعدل مخيف لأكثر الناس بل لجميع الناس، فإنه ما من أحد إلا ويقصر فيما يجب عليه لربه ولنفسه ولأهله ولولده بله من دونهم حقا عليه ومكانة عنده، ومن حقهم أن يغلب الخوف على الرجاء في قلوبهم، ولذلك قرن سبحانه صفة الربوبية بصفة الرحمة، وعبر عنها باسمين لا باسم واحد: اسم الرحمن الدال على منتهى الكمال في اتصافه بها، واسم الرحيم الدال على أنها من الصفات النفسية المعنوية مع تعلقها بالحق تعلقا تنجيزيا كقوله تعالى: { إن الله كان بكم رحيما } [النساء: 29]، { وكان بالمؤمنين رحيما } [الأحزاب: 34] وبهذا التفسير ضممنا في التفرقة بين الاسمين ما قاله المحقق ابن القيم إلى ما قاله شيخنا رحمهما الله.
وأما دلالة صفتي الربوبية والرحمة على جميع معاني صفات الأفعال الإلهية فظاهر؛ فإن رب العباد هو الذي يسدي إليهم كل ما يتعلق بخلقهم ورزقهم وتدبير شئونهم من فعل دلت عليه أسماؤه الحسنى كالخالق البارئ المصور القهار الوهاب الرزاق الفتاح القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم الرقيب المقيت الباعث الشهيد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت المقدم المؤخر المغني المانع الضار النافع وأمثالها. والرحمن في ذاته الرحيم بعباده لا بد أن يكون توابا غفورا عفوا رءوفا شكورا حليما وهابا. إذا علمنا هذا تجلت لنا حكمة وصف الله تعالى في أول فاتحة الكتاب العزيز بالربوبية والرحمة الدالتين على جميع صفات الأفعال دون الحياة والقيومية الدالتين على صفات الذات وغيرها، وهي - والله أعلم بمراده - أن الفاتحة ينظر فيها من وجهين (أحدهما): ما دل عليه اسمها هذا؛ أعني كونها فاتحة ومبدأ للقرآن (وثانيهما): أنها قد شرعت للقراءة في الصلوات كل يوم، وكل منهما يناسبه البدء بذكر ربوبية الله ورحمته.
ذلك بأن القرآن كما قال الله في أول سورة البقرة { هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة } [البقرة: 2 - 3] إلخ. الآيات. فهم الذين يتلونه حق تلاوته، وهم الذين يتدبرونه ويتعظون به، وهم { الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون } [الأنبياء: 49] فالمناسب في حقهم أن تكون السورة الأولى وهي المثاني التي يثنونها دائما في صلاتهم وفي بدء أورادهم القرآنية المسماة بالختمات مبدوءة بذكر الصفتين الجامعتين لمعاني الصفات التي تتعلق بتدبير الله سبحانه لشئونهم، وبعدله في الحكم بينهم فيما يختصمون فيه، وبمجازاتهم على أعمالهم، وبرحمته لهم وإحسانه إليهم الدالتين على ما يجب عليهم من شكره وتخصيصه بالعبادة والاستعانة، والتوجه إليه في طلب كمال الهداية، وهاتان الصفتان هما الربوبية والرحمة. فبدء فاتحة القرآن بذكرهما في البسملة ثم أثناء السورة مرشد لما ذكر، مذكر للمصلي وللتالي به. وكذا بدء كل سورة بالبسملة التي لم يوصف اسم الذات (الله) فيها بغير الرحمة الكاملة الشاملة، هو إعلام منه سبحانه بأنه أنزله رحمة للعالمين، كما قال مخاطبا لمن أنزله عليه: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [الأنبياء: 107] ولذلك لم تنزل البسملة في أول سورة التوبة التي فضحت آياتها المنافقين، وبدئت بنبذ عهود المشركين، وشرع فيها القتال بصفة أعم مما أنزله فيما قبلها من أحكامه.
وهذا الذي شرحناه يفند زعم بعض المتعصبين الغلاة في ذم الإسلام بالهوى الباطل أن رب المسلمين رب غضوب منتقم قهار، ودينهم دين رعب وخوف، بخلاف دين النصرانية الذي يسمي الرب أبا للإعلام بأنه يعامل عباده كمعاملة الأب لأولاده، وقد أشار شيخنا إلى هذا الزعم وفنده في تفسير اسم الرب. وسنذكر في فائدة أخرى المقابلة بين صلاة المسلمين بقراءة الفاتحة وصلاة النصارى بالصيغة المعروفة عندهم بالصلاة الربانية، وثبت في الحديث الصحيح أن الرب أرحم بعباده من الأم بولدها الرضيع، وأن جميع ما أودعه في قلوب خلقه من الرحمة جزء من مائة جزء من رحمته تبارك وتعالى، ويجد القارئ تفصيل القول في سعة الرحمة الإلهية في تفسير قوله - عز وجل -: { ورحمتي وسعت كل شيء } [الأعراف: 156] من سورة الأعراف.
تفسير صفة الرحمة على مذهب السلف
ما نقلناه عن شيخنا في معنى الرحمة. تبع فيه متكلمي الأشاعرة والمعتزلة ومفسريهم كالزمخشري والبيضاوي ذهولا. ومحصله أن الرحمة ليست من صفات الذات أو صفات المعاني القائمة بذاته تعالى لاستحالة معناها اللغوي عليه فيجب تأويلها بلازمها وهو الإحسان فتكون من صفات الأفعال كالخالق الرزاق. وقال بعضهم: يمكن تأويلها بإرادة الإحسان فترجع إلى صفة الإرادة فلا تكون صفة مستقلة. وهذا القول من فلسفة المتكلمين الباطلة المخالفة لهدي السلف الصالح. والتحقيق: أن صفة الرحمة كصفة العلم والإرادة والقدرة وسائر ما يسميه الأشاعرة صفات المعاني ويقولون إنها صفات قائمة بذاته تعالى خلافا للمعتزلة. فإن معاني هذه الصفات كلها بحسب مدلولها اللغوي واستعمالها في البشر محال على الله تعالى إذ العلم بحسب مدلوله اللغوي هو صورة المعلومات في الذهن، التي استفادها من إدراك الحواس أو من الفكر، وهي بهذا المعنى محال على الله تعالى، فإن علمه تعالى قديم بقدمه غير عرض منتزع من صور المعلومات. وكذلك يقال في سمعه تعالى وبصره وقد عدوهما من صفات المعاني القائمة بنفسه، والرحمة مثلها في هذا.
فقاعدة السلف في جميع الصفات التي وصف الله تعالى بها نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله أن نثبتها له ونمرها كما جاءت مع التنزيه عن صفات الخلق الثابت عقلا ونقلا بقوله - عز وجل - { ليس كمثله شيء } [الشورى: 11] فنقول: إن لله علما حقيقيا هو وصف له، ولكنه لا يشبه علمنا، وإن له سمعا حقيقيا هو وصف له لا يشبه سمعنا، وإن له رحمة حقيقية هي وصف له لا تشبه رحمتنا التي هي انفعال في النفس، وهكذا نقول في سائر صفاته تعالى فنجمع بذلك بين النقل والعقل، وأما التحكم بتأويل بعض الصفات وجعل إطلاقها من المجاز المرسل. أو الاستعارة التمثيلية كما قالوا في الرحمة والغضب وأمثالهما دون العلم والسمع والبصر وأمثالهما، فهو تحكم في صفات الله وإلحاد فيها، فأما أن تجعل كلها من باب الحقيقية مع الاعتراف بالعجز عن إدراك كنه هذه الحقيقة والاكتفاء بالإيمان بمعنى الصفة العامة مع التنويه عن التشبيه، وإما أن تجعل كلها من باب المجاز اللغوي باعتبار أن واضع اللغة وضع هذه الألفاظ لصفات المخلوقين فاستعملها الشرع في الصفات الإلهية المناسبة لها مع العلم بعدم شبهها بها من باب التجوز.
وقد عبر الشيخ أبو حامد الغزاليرحمه الله تعالى عن هذا المعنى أفصح تعبير، فقال في كتاب الشكر من الإحياء: إن الله - عز وجل - في جلاله وكبريائه صفة يصدر عنها الخلق والاختراع وتلك الصفة أعلى وأجل من أن تلمحها عين واضع اللغة حتى تعبر عنها بعبارة تدل على كنه جلالها وخصوص حقيقتها، فلم يكن لها في العالم عبارة لعلو شأنها وانحطاط رتبة واضعي اللغات عن أن يمتد طرف فهمهم إلى مبادئ إشراقها، فانخفضت عن ذروتها أبصارهم كما تنخفض أبصار الخفافيش عن نور الشمس، لا لغموض في نور الشمس، ولكن لضعف أبصار الخفافيش، فاضطر الذين فتحت أبصارهم لملاحظة جلالها إلى أن يستعيروا من حضيض عالم المتناطقين باللغات عبارة تفهم من مبادئ حقائقها شيئا ضعيفا جدا، فاستعاروا لها اسم القدرة فتجاسرنا بسبب استعارتهم على النطق فقلنا: إن لله تعالى صفة هي القدرة، عنها يصدر الخلق والاختراع اهـ.
وقد رجع الإمام أبو الحسن الأشعري شيخ المتكلمين والنظار إلى مذهب السلف في نهاية أمره، وصرح في آخر كتبه وهو (الإبانة) بذلك، وأنه متبع للإمام أحمد بن حنبل شيخ السنة والمدافع عنها رحمهم الله أجمعين.
معارضة نصرانية سخيفة، للفاتحة الشريفة
عرف كل من ذاق طعم البلاغة العربية من مؤمن وكافر أن القرآن أبلغ الكلام وأفصحه، لم يكابر في ذلك مكابر، ولم يجادل فيه مجادل، وأن الفاتحة من أعلاه فصاحة وبلاغة وجمعا للمعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة، واشتمالا على مهمات الدين من صفات الله التي تجذب قلب من تدبرها إلى حبه، وتنطق لسانه بحمده، وتعلي همته بتوحيده. وتهذب نفسه بمعاني أسمائه وصفاته، وإحاطة ربوبيته وملكه، وتذكره يوم الدين الذي يجزى فيه على عمله، وتوجه وجهه إلى السير على الصراط المستقيم في خاصة نفسه، وفي معاملة الله ومعاملة خلقه، وتذكره بالقدوة الصالحة في ذلك بإضافة الصراط الذي يتحرى الاستقامة عليه، ويسأل الله توفيقه دائما له، إلى من أسبغ الله عليهم نعمه، ومنحهم رضوانه، وجعلهم هداة خلقه بأقوالهم، وأسوتهم الحسنة في أفعالهم، ومثل الكمال في آدابهم وأخلاقهم، من النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وتحذره من شرار الخلق الذين يؤثرون الباطل على الحق، ويفضلون الشر على الخير، على علم منهم بذلك. وهم المغضوب عليهم - أو على جهل به كالذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وهم الضالون. وهذا التحذير يتضمن حث المسلم المتعبد بالفاتحة المكرر لها في صلاته على العناية بتكميل نفسه بتحري التزام الحق وعمل الخير، بأحكام العلم وتربية النفس والتمرن على العمل الصالح.
هذه السورة الجليلة التي ذكرناك أيها القارئ بمجمل مما فصلناه في تفسيرها يزعم أحد دعاة النصرانية في هذا العصر أنها بمعزل من البلاغة بأن ما بعد الصراط المستقيم فيها حشو وتحصيل حاصل وما قبله يمكن اختصاره بما لا يضيع شيئا من معناه، كما فعله بعضهم، قال هذا القول داعية من المبشرين المأجورين من قبل جمعيات التبشير الإنكليزية والأميركانية في كتاب لفقه في إبطال إعجاز القرآن بزعمه، بل أنكر بلاغته من أصلها؛ قال:
وما أحسن قول بعضهم أنه لو قال: الحمد للرحمن، رب الأكوان، الملك الديان، لك العبادة وبك المستعان، اهدنا صراط الإيمان، لأوجز وجمع كل المعنى وتخلص من ضعف التأليف والحشو والخروج عن الرديء كما بين الرحيم ونستعين أ هـ.
أقول لقد كان خيرا لهذا المتعصب المأجور لإضلال عوام المسلمين على شرط ألا يذكر اسمه في كتيبه، ولا يفضح نفسه بين قومه، أن يختصر لمستأجريه آلهتهم وكتبهم التي صدت جميع مستقلي الفكر من أقوامهم وشعوبهم عن دينهم بل صدت بعضهم عن كل دين، فإن اختصار الدراري السبع في السماء، أهون من اختصار آيات الفاتحة السبع في الأرض. وحسب العالم من فضيحته إيراد سخافته هذه وتشهيره بها لو كان حيا يمشي بين الناس.
وأما العامي الجاهل، الذي قد يغتر بقول كل قائل، ولا سيما إذا كان في الطعن بغير دينه، فربما يحتاج إلى التنبيه لبعض فضائح هذا الاختصار، وإن كانت لا تخفى على أولي الأبصار ونكتفي منه بما يلي:
1- إن أول شيء اختصره هذا الجاهل المتعصب وجعل ذكره مطعنا في فاتحة القرآن اسم الجلالة الأعظم (الله) الذي لا يغني عنه سرد جميع أسماء الله الحسنى! فإنه هو اسم الذات الملاحظ معه اتصاف تلك الذات بجميع صفات الكمال إجمالا.
2- أنه اختصر اسم الرحيم وقد بينا فائدته وأن اسم الرحمن لا يغني عنه، وأنى لمثله أن يعلمه؟ ويراجع الفرق بينهما فيما تقدم.
3- أنه استبدل الأكوان بالعالمين وليس في هذا اختصار، وإنما فيه استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير وأولى، فإن الأكوان جمع كون، وهو في الأصل مصدر لا يجمع، وله معان لا يصح إضافة اسم الرب إليها، منها الحدث والصيرورة والكفالة، ويطلقه عرب الجزيرة على الحرب لعلهم لا يستعملونه في غيرها، وأما العالمون فجمع عالم، وفي اشتقاقه التذكير بكونه علامة ودليلا على وجود خالقه، وفي جمعه جمع العقلاء تذكير للقارئ بما في كلمة رب من معنى تربيته جل جلاله وعم نواله للأحياء ولا سيما الناس، وكونهم يشكرونه عليها بقدر استعمال عقولهم، ولذلك قال بعض الأعلام: إن لفظ العالمين عام مستعمل هنا في الخاص، وهو عالم البشر، وراجع سائر تفسيره المتقدم.
4- أنه استبدل كلمة (الديان) بكلمة {يوم الدين} وهي لا تقوم مقامها، ولا تفيد ما فيها من المعاني المطلوبة لذاتها، فإن للديان في اللغة معاني منها القاضي والحاسب أو المحاسب والقاهر. وغاية ما يفيده وصف الرب بأنه حاكم يدين عباده ويجزيهم. وأما يوم الدين: فإنه اسم ليوم معين موصوف في كتاب الله بأوصاف عظيمة هائلة، يحاسب الله فيه الخلائق ويحكم بينهم ويجزيهم، والإيمان بهذا اليوم ركن من أركان الدين، وإضافة ملك ومالك إليه تفيد أن الأمر كله في ذلك اليوم له وحده فلا يملك أحد لأحد فيه شيئا من نفع ولا من كشف ضر كما تقدم تفصيله في تفسير الآية - فاستحضار هذه المعاني في النفس له من التأثير المقوي لعقيدة التوحيد المرغب في العمل الصالح المرهب الزاخر عن الشر، ما ليس لاسم الديان وحده، ويكفي الإنسان في الجزم بهذا مشاورة فكره، ومراجعة وجدانه، وإن لم يكن يعلم من فنون البلاغة شيئا، وهل لهذا المبشر المتعصب فكر ووجدان يهديانه إلى ما يجهل من بلاغة القرآن؟
5و6- أنه اختصر قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} بقوله هو: لك العبادة وبك المستعان. وهو أغرب ما جاء به وسماه إيجازا، فإنه استبدل أربعا بأربع، ولكنها أطول منها بزيادة حرف، وتنقص عنها في المعنى، فأين الإيجاز؟ إنه مفقود لفظا ومعنى.
إذا أراد بقوله: لك العبادة - أنها كلها له تعالى في الواقع ونفس الأمر، فالجملة غير صحيحة؛ لأن الذين لا يعبدونه وحده من البشر هم الأكثرون. ومنهم النصارى قوم الطاعن في دين التوحيد وكتاب التوحيد الأعظم (القرآن) المبدلين لآية التوحيد البليغة. وإن أراد أن العبادة مستحقة لله تعالى وحده فالمعنى صحيح، لكنه لا يدل على أن القارئ، ولا واضع الجملة من القائمين بهذا الحق له تعالى. وأما إياك نعبد فإنها تفيد عرض عبادة القارئ مع عبادة جميع المؤمنين الموحدين عليه جل جلاله، وتقربهم إليه بأنهم يعبدونه ولا يعبدون غيره.
وأحيلك في الفرق بين تأثير هذا وذاك على الوجدان الذي ذكرتك به في النقد الذي قبله، دع ما في عرض المؤمن عبادته واستعانته على ربه في ضمن عبادة جميع المؤمنين واستعانتهم من ملاحظة أخوة الإيمان وتكافل أهله، ومن هضم الفرد لنفسه، ورجاء القبول في ضمن الجماعة، وغير ذلك مما يعلم من تفسير الآية.
ومثل هذا يقال في مسألة الاستعانة، ويمكن الزيادة عليه من جهة المعنى ومن جهة اللفظ، ومنه اختياره المصدر الميمي الذي هو صيغة اسم المفعول (المستعان) على المصدر الأصلي وهو الاستعانة المناسب للفظ العبادة، ومن جهة ارتباطه بما بعده، فإن طلبنا للهداية من الاستعانة التي أسندناها إلى أنفسنا.
7- استبداله صراط الإيمان بالصراط المستقيم، وهذا أعم منه وأشمل؛ لأنه يشمل الإيمان والإسلام والإحسان، من العقائد والعبادات والآداب، مع وصفه بالمستقيم الذي لا عوج فيه. فإن بعض الطرق الموصلة إلى المقاصد التي يسمى سالكها مهتديا إلى مقصده في الجملة، قد يكون فيها عوج يعوق هذا السالك، والمستقيم هو أقرب موصل بين طرفين فسالكه يصل إلى مقصده في أسرع وقت، كذلك الطرق المعنوية، منها الموصل إلى الغاية وغير الموصل، ومن الموصل ما يوصل بسرعة لعدم العائق، وما يعتري سالكه الموانع واقتحام لعقبات واتقاء العثرات.
8- أن وصف الصراط المستقيم بكونه الصراط الذي سلكه خيار عباد الله المفلحين، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، مذكر لقارئه بأولئك الأئمة الوارثين، الذين يجب التأسي بهم، والسعي للانتظام في سلكهم، والتصريح بكونه غير صراط المغضوب عليهم من المعاندين للحق، وغير الضالين الزائغين عن القصد، مذكر للقارئ بوجوب اجتناب سبلهم، لئلا يتردى في هاويتهم.
أين من هذه المقاصد السامية الهادية إلى تزكية النفس وإعدادها لسعادتي الدنيا والآخرة، صيغة الصلاة في ملة هذا المختصر المستأجر، وهي كما في إنجيل متى أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض، خبزنا كفافنا أعطنا اليوم، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا، ولا تدخلنا في تجربة، ولكن نجنا من الشرير آمين [6: 9 - 13] أهـ. زاد في نسخة الأميركان: {لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد} وجعلوا هذه الزيادة بين علامتي الكلام الدخيل هكذا ( ) فمن ذا الذي زادها على كلام المسيح؟
وقد يقول لهم من لا يؤمن بأن هذه الصيغة منقولة نقلا صحيحا عن المسيح - عليه السلام -، أو من لا يؤمن به نفسه: إنها صلاة ليس فيها من الثناء على الله تعالى ما في فاتحة المسلمين ولا بعضه، وطلب تقديس اسم الأب وإتيان ملكوته تحصيل حاصل، فهو لغو لا يليق بالعاقل، وذكره بصيغة الأمر باللام غير لائق - إن لم نقل في انتقاده ما هو أشد من ذلك - وأبعد من ذلك عن اللياقة والأدب مع الرب تبارك وتعالى طلب كون مشيئته على الأرض كمشيئته في السماء. وكونها بصيغة الأمر باللام أيضا، فمشيئته تعالى نافذة في جميع خلقه من سمائه وأرضه بالضرورة، فلا معنى لطلبها، وطلب المساواة بين السماء والأرض فيها إن أريد به من كل وجه، فهو تحكم لا يخفى ما يترتب عليه.
وأما طلب الخبز الكفاف في كل يوم بصيغة الحصر فهو يفيد أن كل همهم وكل مطلبهم من ربهم ولو لدنياهم هو الخبز الذي يكفيهم، فأين هذا المطلب من طلب الهداية إلى الصراط المستقيم الموصل إلى سعادتي الدنيا والآخرة على أكمل وجه، لكونه نفس صراط خيار الناس دون شرارهم.
وأما مطلب المغفرة - فهو على كونه يليق أن يطلب منه تعالى - ينتقد منه تشبيهها بمغفرة الطالب للمذنب المسيء إليه من وجهين: (أحدهما) أن مغفرة الله لعبده أجل وأعظم وأعم من مغفرة العبد لمثله. (ثانيهما) أن الذي يغفر لجميع المسيئين إليه نادر، ومن المشاهد أن أكثر الناس يجزون على السيئة إما بمثلها، وإما بأكثر منها، فكيف يكلف هؤلاء بمخاطبة ربهم بالكذب عليه، الذي حاصله أنهم يطلبون ألا يغفر لهم، لأنهم لا يغفرون للمسيئين إليهم.
قد يقولون: نعم نحن نلتزم هذا؛ لأن ديننا يوجب علينا أن نغفر لجميع من أذنب وأساء إلينا، ونعتقد أن ربنا لا يغفر لنا إذا لم نغفر لهم؛ لأن من علمنا هذه الصلاة قال بعدها: (متي 6: فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضا أبوكم السماوي، وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضا زلاتكم).
فنقول: هذا التعبير يدل على وجوب مغفرة جميع الذنوب لجميع الناس عامة كانت أو خاصة، فأين منكم يا معشر النصارى من يفعل ذلك؟ وهل يوجد في الألف أو الألوف منكم واحد كذلك؟ ألسنا نرى أكثركم ومن تعدونهم أرقاكم وتفتخرون بهم كالإفرنج لا يغفرون لأحد أدنى زلة، بل لا يكتفون بعقاب من يسئ إلى أحد منهم إذا كان من غيرهم بمثل ذنبه، وإنما يضاعفون له العقاب أضعافا، بل ينتقمون من أمته كلها إذا كانت ضعيفة لا يمكنها أن تصدهم بالقوة، فهم لا يمنعهم من الجزاء على السيئة بأضعافها من السيئات ولا من ابتداء الظلم والعدوان إلا العجز.
وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، والبسملة منها
في وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة أحاديث قولية صحيحة صريحة، وجرى عليها العمل من أول الإسلام إلى اليوم، وإن تنازع بعض أهل الخلاف والجدل في تسمية هذا الواجب فرضا وعده شرطا، وأصح ما ورد وأصرحه فيه ما رواه الجماعة كلهم من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب وفي لفظ رواه الدارقطني بإسناد صحيح لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بفاتحة الكتاب وهو تفسير للفظ الجماعة، فإن نفي الصلاة فيه نفي صحتها ووجهه: أن الحقيقة المؤلفة من عدة أركان ذاتية تنتفي بانتفاء ركن منها، كقولك: لا وضوء لمن لم يغسل يديه إلى المرفقين، وقد أجمع المسلمون على العمل بهذا، فلم يصل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا خلفاؤه وأصحابه ولا التابعون ولا غيرهم من الخلفاء وأئمة العلم صلاة بدون قراءة الفاتحة فيها، وإنما بحث الحنفية في تسمية قراءتها فرضا وعدها ركنا بناء على اصطلاحات لهم ردها الجمهور بأدلة صحيحة لا محل لتلخيصها هنا وأجابوا عن شبهاتهم النقلية بأجوبة سديدة، وأقواها قوله - صلى الله عليه وسلم - للمسيء صلاته: ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن قالوا في الجواب عنه: إنه ثبت رواية أخرى أنه قال له: ثم اقرأ بأم القرآن فهذا مفسر لما تيسر من القرآن، وأن الفاتحة هي التي كانت متيسرة لجميع المسلمين، لأنهم كانوا يلقنونها كل من يدخل في الإسلام، وقال بعضهم: المراد بما يتيسر منه هنا ما زاد عن الفاتحة، وفي البخاري عن أبي قتادة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ الفاتحة في كل ركعة والأحاديث المصرحة بأنه كان يقرأ في الركعة الأولى أم القرآن وسورة كذا، وفي الثانية بعد أم القرآن كذا في صلاة كذا، كثيرة.
وأما كون البسملة آية في الفاتحة، فأقوى الحجج المثبتة له: كتابتها في المصحف الإمام الرسمي الذي وزع نسخه الخليفة الثالث على الأمصار برأي الصحابة وأجمعت عليه الأمة، وكذا جميع المصاحف المتواترة إلى اليوم، والخط حجة عليه، كما قال العلامة العضد، وعليه جميع شعوب العلم والمدنية في هذا العصر، لا حجة عندهم أقوى من حجة الكتابة الرسمية، ثم إجماع القراء على قراءتها في أول الفاتحة. وإن زعم بعضهم أنها آية مستقلة، فإن هذا رأي، والعبرة بالعمل، وهو إذا كان عاما مطردا من أقوى الحجج. على أن تواترها عن واحد منهم تقوم به الحجة على باقيهم وعلى سائر الناس، فإنه إثبات بالتواتر لا يعارضه نفي ما. وقد كنا ذكرنا هذه المسألة وآراء أهل الخلاف فيها ونزيدها إيضاحا فنقول:
وقد وردت أحاديث آحادية في إثبات ذلك ونفيه ترتب عليها اختلاف الفقهاء الذين جعلوا المسألة مسألة مذاهب، ينصر كل حزب منهم أهل المذهب الذي ينسبون إليه { كل حزب بما لديهم فرحون } [الروم: 32] ولولا ذلك لاتفقوا؛ لأن لإثبات البسملة في أول الفاتحة في جميع المصاحف المجمع عليها المتواترة حجة قطعية لا تعارض بأحاديث الآحاد وإن صح سندها.
وأصرح الأحاديث التي استدلوا بها على كون البسملة ليست آية من الفاتحة ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج يقولها ثلاثا - أي كلمة فهي خداج أي ناقصة غير تامة كالناقة تلد لغير التمام - فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله - عز وجل -: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال الله: أثنى علي عبدي. فإذا قال: {مالك يوم الدين} قال: مجدني عبدي. وقال مرة: فوض إلي عبدي. وإذا قال {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل
قال النافون: إن الحديث يدل على أن البسملة ليست من الفاتحة؛ لأنها لو كانت منها لذكرت في الحديث، وهو استدلال سلبي لا يعارض القطعي المتواتر وهو إثباتها في المصحف وإجماع القراء على قراءتها عند البدء بالختمات، وثبوت التواتر بذلك، على أن عدم ذكرها في الحديث قد يكون لسبب اقتضى ذلك. ومما يخطر على البال بداهة: أنه كما اكتفى من قسمة الصلاة بالفاتحة دون سائر التلاوة والأذكار والأفعال اكتفى من الفاتحة بما لا يشاركها فيه غيرها من السور، إذ البسملة آية من كل سورة غير (براءة) على التحقيق الذي يدل عليه خط المصحف، وثم سبب آخر لعدم ذكر البسملة في القسمة، وهو أنه ليس فيها إلا الثناء على الله تعالى بوصفه بالرحمة، وهو معنى مكرر في الفاتحة وذكر في القسمة. والعمدة في عدم المعارضة أن دلالة الحديث ظنية سلبية، وإثبات البسملة إيجابي وقطعي كما تقدم، وإذا كان من علل الحديث المانعة من وصفه بالصحة: مخالفة راويه لغيره من الثقات فمخالفة القطعي من القرآن المتواتر أولى بسلب وصف الصحة عنه. على أن هذا الحديث هو المعارض بالأحاديث المثبتة لكون البسملة من الفاتحة.
واستدلوا أيضا بحديث أبي هريرة المرفوع عند أحمد وأصحاب السنن قال: إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي: تبارك الذي بيده الملك قالوا: وإنما هي ثلاثون بدون البسملة. وأجيب بمثل ما قلنا آنفا من أن عدد آيات السور باعتبار ما هو خاص بالسورة وهو ما دون البسملة. ويؤيده ما روي عن أبي هريرة من أن سورة الكوثر ثلاث آيات. وقد روى أحمد ومسلم والنسائي من حديث أنس قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بين أظهرنا في المسجد إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه مبتسما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: نزلت علي آنفا سورة، فقرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر} . وهذا الحديث ناطق بأن البسملة من سورة الكوثر مع عدم عدها من آياتها لما ذكرنا، فكونها آية من الفاتحة أولى وهو أصح في حديث أبي هريرة في سورة الملك؛ لأن البخاري أعله بأن عباسا الحشمي راويه لا يعرف سماعه من أبي هريرة.
واستدلوا بالأحاديث الواردة في عدم قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه لها في الصلاة وأصرحها قول عبد الله بن مغفل: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع أبي بكر، ومع عمر ومع عثمان. فلم أسمع أحدا منهم يقولها يعني البسملة رواه أحمد والترمذي وحسنه النسائي وابن ماجه عن ابن عبد الله بن مغفل وهو مجهول، فقد كان له سبعة أولاد وهذه علة تمنع صحة الحديث. قالوا: وقد تفرد به الحريري وقيل: إنه قد اختلط بآخره. وقد يفسر بما ترى فيما قالوه في الحديث الذي بعده.
وفي معناه حديث أنس في إحدى الروايات قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وعمر، وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم}. رواه أحمد ومسلم. قال في المنتقى: وفي لفظ صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم . رواه أحمد والنسائي بإسناد على شرط الصحيح. ولأحمد ومسلم: صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان، وكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا آخرها . ولعبد الله بن أحمد في مسند أبيه عن شعبة عن قتادة عن أنس قال: صليت خلف رسول الله وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يستفتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم قال شعبة قلت لقتادة: أنت سمعت من أنس؟ قال: نعم نحن سألناه عنه. وللنسائي عن منصور بن زازان عن أنس قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى بنا أبو بكر وعمر فلم نسمعها منهما اهـ.
قال الشوكاني في شرح الحديث: ورواية فكانوا لا يجهرون أخرجها أيضا ابن حبان والدارقطني، والطحاوي والطبراني. وفي لفظ لابن خزيمة: كانوا يسرون - وقوله: كانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين هذا متفق عليه. وإنما انفرد مسلم بزيادة: لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم وقد أعل هذا اللفظ بالاضطراب وفسر بأن جماعة من أصحاب شعبة رووه عنه به، وجماعة رووه عنه بلفظ: فلم أسمع أحدا منهم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم . ثم نقل عن الحافظ أن بعضهم رواه باللفظين وقد خرج كل رواية.
أقول: وقد جمعوا بين الروايات بأن المراد بالاستفتاح بالحمد لله الاستفتاح بهذه السورة فقد صح التعبير عنها في حديث آخر بجملة: الحمد لله . وبأن عدم سماعها سببه عدم الجهر بها، وقد يكون له سبب آخر وهو البعد عن أول الصف. ومن العادة أن يكون صوت القارئ خافتا في أول القراءة. وسبب ثالث وهو اشتغال المأموم عند السماع بالتحرم ودعاء الافتتاح.
وقد عورض وأعل حديث أنس على اضطراب متنه بما يأتي عنه من مخالفته له في صفة قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبما رواه الدارقطني وصححه عن أبي سلمة، قال: سألت أنس بن مالك: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بالحمد لله رب العالمين، أو ببسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: إنك سألتني عن شيء ما أحفظه وما سألني عنه أحد قبلك فقلت: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى في النعلين؟ قال: نعم . قالوا: وعروض النسيان في مثل هذا غير مستنكر فقد حكى الحازمي عن نفسه أنه حضر جامعا وحضره جماعة من أهل التمييز المواظبين في ذلك الجامع، فسألهم عن حال إمامهم في الجهر والإخفات قال: - وكان صيتا يملأ صوته الجامع - فاختلفوا في ذلك فقال بعضهم: يجهر، وقال بعضهم يخفت. أ هـ.
أقول: ولم يختلف هؤلاء المصلون في صلاة واحدة، بل في جميع الصلوات، وسبب ذلك الغفلة والناس عرضة لها، ولا سيما الغفلة عن أول صلاة الإمام. إذ يكون المأمومون مشغولين بمثل ما يشغله من الدخول فيها وقراءة دعاء الافتتاح كما تقدم آنفا.
وأما أحاديث إثبات كون البسملة من الفاتحة، فمنها: ما رواه البخاري عن قتادة قال: سئل أنس كيف كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال كانت مدا، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم. ويمد بالرحمن وبالرحيم . وروى عنه الدارقطني من طريقين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بالبسملة
. ومنها: حديث أم سلمة أم المؤمنين - رضي الله عنها - أنها سئلت عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كان يقطع قراءته آية آية: {بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين} رواه أحمد وأبو داود بهذا اللفظ وغيرهما.
ومنها ما رواه النسائي وغيره عن نعيم المجمر. قال: صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. ثم قرأ بأم القرآن . وفيه يقول إذا سلم: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، قال: على شرط البخاري ومسلم وأقره الحافظ الذهبي. وقال البيهقي: صحيح الإسناد وله شواهد. وقال أبو بكر الخطيب فيه: ثابت صحيح لا يتوجه عليه تعليل، وروي عن أبي هريرة حديثان آخران بمعناه، وثق بعضهم جميع رجالهما وتكلم بعضهم في بعضهم.
ومنها: حديث علي - رضي الله عنه - سئل عن السبع المثاني فقال: {الحمد لله رب العالمين} قيل: إنما هي ست فقال: {بسم الله الرحمن الرحيم}. ورواه الدارقطني وإسناده كلهم ثقات لم يطعنوا في أحد منهم، وله حديثان آخران عنه وعن عمار بن ياسر في إثبات جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبسملة في صلاته قد تكلموا في سندها.
ومنها حديث أنس: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم رواه الحاكم وقال: ورواته عن آخرهم ثقات، وأقره الحافظ الذهبي.
وقد أورد الشوكاني في نيل الأوطار هذه الأحاديث الصحيحة وغيرها من الروايات الضعيفة الأسانيد الصحيحة المتون، وذكر حمل الروايات الصحيحة من أحاديث النفي المعارضة لها على عدم الجهر بالبسملة من باب حمل المطلق على المقيد وهو ترك الجهر، ثم قال:
إذا كان محصل أحاديث نفي البسملة هو نفي الجهر بها، فمتى وجدت رواية فيها إثبات الجهر قدمت على نفيه. قال الحافظ - ابن حجر - لا بمجرد تقديم رواية المثبت على النافي - أي كما هي القاعدة - لأن أنسا يبعد جدا أن يصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - مدة عشر سنين ويصحب أبا بكر وعمر وعثمان خمسا وعشرين سنة فلا يسمع منهم الجهر بها في صلاة واحدة، بل لكون أنس اعترف بأنه لا يحفظ هذا الحكم، كأنه لبعد عهده به لم يذكر منه إلا الجزم بالافتتاح بالحمد لله جهرا، فلم يستحضر الجهر بالبسملة، فيتعين الأخذ بحديث من أثبت الجهر أ هـ.
أقول: وقد تقدم نص الرواية عنه بنسيان هذا الحكم آنفا فعد حديثه مضطربا لا يحتج به. قال الحافظ ابن عبد البر بعد سرده روايات حديثه في الاستذكار: هذا الاضطراب لا تقوم معه حجة. وقد سئل عن ذلك أنس فقال: كبرت سني ونسيت. أ هـ
وقد روى الطبراني في الكبير والأوسط في سبب ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - للجهر بالبسملة في الصلاة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وكان المشركون يهزءون بمكاء وتصدية، ويقولون: محمد يذكر إله اليمامة - وكان مسيلمة الكذاب يسمى رحمن - فأنزل الله { ولا تجهر بصلاتك } [الإسراء: 110] فتسمع المشركين فيهزءوا بك { ولا تخافت بها } [الإسراء: 110] عن أصحابك فلا تسمعهم. وقد قال في مجمع الزوائد: إن رجاله موثقون. وقال الحكيم الترمذي. فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذكر الرسم وإن زالت العلة. وجمع به القرطبي بين الروايات.
وقال ابن القيم في زاد المعاد: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم تارة ويخفتها أكثر مما جهر بها إلخ . وهذا القول معقول، وإذا صح أن سببه ما رواه الطبراني واعتمده القرطبي والنيسابوري والحكيم الترمذي يكون ترك الجهر في أول الإسلام بمكة وأوائل الهجرة، والجهر فيما بعده، وقد علمت ما في حديثي أنس وأبي قتادة المخالفين لهذا.
ولا يغرن أحدا قول العلماء إن منكر البسملة من الفاتحة أو من كل سورة لا يكفر ومثبتها لا يكفر فيظن أن سبب هذا عدم ثبوتها بالدليل القطعي، كلا إنها ثابتة ولكن منكرها لا يكفر لتأويله الدليل القطعي بشبه المعارضة التي تقدمت وبينا ضعفها، وسنزيده بيانا والشبهة تدرأ حد الردة.
وجملة القول أن اختلاف الروايات الآحادية في الإسرار بالبسملة والجهر بها قوي، وأما الاختلاف في كونها من الفاتحة أو ليست منها فضعيف جدا جدا وإن قال به بعض كبار العلماء ذهولا عن رسم المصحف الإمام القطعي المتواتر والقراءات المتواترة التي لا يصح أن تعارض بروايات أحادية، أو بنظريات جدلية، وأصحاب الجدل يجمعون بين الغث والسمين وبين الضدين والنقيضين، وصاحب الحق منهم يشتبه بغيره، وربما يظهر عليه المبطل بخلابته، إذا كان ألحن بحجته.
وقد ذكر الرازي في تفسيره سبع عشرة حجة على إثبات كون البسملة من الفاتحة منها القوية والضعيفة، وتصدى له الألوسي محاولا دحضها تعصبا لمذهبه الذي تنحله في الكبر إذ كان شافعيا فتحول حنفيا تقربا إلى الدولة وصرح بهذا التعصب إذ قال هنا: على المرء نصرة مذهبه والذب عنه إلخ. وهذه كبرى زلاته المثبتة لعدم استقلاله بعدم طلبه الحق لذاته، حتى إنه مارى في حجة لإثبات البسملة في أولها بخط المصحف المتواتر فجعلها دليلا على كونه من القرآن دون كونها من الفاتحة، وهو من تمحل الجدل، فلا معنى لكونها آية مستقلة في القرآن ألحقت بسوره كلها إلا واحدة وليست في شيء منها ولا في فاتحته التي اقتدوا بها في بدء كتبهم كلها، إنه لقول واه تبطله عبادتهم وسيرتهم، وينبذه ذوقهم، لولا فتنة الروايات والتقليد. فتعارض الراويات اغتر به أفراد مستقلون، وبالتقليد فتن كثيرون، ولله في خلقه شئون.
على أن الألوسي حكم وجدانه واستفتى قلبه في بعض فروع المسألة، فأفتاه بوجوب قراءة الفاتحة والبسملة في الصلاة، وخانه في كونها آية منها، وأورد في حاشية تفسيره على ذلك إشكالا استكبره جد الاستكبار وما هو بكبير، فنحن نذكر عبارتيه، ونقفي عليهما بالرد عليه. قال في تفسيره روح المعاني : وبالجملة يكاد أن يكون اعقتاد كون البسملة جزءا من سورة (1) من الفطريات!! كما لا يخفى على من سلم له وجدانه (!!) فهي آية من القرآن مستقلة ولا ينبغي لمن وقف على الأحاديث أن يتوقف في قرآنيتها. أو ينكر وجوب قراءتها ويقول بسنيتها، فوالله لو ملئت لي الأرض ذهبا لا أذهب إلى هذا القول وإن أمكنني بفضل الله توجيهه (!!) كيف وكتب الأحاديث ملأى بما يدل على خلافه. وهو الذي صح عندي عن الإمام - يعني إمامه الجديد أبا حنيفةرحمه الله تعالى - والقول بأنه لم ينص بشيء ليس بشيء، وكيف لا ينص إلى آخر عمره في مثل هذا الأمر الخطير الدائر عليه أمر الصلاة من صحتها أو استكمالها، ويمكن أن يناط به بعض الأحكام الشرعية، وأمور الديانات كالطلاق والحلف والعتق. وهو الإمام الأعظم، والمجتهد الأقدم، رضي الله عنه ؟
وكتب في حاشيته عند قوله: فهي آية من القرآن مستقلة ما نصه:
استشكل بعضهم الإثبات والنفي، فإن القرآن لا يثبت بالظن ولا ينفى به. وهو إشكال كالجبل العظيم (؟) وأجيب عنه أن حكم البسملة في ذلك حكم الحروف المختلف فيها بين القراء السبعة قطعية الإثبات والنفي معا (!!) ولهذا قرأ بعضهم بإثباتها وبعضهم بإسقاطها، وإن اجتمعت المصاحف على الإثبات، فإن من القراءات ما جاء على خلاف خطها كالصراط ومصيطر فإنهما قرئا بالسين ولم يكتبا إلا بالصاد { وما هو على الغيب بضنين } [التكوير :24] تقرأ بالظاء ولم تكتب إلا بالضاد ففي البسملة التخيير، وتتحتم قراءتها في الفاتحة عند الشافعي احتياطيا (!!) وخروجا من عهدة الصلاة الواجبة بيقين لتوقف صحتها على ما أسماه الشرع فاتحة الكتاب فافهم، والله أعلم بالصواب ا هـ
أقول: نعم. إن الله أعلم بالصواب، وقد وفق لعلمه أولي الألباب، وهم { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب } [الزمر: 18] دون الذين يستمعون القول فيتبعون منه ما وافق رواية فلان ورأي فلان، ويوجبون على أنفسهم نصره ولو بتأويل ما مضت به السنة العملية وثبت بنص القرآن، ولولا عصبية المذاهب عند المقلدين، والغرور بظواهر بعض الروايات عند الأثريين، لما اختلف أحد من الفريقين في هذه المسألة، ونحمد الله تعالى أن اختلافهم فيها قولي جدلي لا عملي.
سبحان الله! ما أعجب صنع الله في عقول البشر! أيقول السيد محمود الألوسي العالم الذكي النزاع إلى استقلال الفكر في كثير من مسائل التفسير. وبالرغم من رضائه بمهانة جهالة التقليد: إن استشكال الجمع بين الإثبات والنفي القطعيين في مسألة البسملة إشكال كالجبل العظيم ؟ ثم يرضى بالجواب عنه بما يقرر به الجمع بين الإثبات والنفي القطعيين.
سبحان الله! إن الجمع بين النفي والإثبات هو التناقض الحقيقي الذي يعز إيراد مثال للمحال العقلي مثله، فكيف يصدر القول به عن عالم أو عن عاقل؟
إن الإشكال الذي نظر إليه المفسر بعيني التقليد العمياوين فرآه كالجبل العظيم، هو في نفسه صغير حقير ضئيل قميء خفي كالذرة من الهباء، أو كالجزء لا يتجزأ من حيث كونه لا يرى ولا يثبت إلا بطريقة الفرض، أو كالعدم المحض.
والجواب الحق: أنه لم ينف أحد من القراء كون البسملة من الفاتحة نفيا حقيقيا برواية متواترة عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - تصرح بأنها ليست من الفاتحة - كما يقول بعض الناس بشبهة عدم رواية القراء لها، وشبه تعارض الروايات الآحادية التي ذكرنا أقواها والمخرج منها - أو ليست إلا جزء آية من سورة النمل، كما زعم من لا شبهة لهم على النفي تستحق أن يجاب عنها. وإنما أثبت بعض القراء بالروايات المتواترة: أن البسملة آية من الفاتحة وبعضهم لم يرو ذلك بأسانيده المتواترة، وعدم نقل الإثبات للشيء ليس نفيا لذلك الشيء، لا رواية ولا دراية. وأعم من هذا، ما قال العلماء، من أن بين عدم إثبات الشيء وبين إثبات عدمه بونا بعيدا كما هو معلوم بالضرورة. ولو فرضنا أن بعضهم روى التصريح بالنفي لجزمنا بأن روايته باطلة سببها أن بعض رجال سندها اشتبه عليه عدم الإثبات بإثبات النفي، إذ يستحيل عقلا أن يكون الأمران المتناقضان قطعيين معا، ورواية الإثبات لا يمكن الطعن فيها، وناهيك وقد عززت بخط المصحف الذي هو بتواتره خطا وتلقينا أقوى من جميع الروايات القولية وأعصى على التأويل والاحتمال، وأما القول بأنها آية مستقلة بين كل سورتين للفصل بينهما ما عدا الفصل بين سورتي الأنفال وبراءة، فما هو إلا رأي للجمع بين الروايات الآحادية الظنية المتعارضة، ويمكن الجمع بغيره مما لا إشكال فيه، إذ لو كانت البسملة للفصل بين السور لم توضع في أول الفاتحة ولم تحذف من أول براءة للعلة التي ذكرناها عنهم في هذا البحث فهي لا تتحقق إلا إذا كانت البسملة من السورة، ورد على ذلك ما أوردناه من المعاني والحكم في بدء القرآن بها، وما صح مرفوعا من كونها هي السبع المثاني.
وأما الجواب الذي نقله الألوسي وارتضاه فلا يستغرب صدوره ولا إقراره ممن يثبت الجمع بين النقيضين المنطقيين ويفتخر بأنه يمكنه توجيه ما يعتقد بطلانه على أنه جواب عن إشكال غير وارد، وبعبارة أخرى ليس جوابا عن إشكال إذ لا إشكال. والخلاف بين القراء في مثل السراط و الصراط، ومسيطر ومصيطر، وضنين، وظنين، ليس خلافا بين النفي والإثبات كمسألة البسملة بل هي قراءات ثابتة بالتواتر، فأما ضنين وظنين فهما قراءتان متواترتان - كمالك وملك في الفاتحة - كتبت قراءة الضاد في مصحف أبي وهو الذي وزع في الأمصار وقرأ بها الجمهور، وقراءة الظاء في مصحف عبد الله بن مسعود وقرأ بها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ولكل منهما معنى وليستا من قبيل تسهيل القراءة لقرب المخرج كما سيأتي في بيان الفرق بين مخرجي الحرفين قريبا، وأما السراط والصراط ومسيطر ومصيطر فلا فرق بينهما إلا تفخيم السين وترقيقه وبكل منهما نطق بعض العرب وثبت به النص فهو من قبيل ما صح من تحقيق الهمزة و تسهيلها، ومن الإمالة وعدمها، فلا تنافي بين هذه القراءات فنعد إثبات إحداها نفيا لمقابلتها كما هو بديهي. على أن خط المصحف أقوى الحجج فلو فرضنا تعارض هذه القراءات لكان هو المرجح، ولكن لا تعارض ولله الحمد.
نكتفي بهذا ردا لما في كلام الألوسي وأمثاله من الخطأ، فإن غيره لا يعنينا في موضوعنا ولا سيما ما رجحه عن إمامه وخالف فيه غيره، وعلله بإطلاقهم عليه لقب الإمام الأعظم، وزيادته هو عليهم لقب المجتهد الأقدم، مع علمه بأن علماء الصحابة والتابعين أقدم منه اجتهادا، وأن هذه الألقاب وإن صح معناها لا تقتضي عدم الخطأ ولا عدم النسيان ولا إهمال بعض المسائل المهمة. ونحن يسرنا أن يصح ما ذكره، وأن يخطئ ما أنكره، فإن من المصائب أن يوجد في المسلمين عالم ينكر ما ثبت في خط المصحف المتواتر كتابة ورواية. وقد نقل الرازي أن أبا حنيفة ليس له نص في المسألة، وإنما قال: يقرأ البسملة ويسر بها، ولم يقل إنها آية من أول السورة أم لا. (قال الرازي): وسئل محمد بن الحسن عن بسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: ما بين الدفتين كلام الله، قال (أي السائل له): فلم تسره؟ قال: فلم يجبني. وقال الكرخي: لا أعرف هذه المسألة بعينها لمتقدمي أصحابنا، إلا أن أمرهم بإخفائها يدل على أنها ليست من السورة. وقال بعض فقهاء الحنفية: تورع أبو حنيفة وأصحابه عن الوقوع في هذه المسألة؛ لأن الخوض في أن البسملة من القرآن أو ليست منه أمر عظيم، فالأولى السكوت عنه ا هـ.
أقول: من الخطأ البين الاستدلال بأمر بعض الفقهاء بإخفاء البسملة على كونها ليست من القرآن، مع الإجماع على أن ما بين دفتي المصحف قرآن منزل من الله. على أن الروايات الصحيحة في الأحاديث فيها الجهر بالبسملة والإسرار، وروايات الجهر أقوى وأبعد عن التعليل والتأويل.
وصفوة القول: أن دلالة المصحف أقوى الدلالات، ترجح على كل ما عارضها من الروايات، ودلالتها قطعية، تؤيدها الروايات المتواترة في إثباتها، والإجماع العملي على قراءتها، ولا ينافيها عدم رواية بعضهم لها. فالمسألة قطعية في نفسها، وإنما جعلوها اجتهادية باختلاف الروايات الآحادية في قراءتها، وقد علمت ما فيها والله الموفق للصواب.
فضل الفاتحة وكونها هي السبع المثاني
قال الله تعالى في سورة الحجر مخاطبا خاتم الأنبياء والمرسلين: { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } [الحجر: 87] وقد ثبت في الحديث الصحيح والآثار الصحيحة عن الصحابة والتابعين: أن السبع المثاني هي سورة الفاتحة ، ومعنى كونها مثاني: أنها تثنى وتعاد في كل ركعة من الصلاة لفرضيتها فيها كما تقدم، وقيل معناه: أنها يثنى فيها على الله تعالى بما أمره، وقيل غير ذلك: فأما الحديث المرفوع في تفصيلها وكونها هي المرادة بالسبع المثاني فهو ما رواه البخاري في مواضع من صحيحه، وأصحاب السنن عن أبي سعيد بن المعلى، وروى نحوه مالك والترمذي والحاكم من حديث أبي هريرة. ذكر أبو سعيد بن المعلى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له وهما في المسجد: لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن نخرج من المسجد - وفي رواية: قبل أن أخرج - (قال): أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ فقال: الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته وفي حديث أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بن كعب: أتحب أن أعلمك سورة لم تنزل في التوراة ولا الإنجيل ولا في الفرقان مثلها؟ قال أبي: ثم أخذ بيدي يحدثني وأنا أتباطأ مخافة أن يبلغ الباب قبل أن ينقضي الحديث ولما سأله عن السورة قال: كيف نقرأ في الصلاة؟ فقرأت عليه أم الكتاب فقال: إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته . وفيه إزالة إشكال في حديث أبي سعيد بن المعلى، وهو أن ظاهره يوهم أنه لم يكن يعرف الفاتحة مع أنه كان يصلي في ذلك اليوم وقبله فهو من الأنصار - وقد علم من حديث أبي هريرة: أن المراد بتعليمه هذه السورة تعليمه ما فيها من الفضيلة على غيرها، وكونها هي المرادة بآية سورة الحجر. وأما عطف القرآن على سبعا من المثاني فهو من عطف الكل على الجزء أو العام على الخاص، وقيل في توجيهه غير ذلك.
وقد تعلق برواية الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني من قالوا: إن البسملة ليست من الفاتحة. وعكس الآخرون قائلين: إن المراد بالجملة الأولى لفظها على أنه اسم السورة وإلا ما صح قوله: هي السبع المثاني؛ لأنها آية واحدة، وإنما السبع المثاني: هي آيات الفاتحة السبع، وهي ليست سبعا إلا بالبسملة آية منها، فكونها منها ثابت بالقرآن أي بآية سورة الحجر، كما فسرها أعلم الناس به وهو الرسول الذي أنزله الله عليه، وكبار أصحابه والتابعين والحديث يدل على تسميتها بالحمد لله رب العالمين، إذ لا يصح معناه إلا بذلك.
وأما الآثار فقد فصلها السيوطي في الدر المنثور، وأجملها الحافظ في الفتح مع بيان درجة أسانيدها بقوله: وقد روى الطبري بإسنادين جيدين عن عمر ثم عن علي قال: السبع المثاني فاتحة الكتاب - زاد عن عمر تثنى في كل ركعة وبإسناد منقطع عن ابن مسعود مثله، وبإسناد حسن عن ابن عباس: أنه قرأ الفاتحة، ثم قال: { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } [الحجر: 87] قال: هي فاتحة الكتاب، وبسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة ومن طريق جماعة من التابعين: السبع المثاني فاتحة الكتاب. ومن طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: السبع المثاني فاتحة الكتاب: قلت للربيع: إنهم يقولون: إنها السبع الطول (جمع طولى مؤنث أطول) قال: لقد أنزلت هذه الآية وما نزل من الطول شيء. ا هـ.
يقول محمد رشيد: يعني أن سورة الحجر التي فيها هذه الآية قد نزلت بمكة قبل السور السبع الطول وهن: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة - المدنيات - والأنعام والأعراف، ويونس - المكيات - كذا قال بعضهم في السابعة: إنها سورة يونس، قال آخرون: هي الأنفال، وبراءة - وعدهما سورة واحدة - وقال بعضهم: إن الراوي نسي السابعة عن ابن عباس.
والقول بأنها السبع الطول، رواه النسائي والطبري والحاكم عن ابن عباس بإسناد قوي كما قال الحافظ. ولا حاجة إلى التفصيل فيه فإنه مردود لمخالفته للحديث الصحيح المرفوع، ولا قول لأحد من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومنه يعلم أن قوة الإسناد لا قيمة لها تجاه الدليل القوي على بطلان متن الرواية.
استدراك على تفسير المغضوب عليهم والضالين
ورد في الحديث المرفوع تفسير {المغضوب عليهم} باليهود، و {الضالين} بالنصارى، رواه أحمد والترمذي وحسنه ابن حبان وصححه غيرهم، ونقلنا عن شيخنا الأستاذ الإمام عزوه إلى بعضهم، أي بعض المفسرين وهو يريد أن بعض المفسرين اختار أن هذا هو المعنى المراد، وهو لم يكن يجهل أن هذا روي مرفوعا، ولكنه كان يعلم ـ مع هذا ـ أن أكثر المفسرين فسروا اللفظين بما يدلان عليه لغة حتى بعض أهل الحديث منهم، وكأنهم لم يروا أن الحديث صحيح، فقد قال البغوي الملقب بمحيي السنة في تفسيره (معالم التنزيل) بعد تفسيرهما بمدلولهما اللغوي، قيل: المغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى؛ لأن الله تعالى حكم على اليهود بالغضب فقال: { لعنه الله وغضب عليه } [المائدة: 60] وحكم على النصارى بالضلال فقال: { ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل } المائدة: 77] وقال سهل بن عبد الله: غير المغضوب عليهم بالبدعة، ولا الضالين عن السنة ا هـ. فعبر عن هذا القول بقيل الدال على ضعفه عنده ولم يستدل عليه بالحديث.
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: غير صراط المغضوب عليهم، وهم الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين، وهم الذين فقدوا العلم، فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق، وأكد الكلام بـ لا ليدل على أن ثم مسلكين فاسدين وهما: طريقة اليهود والنصارى. ا هـ.
وبعد كلام طويل في إعراب غير و لا إنما جيئ بـ لا لتأكيد النفي لئلا يتوهم أنه معطوف على {الذين أنعمت عليهم} وللفرق بين الطريقتين لتجتنب كل واحدة منهما، فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل بالحق والعمل به، واليهود فقدوا العمل والنصارى فقدوا العلم، ولهذا كان الغضب لليهود، والضلال للنصارى ـ واستشهد بالآيتين اللتين استشهد بهما البغوي، ثم ذكر الحديث ورواياته وهو عند أحمد والترمذي وكذا ابن حبان من طريق سماك بن حرب عن عدي بن حاتم، قال الترمذي، حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديثه.
وسماك ضعفه جماعة ووثقه آخرون، واتفقوا على أنه تغير في آخر عمره بل خرف، فما رواه في هذه الحال فلا جدال في رده بالاتفاق، وأخرجه ابن مردويه عن أبي ذر أيضا بسند، قال الحافظ في الفتح، إنه حسن، وقال ابن أبي حاتم: إنه لا يعرف في تفسيرهما بما ذكر خلافا يعني المأثور، ومع هذا نقول: إن ما ذكره المحققون من الوجوه الأخرى لا يعد مخالفة للمأثور الذي هو من قبيل تفسير العام ببعض أفراده، من قبيل التمثيل لا التخصيص، ولا الحصر بالأولى.
التأمين بعد الفاتحة
عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أمن الإمام فأمنوا فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه وقال ابن شهاب: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: آمين . رواه الجماعة، إلا أن الترمذي لم يذكر قول ابن شهاب، وفي رواية: إذا قال الإمام: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقولوا: آمين، فإن الملائكة تقول: آمين، وإن الإمام يقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه رواه أحمد والنسائي. وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تلا {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: آمين. حتى يسمع من يليه من الصف الأول رواه أبو داود وابن ماجه وقال: حتى يسمعها أهل الصف الأول فيرتج بها المسجد وعن وائل بن حجر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقال: آمين. يمد بها صوته ، رواه أحمد وأبو داود والترمذي. اهـ منتقى الأخبار.
وهذه الأحاديث كلها صحيحة وأخرجها غير من ذكر، وزاد أبو داود في الأخير منها ورفع بها صوته قال الحافظ ابن حجر: وسنده صحيح، وخطأ ابن القطان في إعلانه إياه بجهالة حجر بن عنبس وقال: إنه ثقة معروف، قيل: إن له صحبة.
وهنالك أحاديث أخرى في المسألة تبلغ مع هذه سبعة عشر حديثا، وهذه أصحها. قال الشوكاني في نيل الأوطار عند شرح حديث أبي هريرة الأول: والحديث يدل على مشروعية التأمين. قال الحافظ: وهذا الأمر عند الجمهور للندب، وحكى ابن بزيزة عن بعض أهل العلم وجوبه عملا بظاهر الأمر، وأوجبته الظاهرية على كل من يصلي، والظاهر من الحديث وجوبه على المأموم فقط، لكن لا مطلقا بل مقيدا بأن يؤمن الإمام، وأما الإمام والمنفرد فمندوب فقط.
قال: وحكى المهدي في البحر عن العترة جميعا، أن التأمين بدعة ـ وقد عرفت ثبوته عن علي - رضي الله عنه - من فعله وروايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتب أهل البيت وغيرهم ـ على أنه قد حكى السيد العلامة الإمام محمد بن إبراهيم الوزير عن الإمام المهدي. محمد بن المطهر وهو أحد أئمتهم المشاهير أنه قال في كتابه (الرياض الندية): إن رواة التأمين جم غفير، قال: وهو مذهب زيد بن علي وأحمد بن عيسى. ا هـ. وقد استدل صاحب البحر على أن التأمين بدعة بحديث معاوية بن الحكم السلمي إن هذه صلاتنا لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ولا شك أن أحاديث التأمين خاصة وهذا عام، وإن كانت أحاديثه الواردة عن جمع من الصحابة لا يقوى بعضها على تخصيص حديث واحد من الصحابة ـ مع أنها مندرجة تحت تلك العمومات القاضية بمشروعية مطلق الدعاء في الصلاة؛ لأن التأمين دعاء، فليس في الصلاة تشهد، وقد أثبته العترة، فما هو جوابهم في إثباته فهو الجواب في إثبات ذلك. على أن المراد بكلام الناس في الحديث هو تكليمهم؛ لأنه اسم مصدر كلم لا تكلم ويدل على ذلك السبب المذكور في الحديث. أ هـ.
والمراد بقوله السبب المذكور في الحديث: هو أن معاوية بن الحكم السلمي شمت عاطسا في الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فرماه القوم بأبصارهم فقال: وا ثكل أماه، مالكم تنظرون إلي؟ إلخ. وجملة القول: أن التأمين في الصلاة مشروع بنص الأحاديث الصحيحة الصريحة، فلا وجه لمنعه بعموم أحاديث أخرى لا تنافيها، ولو عارضتها لوجب ترجيحها عليها.
واختلف في موضعه بالنسبة إلى المأموم، هل هو بعد قول الإمام: {ولا الضالين} أم عند قوله: آمين ؟ وهو مبني على أن بين الحديثين في ذلك تعارضا، وهو غفلة عن كون الإمام إنما يؤمن بعد قوله: {ولا الضالين} كما صرح به في رواية أحمد والنسائي لحديث أبي هريرة فمعنى الحديثين متفق، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أمن الإمام فأمنوا مبني على أن من شأن الإمام أن يؤمن عقب إتمام الفاتحة اتباعا للسنة فلا مفهوم للشرط فيه.
فائدة في مخرجي الضاد والظاء وحكم تحريف الأول
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: والصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب مخرجيهما، وذلك أن الضاد مخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس، ومخرج الظاء من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا، ولأن كلا من الحرفين من الحروف المجهورة ومن الحروف الرخوة ومن الحروف المطبقة، فلهذا كله اغتفر استعمال أحدهما مكان الآخر لمن لا يميز ذلك، والله أعلم. وأما الحديث: أنا أفصح من نطق بالضاد فلا أصل له. ا هـ.
وأقول: إن أكثر أهل الأمصار العربية قد أرادوا الفرار من جعل الضاد ظاء، كما يفعل الترك وغيرهم من الأعاجم، فجعلوها أقرب إلى الطاء منها إلى الضاد حتى القراء المجودون منهم، إلا أهل العراق وأهل تونس فهم على ما نعلم أفصح أهل الأمصار نطقا بالضاد، وإننا نجد أعراب الشام وما حولها ينطقون بالضاد فيحسبها السامع ظاء لشدة قربها منها وشبهها بها. وهذا هو المحفوظ عن فصحاء العرب الأولين حتى اشتبه نقلة العربية عنهم في مفردات كثيرة قالوا: إنها سمعت بالحرفين وجمعها بعضهم في مصنف مستقل، والأشبه أنه قد اشتبه عليهم أداؤها منهم فلم يفرقوا، والفرق ظاهر ولكنه غير بعيد.
وقد قرئ قوله تعالى في سورة التكوير: { وما هو على الغيب بضنين } [التكوير: 24] بكل من الضاد والظاء، والضنين: البخيل، والظنين: المتهم، وفائدتهما نفي كل من البخل والتهمة. والمعنى: ما هو ببخيل في تبليغه فيكتم، ولا بمتهم فيكذب، قال في الكشاف: وهو في مصحف عبد الله بالظاء، وفي مصحف أبي بالضاد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهما. وإتقان الفصل بين الضاد والظاء واجب، ومعرفة مخرجيهما مما لا بد منه للقارئ، فإن أكثر العجم لا يفرقون بين الحرفين، وإن فرقوا ففرقا غير صواب وبينهما بون بعيد، فإن مخرج الضاد من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان ويساره، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أضبط: يعمل بكلتا يديه، وكان يخرج الضاد من جانبي لسانه، وهي أحد الأحرف الشجرية أخت الجيم والشين، وأما الظاء فمخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا. وهي أحد الأحرف الذولقية، أخت الذال والثاء، ولو استوى الحرفان لما ثبتت في هذه الكلمة قراءتان اثنتان، واختلاف بين جبلين من جبال العلم والقراءة. ولما اختلف المعنى والاشتقاق والتركيب. ا هـ.
وأقول: صدق أبو القاسم الزمخشري في تحقيقه هذا كله إلا قوله: إن البون بين الحرفين بعيد، فالفرق ثابت ولكنه قريب، وهو يحصل بإخراج طرف اللسان بالظاء بين الثنايا كأختيه الثاء والذال، ولا شركة بينه وبينهما إلا في هذا.
التوسع في الاستنباط من معنى الفاتحة
إن ما أوردناه في تفسير الفاتحة من تلخيص لما فهمناه من دروس شيخنا ومما قرأناه في الكتب، ثم ما زدناه عليه في أصله وفي هذه الفوائد الزوائد، فالغرض منه التفقه في معاني القرآن والاهتداء به، وقد اقتصدنا فيه، فاقتصرنا على ما لا يشغل القارئ عن المقصد، وقد أطال الفخر الرازي في استطرادات عديدة، ومسائل مستنبطة من لوازم للمعاني قريبة أو بعيدة، ولكنها تشغل مريد الاهتداء بالقرآن، وأطال ابن القيم في أول كتابه مدارج السالكين القول في استنباط المسائل منها من طريق الدلالات الثلاثة: المطابقة، والتضمن، والالتزام، وأخذ في الثالثة باللزوم البين بالمعنى الأعم وبالمعنى الأخص باللزوم غير البين أيضا، بل سمى كتابه مدارج السالكين، بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين وأجمل ذلك. بقوله: في خطبة الكتاب، إنه ينبه على بعض ما تضمنته هذه السورة من هذه المطالب، وما تضمنته من الرد على جميع طوائف أهل البدع والضلال، وما تضمنته من: منازل السائرين، ومقامات العارفين، والفرق بين وسائلها وغاياتها، ومواهبها وكسبياتها، وبيان أنه لا يقوم غير هذه السورة مقامها ولا يسد مسدها، ولذلك لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها ا هـ.
ومما ذكره في تفصيل ذلك: فصول في الرد على أهل الوحدة، والمجوس، والقدرية، والجهمية، والجبرية، ومنكري النبوات، والقائلين بقدم العالم.
والفرق بين هذه المستنبطات، ومستنبطات الرازي: أن أكثر تلك في المصطلحات العربية والعقلية والكلامية والفقهية، وأكثر هذه في المقاصد الروحية التعبدية لتلك المصطلحات والعلوم، فهي تزيد قارئها دينا وإيمانا وتقوى، ولكن لا يصح أن يسمى شيء منهما تفسيرا للفاتحة، ولو كنا نعده تفسيرا لاقتبسناه أو لخصناه في هذه الفوائد.
وللصوفية منازع فيها أبعد عن اللغة والنقل والعقل من كل ذلك، جرأت مثل الدجال ميرزا غلام أحمد القادياني، الذي ادعى النبوة والوحي في هذا العصر، وزعم أنه المسيح الذي ينتظره أهل الملل في آخر الزمان - جرأته على ادعاء دلالة البسملة على دعواه الباطلة!! وقد فندنا شبهة أمثال هؤلاء في تفسير قوله تعالى: { ما فرطنا في الكتاب من شيء } [الأنعام: 38].
وقد ذهب بعض المعاصرين مذهبا أبعد من هذا وذاك في تفسير الفاتحة وغيرها من القرآن، فهو يرى أن تفسير لفظ العالمين ـ مثلا ـ يقتضي بيان كل ما وصل إليه علم البشر من مدلول هذا اللفظ، وأن تفسير لفظي {الرحمن} و {الرحيم} يقتضي بيان كل ما يعرف من نعم الله وإحسانه بخلقه وإلى خلقه من كل وجه، فاتباع هذا المذهب في تفسير الفاتحة أو آية أو كلمة منها لا يكمل إلا بكتابة ألوف من المجلدات يدون فيها كل ما وصل إليه علم جميع علماء الأرض في أعيان العالم، وصفاتها وأحوالها من أدنى الحشرات إلى أرقى البشر من حكماء الصديقين، والأنبياء المرسلين، وإن عد مثل هذا من التفسير إضلال عن القرآن، وإنما يحسن في التفسير تذكير المؤمن بألا يغفل عن ذكر الله والتفكر في آياته ورحمته ونعمه في كل نوع من مخلوقاته، عند النظر فيها، والتفكر في آيات الله الدالة عليها.
ونزع بعض الدجالين والمخرفين منزعا آخر سبقهم إليه اليهود، وهو استنباط المعاني من أعداد حروف الهجاء بحساب الجمل، قال بعضهم: إن القرآن يدل على قيام الساعة سيكون في سنة 1407 للهجرة، وهو عدد حروف بغتة من قوله تعالى: { لا تأتيكم إلا بغتة } [الأعراف: 187] ولهؤلاء في الحروف المقطعة في أوائل السور وفي أعدادها ضلالات لا نضيع الوقت بكتابتها، فلدلالة الألفاظ على المعاني طرق في اللغة لا تخرج عنها، وليس هذا منها.
ما ينبغي تدبره واستحضاره من معاني الفاتحة وغيرها في الصلاة
إذا قمت أيها المسلم إلى الصلاة فوجه كل قلبك فيها إلى استحضار كل ما يتحرك به لسانك من ذكر وتلاوة.
فإذا قلت: الله أكبر فحسبك أن تذكر في قلبك أن الله تعالى أعظم من كل عظيم، وأكبر من كل شيء، فلا يصح أن يشغلك عن الصلاة له أو فيها شيء دونه، وكل شيء دونه.
وإذا قرأت ما ورد في ذكر الافتتاح فلا تشغل نفسك بغير معناه وهو ظاهر، وإذا استعذت بالله تعالى قبل القراءة عملا بعموم قوله تعالى: { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } [النحل:98] فتصور من معنى صيغة الاستعاذة أنك تلجأ إلى الله تعالى وتعتصم به من وسوسة الشيطان الشاغلة عن الصلاة وما يجب فيها من التدبر لكتابه والخشوع والإخلاص له تعالى.
وإذا قرأت البسملة فاستحضر من معناها: إنني أصلي {بسم الله} ولله الذي شرع الصلاة وأقدرني عليها {الرحمن الرحيم} ذي الرحمة العامة التي وسعت كل شيء والخاصة بمن شاء من عباده المخلصين.
وإذا قلت: {الحمد لله رب العالمين} فاستحضر من معناها أن كل ثناء جميل بالحق فهو لله تعالى استحقاقا وفعلا، من حيث إنه الرب خالق العالمين ومدبر جميع أمورهم {الرحمن} في نفسه {الرحيم} بخلقه {مالك يوم الدين} ذي الملك والتصرف دون غيره يوم محاسبة الخلق ومجازاتهم بأعمالهم فلا يرجى غيره، وإذا قلت: {إياك نعبد} إلخ فتذكر أنك تخاطب هذا الرب العظيم كفاحا بما يجب أن تكون صادقا فيه، ومعناه نعبدك وحدك دون سواك بدعائك والتوجه إليك {وإياك نستعين} نطلب معونتك وحدك على عبادتك وعلى جميع شئوننا، بالعلم بما أعطيتنا من الأسباب، وبالتوكل عليك وحدك عند العجز عنها {اهدنا الصراط المستقيم} دلنا وأوصلنا بتوفيقك ومعونتك إلى طريق الحق في العلم والعمل، الذي لا عوج فيه ولا زلل {صراط الذين أنعمت عليهم} بالإيمان الصحيح والعمل الصالح وثمرتهما وهي سعادة الدارين، وتذكر إجمالا أولئك المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وأن حظك من هذه الهداية لصراطهم إنما يكون بالتأسي والاقتداء بهم في الدنيا، ومرافقتهم في الآخرة، وحسن أولئك رفيقا {صراط الذين أنعمت عليهم} فضلا وإحسانا منك {غير المغضوب عليهم} بإيثارهم الباطل على الحق، وترجيحهم الشر على الخير {ولا الضالين} عن طريق الحق والخير بجهلهم { الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } [الكهف: 104].
وأنصح لك أيها التالي للقرآن في الصلاة وفي غير الصلاة، أن تقرأه على مكث وتمهل، بخشوع وتدبر، وأن تقف على رءوس الآيات، وتعطي القراءة حقها من التجويد والنغمات، مع اجتناب التكلف والتطريب، واتقاء الاشتغال بالألفاظ عن المعاني، فإن قراءة آية واحدة مع التدبر والخشوع، خير لك من قراءة ختمة مع الغفلة، ومن المجربات: أن تغميض العينين في الصلاة يثير الخواطر، ولذلك كان مكروها، وأن رفع الصوت المعتدل في الصلاة الجهرية ولا سيما صلاة الليل يطرد الغفلة، ويوقظ راقد الخشية، وإعطاء كل أسلوب حقه من الأداء والصوت يعين على الفهم، ويستفيض ما غاض بطول الغفلة من شآبيب الدمع.
أقْبَلَ سَيْلٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ الله
وقيل: حذفت الثانية لأن الأولى تكتفي عنها، وتدل عليها.
{ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ}: الحمد والمدحُ أخَوانِ لفظاً، ومعناهما الثناء الجميل، وهما هنا بقصد التعظيم والتبجيل في الضّراء والسراء على السواء.
وبعضهم فرقاً بينهما، فيقول: الحمد يكون بعد الإحسان وهو مأمور به دائما لحديث: من لم يحمَدِ الناسَ لم يحمد الله
أما المدح فيكون قبل الاحسان وبعده. وهو منهيٌّ عنه، لحديث احثُوا في وجوه المدّاحين التراب
والربّ في كلام العرب له معان ثلاثة: السيد المطاع، والرجل المصْلِح للشيء، والمالك للشيء.
فربُّنا جل ثناؤه: السيد المطاع في خلقه، والمصلح أمْرَ خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخَلْق والأمر.
{ٱلْعَالَمِينَ}: جميع الكائنات في هذا الوجود.
فمعنى {ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ} الحمد لله الذي له الخلق كله، السماوات والأرض، ومن فيهن وما بينهن، مما يُعلم وما لا يُعلم، فالثناء المطلق الذي لا يُحَدّ لله سبحانه إنما كان لأنه هو رب العالمين.
{ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ}: الرحمن صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة، وقد تقدم انه لا يوصف بها الا الله: { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } [الرحمن:1ـ2]. { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } [طه:5]. { قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ } [الإسراء:110].
أما الرحيم، فقد كثر استعمالها في القرآن وصفاً فعليا وجاءت بأسلوب ايصال النعمة والرحمة: { إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [البقر:143] { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [الأعراف:156] { وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } [الأحزاب:43]. ولا نطيل أكثر من ذلك، وإنما نريد أن نبين هنا نكتة إعادتهما وتكرارهما. فنأياً عن أن يُفهم من لفظة الرب صفة الجبروت والقهر اراد الله تعالى أن يذكِّر الخلق برحمته واحسانه، ليجمعوا بين اعتقاد الجلال والجمال. فذكَر الرحمن اي المفيض للنعم بسعة وتجدُّد لا منتهى لهما، والرحيم الثابتَ له وصف الرحمة، لا تزايله أبدا. بذا عرّفهم أن ربوبيته رحمة واحسان، ليعلموا ان هذه الصفة هي الأصلية التي يرجع اليها معنى بقية الصفات فيتعلقوا به ويُقبلوا على اكتساب مرضاته.
هذا وإن تكرار وصف الله لنفسه بالرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب لهو تأكيد لمعنى ان الدين الذي كتابه القرآن انما تقوم فضائله ونظُمه على الرحمة والحب والإحسان.
وإذا كان الحمد لله والثناء عليه مرجعهما وأساسهما التربية من الله للعالَم فما أجدر المؤمن ان يتخلق بخُلق الله، وان يلتمس الحمد والثناء من هذا السبيل الكريم. فمن حمّله الله مسئولية التربية من إمام أو معلّم أو أحد الزوجين فإن عليه أن يعتبر ما كُلف برعايته أمانةً عنده من المربي الاعظم سبحانه، فلْيمضِ فيها على سَنَن الرحمة والاحسان لا الجبروت والطغيان. ان ذلك أوفى الى ان يُصلح الله به، وأقربُ ان تناله رحمته.
{مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ}: قرىء: مَلك يَوم الدِّين و مالكِ يوم الدين قراءتان يدل مجموعهما على ان المُلك والمِلك في يوم القيامة لله وحده. { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [الإنفطار:19] لا يشاركه في ذلك أحدٌ ممن خلق.
وللفظ الدين معان كثيرة، منها المكافأة والعقوبة، وهذا المعنى يناسب المقام.
وفي هذا تربية أُخرى للعبد، فإنه إذا آمن بأن هناك يوماً يظهر فيه احسان المحسن، واساءة المسيء، وأن زمام الحكم في ذلك اليوم العظيم بيد الله ـ تكوّن عنده خُلُق المراقبة، وتوقَّع المحاسبة، فكان ذلك أعظمَ سبيل لإصلاح كل ما يعمل.
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: نخصّك بالعبادة ونخصك بطلب المعونة. والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلُّل، لذلك لم يستعمل اللفظُ الا في الخضوعِ لله تعالى، لأنهُ مولي أعظم النعم، فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع.
أمرنا الله تعالى أن لا نعبد غيره لأنه هو الإلَه الواحد لا شريك له. وترشدنا عبارة {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} الى أمرين عظيمين هما معراج السعادة في الدنيا والآخرة.
أحدهما: أن نعمل الاعمال النافعة ونجتهد في إتقانها ما استطعنا، لأن طلب المعونة لا يكون الا على عملٍ يود المرء أن يبذل فيه طاقته، فهو يطلب المعونة على اتمامه.
وثانيهما: قصْر الاستعانة بالله عليه وحده.
وليس في هذا ما ينافي التعاون بين الناس.
{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ } [المائدة:2].
فان هذا التعاون في دائرة الحدود البشرية لا يخرج عنها.
قال بعض السلف: الفاتحة سر القرآن. وسرُّها هذه الكلمة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فالقسم الأول من الآية تبرؤ من الشِرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة، وتفويضٌ إلى الله عز وجل.
{ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ}: هداه الله هُدًى وهَدْياً وهِدَايةً الى الإيمان أرشده، وهداه الى الطريق وهداه الطريق وللطريق بيّنة له وعرّفه به. و الهداية دلالة بلطف، كما يقول الراغب الاصفهاني، والصراط المستقيم: هو الطريق الواضح الذي لا عوج فيه ولا انحراف.
والصراط المستقيم ههنا هو جملة ما يوصِل الناس الى سعادة الدنيا والآخرة من عقائد وآداب وأحكام من جهتي العلم والعمل، وهو سبيل الاسلام الذي ختم الله به الرسالاتِ وجعل القرآن دستوره الشامل، ووكل الى الرسول الكريم تبليغه وبيانه.
فالشريعة الاسلامية في جميع امورها من عقيدة، واخلاق، وتشريع، وفي صلة الانسان بالحياة، وعلاقته بالمجتمع، وعلاقة المسلمين بالأمم ـ تأخذ الطريق الصائب، لا إفراط ولا تفريط. هذا هو الصراط المستقيم.
وهداية الله تعالى لا تحصى، نذكر منها:
أولاً: الهداية التي تعم كل مكلَّف بحيث يهتدي الى مصالحه، كالعقل والفطنة والمعارف الضرورية كما قال عز وجل { ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [طه:50].
ثانياً: نَصْبُ الدلائل الفارقة بين الحق والباطل، والصلاح والفساد: { وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } [البلد:10]، وقوله: { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } [فصلت:17].
ثالثاً: الهداية بإرسال الرسل وانزال الكتب: { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } [الآنبياء:73]، وقوله: { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء:9].
رابعاً: الكشف عن كثير من أسرار الأشياء كما هي، بالوحي والالهام والرؤيا الصادقة. وهذا القسم يختص بنيله الأولياء. والى ذلك اشار سبحانه وتعالى بقوله: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [الأنعام:90].
وقال ابن تيمية: كل عبد مضطرٌّ دائما الى مقصود هذا الدعاء، أي هداية الصراط المستقيم. فإنه لا نجاة من العذاب إلا بهذه الهداية، ولا وصول الى السعادة الا بها، فمن فاته هذا الهدى فهو إما من المغضوب عليهم، واما من الضالين. وهذا الاهتداء لا يحصل الا بهدى الله { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً } [الكهف:17].
وقد بين الله تعالى هذا الصراط المستقيم بقوله: {صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ}.
اختلف المفسرون في بيان: الذين أنعم اللهُ عليهم، والمغضوبِ عليهم، والضآلِّين ـ وكتبوا وطوّلوا في ذلك. وأحسن ما قيل في ذلك ان الآية دلّت على أن الناس ثلاث فرق:
الفرقة الأولى: أهل الطاعة { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [البقرة:3ـ5]، وهؤلاء هم الذين انعم الله عليهم.
الفرقة الثانية: الكافرون: { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } [البقرة:6ـ7]، وهؤلاء هم أهل النقمة المغضوب عليهم.
الفرقة الثالثة: هم المنافقون الحائرون، المترددون بين إيمانهم الظاهر وكفرهم الباطني { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } [البقرة:10] فهم { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوۤا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [البقرة:14]. وهؤلاء هم الضالّون المتحيرون.
وقد فصّل الله تعالى هذه الفرق الثلاث في أول سورة البقرة كما سيأتي ان شاء الله.
القراءات:
قرأ ابنُ كَثير برواية قنبل، والكسائي عن طريق رويس السراط بالسين في الموضعَين، وقرأ الباقون الصراط بالصاد، وهي لغة قريش.
هذه هي سورة الفاتحة، وقد تكفّل نصفُها الاول ببيان الحقيقة التي هي أساس هذا الوجود: تقرير ربوبية الله للعاملين ورحمته ورحمانيته، وتفرُّده بالسلطان يوم الدين؛ وتكفّل نصفها الثاني ببيان أساس الخطة العملية في الحياة، سواء في العبادات أو المعاملات. فالعبادة لله، والاستعانة به، والهداية منه بالتزام طريق الله، والبعد عن طريق الجاحدين والضالين المتحدّين.
هذا والمتتبع للقرآن جميعه، الواقف على مقاصده ومعارفه، يرى أنه جاء تفصيلاً لما أجملته هذه السورة الكريمة.
بهذا كانت فاتحة الكتاب وأمَّ القرآن والسبع المثاني والسورة الوحيدة التي طُلبت من المؤمنين في كل ركعة من كل صلاة.
أتانِي هَواها قَبْلَ أنْ أعْرِفَ الهَوى فَصادَفَ قَلْبًا خالِيًا فَتَمَكَّنا
إلى أنْ كانَ ما كانَ فَصِرْتُ مَشْغُولًا بِأقْوالِ السّادَةِ الحَنَفِيَّةِ، وأقَمْتُ مِنها بِرِياضِ شَقائِقِ النُّعْمانِ، واسْتَوْلى عَلَيَّ مِن حُبِّها ما جَعَلَنِي أتَرَنَّمُ بِقَوْلِ القائِلِ:مَحا حُبُّها حُبَّ الأُلى كُنَّ قَبْلَها ∗∗∗ وحَلَّتْ مَكانًا لَمْ يَكُنْ حُلَّ مِن قَبْلُ
وقَدْ أطالَ الفَخْرُ في هَذا المَقامِ المَقالَ، وأوْرَدَ سِتَّ عَشْرَةَ حُجَّةً لِإثْباتِ أنَّها آيَةٌ مِنَ الفاتِحَةِ كَما هو نَصُّ كَلامِهِ، ولا عِبْرَةَ بِالتَّرْجَمَةِ، فَها أنا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعالى رادُّهُ، ولا فَخْرَ، وناصِرٌ مَذْهَبِيِ بِتَأْيِيدِ اللَّهِ تَعالى، ومِنهُ التَّأْيِيدُ، والنَّصْرُ، فَأقُولُ: قالَ (الحُجَّةُ الأُولى) رَوى الشّافِعِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أنَّها قالَتْ: «(قَرَأ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فاتِحَةَ الكِتابِ، فَعَدَّ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ آيَةً، ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ آيَةً، ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ آيَةً، ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ آيَةً، ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ آيَةً، ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ آيَةً، ﴿صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ﴾ آيَةً)،» وهَذا نَصٌّ صَرِيحٌ، (الحُجَّةُ الثّانِيَةُ) رَوى سَعِيدٌ المَقْبُرِيُّ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ: «(فاتِحَةُ الكِتابِ سَبْعُ آياتٍ، أُولاهُنَّ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ )» .ولَوْ لَمْ يُبَسْمِلْ ساهِيًا كُلَّ رَكْعَةٍ ∗∗∗ فَيَسْجُدُ إذْ إيجابُها قالَ الأكْثَرُ
وفِي غُنْيَةِ المُتَمَلِّي: وهو الأحْوَطُ، وبِهِ أقُولُ خِلافًا لِقاضِي خانْ، وصاحِبِ الخُلاصَةِ، وغَيْرِهِمْ، والحَقُّ أحَقُّ بِالِاتِّباعِ، والقَوْلُ عَنْ بَعْضِ هَذا أنَّهُ مِن طُغْيانِ القَلَمِ غايَةُ الطُّغْيانِ، ونِهايَةٌ في التَّعَصُّبِ مِن غَيْرِ إتْقانٍ، ولْنَتَكَلَّمْ عَلى ما ذَكَرَهُ هَذا العَلّامَةُ عَلى التَّفْصِيلِ، (فَنَقُولُ): أمّا ما ذَكَرَهُ في الحُجَّةِ الأُولى مِن حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ بِالوَجْهِ الَّذِي رَواهُ مُخالِفٌ لِما في البَيْضاوِيِّ المُخالِفِ لِما في الكُتُبِ الحَدِيثِيَّةِ، فَيُجابُ عَنْهُ بِأنَّ أبا مُلَيْكَةَ لَمْ يَثْبُتْ سَماعُهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وبِتَقْدِيرِهِ لِلْمُعاصَرَةِ، يُقالُ: إنَّ هَذا اللَّفْظَ لَمْ يُوجَدْ في المَشْهُورِ، ولَعَلَّهُ نَقَلَ بِالمَعْنى لِبَعْضِ الرِّواياتِ الآتِيَةِ عَلى حَسَبِ ما يَلُوحُ لَهُ، فَقَدْ أخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ، وأحْمَدُ، وأبُو داوُدَ بِلَفْظِ: «(كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُقَطِّعُ قِراءَتَهُ آيَةً آيَةً ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ )،» وابْنُ الأنْبارِيِّ، والبَيْهَقِيُّ: «(كانَ إذا قَرَأ قَطَّعَ قِراءَتَهُ آيَةً آيَةً يَقُولُ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ثُمَّ يَقِفُ، ثُمَّ يَقُولُ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ ثُمَّ يَقِفُ، ثُمَّ يَقُولُ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ثُمَّ يَقِفُ، ثُمَّ يَقُولُ: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ )،» وابْنُ خُزَيْمَةَ، والحاكِمُ بِلَفْظِ: «(أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَرَأ في الصَّلاةِ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، فَعَدَّها آيَةً ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ اثْنَيْنِ، ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ثَلاثَ آياتٍ، ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ أرْبَعَ آياتٍ، وقالَ: هَكَذا ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ وجَمَعَ خَمْسَ أصابِعِهِ)،» والدّارَقُطْنِيّ بِلَفْظِ: «(كانَ يَقْرَأُ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ إلى آخِرِها، قَطَّعَها آيَةً آيَةً وعَدَّها عَدَّ الأعْرابِ، وعَدَّ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ولَمْ يَعُدَّ: ﴿عَلَيْهِمْ﴾ )،» والرِّوايَةُ الأُولى والثّانِيَةُ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: عَنَتْ بِهِما بَيانَ كَيْفِيَّةِ قِراءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِسائِرِ القُرْآنِ، وذَكَرَتْ بَعْضًا مِنهُ عَلى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، ولَمْ تَسْتَوْعِبْ، ولَيْسَ فِيهِما سِوى إثْباتِ أنَّها آيَةٌ، وهو مُسَلَّمٌ، لَكِنْ مِنَ القُرْآنِ، وأمّا أنَّها مِنَ الفاتِحَةِ فَلا، وكَذا في الرِّوايَةِ الثّالِثَةِ إثْباتُ أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ كانَ يَقْرَؤُها في الصَّلاةِ، ويَعُدُّها آيَةً لِوُقُوفِهِ عَلَيْها، وهو مُسَلَّمُنا أيْضًا، وهي الآيَةُ الأُولى مِنَ القُرْآنِ، والآيَةُ الثّانِيَةُ مِنهُ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ وهَكَذا إلى الخامِسَةِ، وجَمَعَتِ الأصابِعَ، وانْقَطَعَ الكَلامُ، وأمّا الرِّوايَةُ الرّابِعَةُ فَلَيْسَتْ نَصًّا أيْضًا في أنَّ البَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنَ الفاتِحَةِ، إذْ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: كانَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقْرَأُ في بَعْضِ الأوْقاتِ في الصَّلاةِ أوْ غَيْرِها، ولا دَوامَ، لا وضْعًا ولا اسْتِعْمالًا مِن كِتابِ اللَّهِ تَعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ إلى آخِرِها، أيِ الآياتُ قَطَّعَها آيَةً آيَةً، ولَمْ يُوصِلْ بَعْضَها بِبَعْضٍ، وعَدَّها عَدَّ الأعْرابِ، واحِدَةً واحِدَةً، وعَدَّ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ولَمْ يُسْقِطْها لِوُجُوبِها في الصَّلاةِ، ولِلِاعْتِناءِ بِها في غَيْرِها لِما فِيها مِن عَظائِمِ الأسْرارِ ودَقائِقِ الأفْكارِ، ومِن هَذا أوْجَبَ الكَثِيرُ مِن عُلَمائِنا سُجُودَ السَّهْوِ عَلى مَن تَرَكَها، وقَدْ أزالَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِذَلِكَ ظَنَّ أنَّها لَيْسَتْ مِنَ القُرْآنِ لِاسْتِعْمالِها في أوائِلِ الرَّسائِلِ، ومَبادِي الشُّؤُونِ، ولَمْ يَعُدَّ ﴿صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ ولَمْ يَقِفْ عَلَيْها، بَلْ وصَلَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ تِلْكَ المَرَّةَ، لِبَيانِ الجَوازِ وعَدَمِ تَخَيُّلِ شَيْءٍ يُنافِي كَوْنَها آيَةً، بَلْ هُناكَ ما يُشْعِرُ بِهِ، فَإنَّ تَقارُبَ الآيِ في الطُّولِ والقِصَرِ كَتَقارُبِ الفَقَراتِ، شَيْءٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ، وعَدَمُ التَّشابُهِ في المَقاطِعِ لا يَضُرُّ، فَأيْنَ أفْواجًا مِنَ الفَتْحِ، فَلُزُومُ الرِّعايَةِ غَيْرُ لازِمٍ، وكَوْنُ المَوْصُوفِ في آيَةٍ والصِّفَةِ في آيَةٍ أُخْرى مَسْبُوقٌ بِالمَثَلِ، وسابِقٌ عَلى الأمْثالِ، ومَن أنْعَمَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ، وعَرَفَ الَّذِينَ ﴿أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ وجَدَهُ تامًّا، وعَدَّ تَوَقُّفَهُ عَلى الشَّرْطِ المَفْهُومِ مِن غَيْرِ المَغْضُوبِ كَلامًا ناقِصًا، وعَلى هَذا لَمْ يَثْبُتْ في هَذِهِ الرِّوايَةِ سِوى أنَّ البَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنَ القُرْآنِ، وهو مُسَلَّمٌ عِنْدَ الطَّرَفَيْنِ، وأمّا إنَّها مِنَ الفاتِحَةِ، فَدُونَهُ خَرْطُ القَتادِ.لَيْسَ الخُمُولُ بِعارِ
عَلى امْرِئٍ ذِي جَلالِ
فَلَيْلَةُ القَدْرِ تَخْفى
وتِلْكَ خَيْرُ اللَّيالِي
ويالَيْتَ شِعْرِي أكانَ تَسْبِيحُهُ اللَّهَ تَعالى في رُكُوعِهِ وسُجُودِهِ مَعِيبًا فَيُخْفِيهِ، أوْ جَيِّدًا فَيَجْهَرُ بِهِ ويُبْدِيهِ، ولا أظُنُّ بِالرَّجُلِ إلّا خَيْرًا، فَإنَّ الحُجَّةَ قَوِيَّةٌ في نَفْسِهِ راسِخَةٌ في عَقْلِهِ (الرّابِعَةُ) ما أخْرَجَهُ الشّافِعِيُّ عَنْ أنَسٍ أنَّ مُعاوِيَةَ صَلّى بِأهْلِ المَدِينَةِ، ولَمْ يَقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فاعْتَرَضَ عَلَيْهِ المُهاجِرُونَ والأنْصارُ، فَأعادَ الحَدِيثَ بِمَعْناهُ، ويَرُدُّهُ مُعارِضُوهُ، أوْ يُقالُ: لَمْ يُقْرَأْ عَلى ظاهِرِهِ، وعَلِمُوا ذَلِكَ بِبَعْضِ القَرائِنِ وما راءٍ كَمَن سَمِعا.عَهْدُ الَّذِي أهْوى ومِيثاقُهُ ∗∗∗ أضْعَفُ مِن حُجَّةِ نَحْوِيٍّ
فَلا نُسْهِرُ جَفْنَ الفِكْرِ فِيما لَها وعَلَيْها، وقالَ بَعْضُهم مِن بابِ الإشارَةِ: كُسِرَتِ الباءُ في البَسْمَلَةِ تَعْلِيمًا لِلتَّوَصُّلِ إلى اللَّهِ تَعالى والتَّعَلُّقِ بِأسْمائِهِ بِكَسْرِ الجَنابِ والخُضُوعِ وذُلِّ العُبُودِيَّةِ، فَلا يُتَوَصَّلُ إلى نَوْعٍ مِن أنْواعِ المَعْرِفَةِ إلّا بِنَوْعٍ مِن أنْواعِ الذُّلِّ، والكَسْرِ، كَما أشارَ إلى ذَلِكَ سَيِّدِي عُمَرُ بْنُ الفارِضِ قَدَّسَ اللَّهُ تَعالى سِرَّهُ الفائِضُ بِقَوْلِهِ:ولَوْ كُنْتَ لِي مِن نُقْطَةِ الباءِ خَفْضَةً ∗∗∗ رُفِعْتَ إلى ما لَمْ تَنَلْهُ بِحِيلَةِ
بِحَيْثُ تَرى أنْ لا تَرى ما عَدَدْتَهُ ∗∗∗ وأنَّ الَّذِي أعْدَدْتَهُ غَيْرُ عُدَّةِ
فَإنَّ الخَفْضَ يُقابِلُ الرَّفْعَ، فَمَن خَفَضَهُ النَّظَرُ إلى ذُلِّ العُبُودِيَّةِ، رَفَعَهُ القَدَرُ إلى مُشاهَدَةِ عِزِّ الرُّبُوبِيَّةِ، ولا يُنالُ هَذا الرَّفْعُ بِحِيلَةٍ، بَلْ هو بِمَحْضِ المَوْهِبَةِ الإلَهِيَّةِ الجَلِيلَةِ، ومَن تَنَزَّلَ لِيَرْتَفِعَ، فَتَنَزُّلُهُ مَعْلُولٌ، وسَعْيُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ، انْتَهى.الباءُ لِلْعارِفِ الشِّبْلِيِّ مُعْتَبَرٌ ∗∗∗ وفي نُقَيْطَتِها لِلْقَلْبِ مُدَّكَرُ
سِرُّ العُبُودِيَّةِ العَلْياءِ مازَجَها ∗∗∗ لِذاكَ نابَ مَنابَ الحَقِّ فاعْتَبِرُوا
ألَيْسَ يُحْذَفُ مِن بِسْمِ حَقِيقَتُهُ ∗∗∗ لِأنَّهُ بَدَلٌ مِنهُ فَذا وِزْرُ
والصِّفاتُ إمّا جَمالِيَّةٌ أوْ جَلالِيَّةٌ، ولِلْأُولى السَّبْقُ كَما يُشِيرُ إلَيْهِ حَدِيثُ: «(سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي)،» وباءُ الجَرِّ إشارَةٌ إلَيْها، لِأنَّها الواسِطَةُ في الإضافَةِ، والإفاضَةِ، فَناسَبَها الكَسْرُ وخَفْضُ الجَناحِ لِيَتِمَّ الأمْرُ ويَظْهَرَ السِّرُّ، وفي الِابْتِداءِ بِها هُنا تَعْجِيلٌ لِلْبِشارَةِ، ورَمْزٌ إلى أنَّ المَدارَ هو الرَّحْمَةُ كَما قالَ ﷺ: «(لَنْ يُدْخِلَ أحَدَكُمُ الجَنَّةَ عَمَلُهُ، قِيلَ: حَتّى أنْتَ يا رَسُولُ اللَّهِ؟ قالَ: حَتّى أنا، إلّا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ)،» وقَدْ تَدَرَّجَ سُبْحانَهُ وتَعالى بِإظْهارِها، فَرَمَزَ بِالباءِ وأشارَ بِاللَّهِ، وصَرَّحَ أتَمَّ تَصْرِيحٍ بِالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وأمّا إشارَةٌ إلى الحَقِيقَةِ المُحَمَّدِيَّةِ، والتَّعَيُّنِ الأوَّلِ المُشارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ﷺ: «(أوَّلُ ما خَلَقَ اللَّهُ نُورُ نَبِيِّكَ يا جابِرُ )،» وبِواسِطَتِهِ حَصَلَتِ الإفاضَةُ، كَما يُشِيرُ إلَيْهِ: لَوْلاكَ ما خَلَقْتُ الأفْلاكَ، ولِكَوْنِ الغالِبِ عَلَيْهِ، عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ صِفَةَ الرَّحْمَةِ لا سِيَّما عَلى مُؤْمِنِي الأُمَّةِ كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما أرْسَلْناكَ إلا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ ناسَبَ ظُهُورَ الكَسْرِ فِيما يُشِيرُ إلى مَرْتَبَتِهِ، وفي الِابْتِداءِ بِهِ هُنا رَمْزٌ إلى صِفَةِ مَن أُنْزِلَ عَلَيْهِ الكِتابُ والدّاعِي إلى اللَّهِ، وفي ذَلِكَ مَعَ بَيانِ صِفَةِ المَدْعُوِّ إلَيْهِ بِأنَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ تَشْوِيقٌ تامٌّ، وتَرْغِيبٌ عَظِيمٌ، وقَدْ تَدَرَّجَ أيْضًا جَلَّ شَأْنُهُ في وصْفِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِذَلِكَ في القُرْآنِ إلى أنْ قالَ سُبْحانَهُ: ﴿وإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ واكْتَفى بِالرَّمْزِ هَهُنا لِعَدَمِ ظُهُورِ الآثارِ بَعْدُ، وأوَّلُ الغَيْثِ قَطْرٌ، ثُمَّ يَنْهَمِلُ، وما مِن سُورَةٍ إلّا افْتَتَحَها الرَّبُّ بِالرَّمْزِ إلى حالِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ تَعْظِيمًا لَهُ، وبِشارَةً لِمَن ألْقى السَّمْعَ وهو شَهِيدٌ، ولَمّا كانَ الجَلالُ في سُورَةِ بَراءَةٌ ظاهِرًا، تَرَكَ الإشارَةَ بِالبَسْمَلَةِ، وأتى بِباءٍ مَفْتُوحَةٍ لِتَغَيُّرِ الحالِ، وإرْخاءِ السِّتْرِ عَلى عَرائِسِ الجَمالِ، ولَمْ يَتْرُكْ سُبْحانَهُ وتَعالى الرَّمْزَ بِالكُلِّيَّةِ إلى الحَقِيقَةِ المُحَمَّدِيَّةِ، ولا يَسَعُنا الإفْصاحُ بِأكْثَرَ مِن هَذا في هَذا البابِ خَوْفًا مِن قالِ أرْبابِ الحِجابِ، وخَلْفَهُ سِرٌّ جَلِيلٌ، واللَّهُ تَعالى الهادِي إلى سَواءِ السَّبِيلِ.لِلِاسْمِ عَشْرُ لُغاتٍ مَعَ ثَمانِيَةْ ∗∗∗ بِنَقْلِ جَدِّي شَيْخِ النّاسِ أكْمَلِها
سْمٌ سِماتٌ سَمًا واسْمٌ وزِدْ سِمَةً ∗∗∗ كَذا سَماءٌ بِتَثْلِيثٍ لِأوَّلِها
هَذا، وقَدْ طالَ التَّشاجُرُ في أنَّ الِاسْمَ هَلْ هو عَيْنُ المُسَمّى أوْ غَيْرُهُ؟ فالأشاعِرَةُ عَلى الأوَّلِ، والمُعْتَزِلَةُ عَلى الثّانِي، وقَدْ تَحَيَّرَ نَحارِيرُ الفُضَلاءِ في تَحْرِيرِ مَحَلِّ البَحْثِ عَلى وجْهٍ يَكُونُ حَرِيًّا بِهَذا التَّشاجُرِ، حَتّى قالَ مَوْلانا الفَخْرُ في التَّفْسِيرِ الكَبِيرِ: إنَّ هَذا البَحْثَ يَجْرِي مَجْرى العَبَثِ، وذَكَرَ وجْهًا ادَّعى لُطْفَهُ ودِقَّتَهُ، وقَدْ كَفانا الشِّهابُ مُؤْنَةَ رَدِّهِ، وقَدْ أرادَ السَّيِّدُ النِّحْرِيرُ في شَرْحِ المَواقِفِ، فَلَمْ يَتِمَّ لَهُ، ولِلسُّهَيْلِيِّ في ذَلِكَ كَلامٌ ادَّعى أنَّهُ الحَقُّ وصَنَّفَ في رَدِّهِ ابْنُ السَّيِّدِ رِسالَةً مُسْتَقِلَّةً وادَّعى الشِّهابُ أنَّهُ إلى الآنَ لَمْ يَتَحَرَّرْ، وأنَّهُ لَمْ يَرَ مَعَ سَعَةِ اطِّلاعِهِ في هَذِهِ المَسْألَةِ ما فِيهِ ثَلْجُ الصُّدُورِ ولا شِفاءُ الغَلِيلِ، ولَمْ يَأْتِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى في حَواشِيهِ عَلى البَيْضاوِيِّ مِن قِبَلِ نَفْسِهِ بِشَيْءٍ يُزِيحُ الإشْكالَ، ويُرِيحُ البالَ، وها أنا مِن فَضْلِ اللَّهِ تَعالى ذاكِرٌ شَيْئًا إذا قُبِلَ فَهو غايَةُ ما أتَمَنّاهُ، وقَدْ يُوجَدُ في الإسْقاطِ ما لا يُوجَدُ في الإسْقاطِ، وإنْ رُدَّ فَقَدْ رُدَّ قَبْلِي كَلامُ أُلُوفٍ كُلٌّ مِنهم فَرْدٌ يُقابَلُ بِصُفُوفٍ.وابْنُ اللَّبُونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ∗∗∗ لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَناعِيسِ
(١)واللَّهُ أسْماكَ سُمًا مُبارَكًا آَثَرَكَ اللَّهُ بِهِ إيثارَكا
وَأنْشَدُوا:بِاسْمِ الَّذِي في كُلِّ سُورَةٍ سِمُهُ
قالَ الفَرّاءُ: بَعْضُ قَيْسٍ [يَقُولُونَ ] "سِمُهُ"، يُرِيدُونَ: اسْمَهُ، وبَعْضُ قُضاعَةَ يَقُولُونَ: سُمُهُ.وعامُنا أعْجَبَنا مُقَدِّمُهُ ∗∗∗ يُدْعى أبا السَّمْحِ وقِرْضابٌ سُمُهُ
والقِرْضابُ: القِطاعُ، يُقالُ: سَيْفٌ قِرْضابٌ.لِلَّهِ دَرُّ الغانِياتِ المَدَّهْ ∗∗∗ سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مَن تَأْلِهِي
فَمَعْنى الإلَهُ: المَعْبُودُ.ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أعْطاكَ سُورَةً تَرى كُلَّ مَلْكٍ دُونَها يَتَذَبْذَبُ
أيْ مَنزِلَةً مِن مَنازِلِ الشَّرَفِ الَّتِي قَصَرَتْ عَنْها مَنازِلُ المُلُوكِ.ألا أبْلِغا هَذا المُعَرِّضَ آيَةً ∗∗∗ أيَقْظانَ قالَ القَوْلَ، إذْ قالَ، أمْ حَلَمْ
أيْ رِسالَةٌ مِنِّي، وخَبَرًا عَنِّي- فَيَكُونُ مَعْنى الآياتِ «القَصَصَ» قِصَّةً تَتْلُو قِصَّةً.وأنْتَ غَيْثُ الوَرى لا زِلْتَ رَحْمانا
فَبابٌ مِن تَعَنُّتِهِمْ في كُفْرِهِمْ.سورة الفاتحة
مكية، سبع آيات، تسع وعشرون كلمة، مائة وثلاثة وأربعون حرفا بسم الله الرحمن الرحيم والسابعة: صِراطَ الَّذِينَ إلى آخرها إن كانت البسملة منها وإن لم تكن منها فالسابعة:
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ إلى آخرها، وهي مشتملة على أربعة أنواع من العلوم:
أحدها: علم الأصول وقد جمعت الإلهيات في: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ والنبوات في: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ والدار الآخرة في مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وثانيها: علم الفروع وأعظمه العبادات، وهي مالية وبدنية وهما مفتقرتان إلى أمور المعاش من المعاملات والمناكحات، ولا بدّ لها من الأحكام التي تقتضيها الأوامر والنواهي.
وثالثها: علم تحصيل الكمالات وهو علم الأخلاق ومنه الاستقامة في الطريقة، وإلى ذلك الإشارة بقوله: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. وقد جمعت الشريعة كلها في الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ.
ورابعها: علم القصص والأخبار عن الأمم الخالية وقد جمعت السعداء من الأنبياء وغيرهم في: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ والأشقياء من الكفار في: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الباء: بهاء الله والسين سناؤه فلا شيء أعلى منه، والميم: ملكه وهو على كل شيء قدير. والباء: ابتداء اسمه بارئ بصير. والسين:
ابتداء اسمه سميع. والميم: ابتداء اسمه مجيد مليك. والألف: ابتداء اسمه الله. واللام: ابتداء اسمه لطيف. والهاء: ابتداء اسمه هادي. والراء: ابتداء اسمه رزاق. والحاء: ابتداء اسمه حليم. والنون: ابتداء اسمه نافع ونور.
بِاسْمِ الَّذِي في كُلِّ سُورَةٍ سِمُهُ
و”سُمُهُ“، أيْضًا، رَوى ذَلِكَ أبُو زَيْدٍ الأنْصارِيُّ، وغَيْرُهُ مِنَ النَّحْوِيِّينَ، فَسَقَطَتِ الألِفُ لِما ذَكَرْنا، وكَذَلِكَ قَوْلُكَ: ”اِبْنٌ“، اَلْألِفُ فِيهِ ألِفُ وصْلٍ، تَقُولُ في تَصْغِيرِهِ: ”بُنَيٌّ“، ومَعْنى قَوْلِنا ”اِسْمٌ“ أنَّهُ مُشْتَقٌّ مِن ”اَلسُّمُوُّ“، و”اَلسُّمُوُّ“: اَلرِّفْعَةُ، والأصْلُ فِيهِ ”سَمَوٌ“، بِالواوِ، عَلى وزْنِ ”جَمَلٌ“، وجَمْعُهُ ”أسْماءٌ“، مِثْلُ ”قِنْوٌ“، و”أقْناءٌ“، و”حَنْوٌ“، و”أحْناءٌ“، وإنَّما جُعِلَ الِاسْمُ تَنْوِيهًا بِاسْمِ اللَّهِ عَلى المَعْنى، لِأنَّ المَعْنى تَحْتَ الِاسْمِ.وَكُلُّ قَوْمٍ أطاعُوا أمْرَ مُرْشِدِهِمْ ∗∗∗ إلّا نُمَيْرًا أطاعَتْ أمْرَ غاوِيها
اَلظّاعِنِينَ ولَمّا يُظْعِنُوا أحَدًا ∗∗∗ والقائِلِينَ لِمَن دارٌ نُخَلِّيها
فَيَجُوزُ أنْ يُنْصَبَ ”اَلظّاعِنِينَ“، عَلى ضَرْبَيْنِ: عَلى أنَّهُ تابِعُ ”نُمَيْرًا“، وعَلى الذَّمِّ، كَأنَّهُ قالَ: ”أذْكُرُ الظّاعِنِينَ“، ولَكَ أنْ تَرْفَعَ، تُرِيدُ: ”هُمُ الظّاعِنُونَ“، وكَذَلِكَ لَكَ في ”اَلْقائِلِينَ“، اَلنَّصْبُ، والرَّفْعُ، ولَكَ أنْ تَرْفَعَهُما جَمِيعًا، ولَكَ أنْ تَنْصِبَهُما جَمِيعًا، ولَكَ أنْ تَرْفَعَ الأوَّلَ وتَنْصِبَ الثّانِيَ، ولَكَ أنْ تَنْصِبَ الأوَّلَ وتَرْفَعَ الثّانِيَ، لا خِلافَ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ فِيما وصَفْنا.