قَوْمٌ عَلى الإسْلامِ لَمّا يَمْنَعُوا ماعُونَهم ويُضَيِّعُوا التَّهْلِيلا
أيْ لَمْ يَتْرُكُوا قَوْلَ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. وقالَ عُمَرُ بْنُ أبِي رَبِيعَةَلَقَدْ بَسْمَلَتْ لَيْلى غَداةَ لَقِيتُها ∗∗∗ ألا حَبَّذا ذاكَ الحَبِيبُ المُبَسْمِلُ
أيْ قالَتْ بِسْمِ اللَّهِ فَرَقًا مِنهُ، فَأصْلُ بَسْمَلَ قالَ: بِسْمِ اللَّهِ، ثُمَّ أطْلَقَهُ المُوَلَّدُونَ عَلى قَوْلِ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، اكْتِفاءً واعْتِمادًا عَلى الشُّهْرَةِ وإنْ كانَ هَذا المَنحُوتُ خَلِيًّا مِنَ الحاءِ والرّاءِ اللَّذَيْنِ هُما مِن حُرُوفِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَشاعَ قَوْلُهم: بَسْمَلَ، في مَعْنى قالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، واشْتُقَّ مِن فَعْلِ بَسْمَلَ مَصْدَرٌ هو البَسْمَلَةُ كَما اشْتُقَّ مِن هَلَّلَ مَصْدَرٌ هو الهَيْلَلَةُ وهو مَصْدَرٌ قِياسِيٌّ لِفَعْلَلَ.واللَّهُ أسْماكَ سُمًى مُبارَكًا ∗∗∗ آثَرَكَ اللَّهُ بِهِ إيثارَكا
وقالَ ابْنُ يَعِيشَ: لا حُجَّةَ فِيهِ لِاحْتِمالِ كَوْنِهِ لُغَةً مَن قالَ سُمَ والنَّصْبُ فِيهِ نَصْبُ إعْرابٍ لا نَصْبُ الإعْلالِ، ورَدَّهُ عَبْدُ الحَكِيمِ بِأنَّ كِتابَتَهُ بِالإمالَةِ تَدُلُّ عَلى خِلافِ ذَلِكَ. وعِنْدِي فِيهِ أنَّ الكِتابَةَ لا تَتَعَلَّقُ بِها الرِّوايَةُ فَلَعَلَّ الَّذِينَ كَتَبُوهُ بِالياءِ هُمُ الَّذِينَ ظَنُّوهُ مَقْصُورًا، عَلى أنَّ قِياسَها الكِتابَةُ بِالألِفِ مُطْلَقًا لِأنَّهُ واوِيٌّ إلّا إذا أُرِيدَ عَدَمُ التِباسِ الألِفِ بِألِفِ النَّصْبِ. ورَأْيُ البَصْرِيِّينَ أرْجَحُ مِن ناحِيَةِ تَصارِيفِ هَذا اللَّفْظِ.نَبَّئْتُ زُرْعَةَ والسَّفاهَةُ كاسْمِها ∗∗∗ يُهْدِي إلَيَّ غَرائِبَ الأشْعارِ
يَعْنِي أنَّ السَّفاهَةَ هي هي لا تُعَرَّفُ لِلنّاسِ بِأكْثَرَ مِنِ اسْمِها، وهو قَرِيبٌ مِنِ اسْتِعْمالِ اسْمِ الإشارَةِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا﴾ [البقرة: ١٤٣]، أيْ مِثْلَ ذَلِكَ الجَعْلِ الواضِحِ الشَّهِيرِ ويُطْلِقُونَ الِاسْمَ مُقْحَمًا زائِدًا كَما في قَوْلِ لَبِيدٍ: ”إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَلَيْكُما“ يَعْنِي ثُمَّ السَّلامُ عَلَيْكُما ولَيْسَ هَذا خاصًّا بِلَفْظِ الِاسْمِ بَلْ يَجِيءُ فِيما يُرادِفُهُ مِثْلَ الكَلِمَةِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وألْزَمَهم كَلِمَةَ التَّقْوى﴾ [الفتح: ٢٦] وكَذَلِكَ لَفْظٌ في قَوْلِ بَشّارٍ هاجِيًا:وكَذاكَ، كانَ أبُوكَ يُؤْثَرُ بِالهُنى ∗∗∗ ويَظَلُّ في لَفْظِ النَّدى يَتَرَدَّدُ
وقَدْ يُطْلَقُ الِاسْمُ وما في مَعْناهُ كِنايَةً عَنْ وُجُودِ المُسَمّى، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ﴾ [الرعد: ٣٣] والأمْرُ لِلتَّعْجِيزِ أيْ أثْبِتُوا وُجُودَهم ووَضْعَ أسْماءٍ لَهم. فَهَذِهِ إطْلاقاتٌ أُخْرى لَيْسَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ في البَسْمَلَةِ مِن قَبِيلِها، وإنَّما نَبَّهْنا عَلَيْها لِأنَّ بَعْضَ المُفَسِّرِينَ خَلَطَ بِها في تَفْسِيرِ البَسْمَلَةِ، ذَكَرْتُها هُنا تَوْضِيحًا لِيَكُونَ نَظَرُكم فِيها فَسِيحًا فَشُدُّوا بِها يَدًا. ولا تَتَّبِعُوا طَرائِقَ قِدَدًا وقَدْ تَكَلَّمُوا عَلى مَلْحَظِ تَطْوِيلِ الباءِ في رَسْمِ البَسْمَلَةِ بِكَلامٍ كُلُّهُ غَيْرُ مُقْنِعٍ، والَّذِي يَظْهَرُ لِي أنَّ الصَّحابَةَ لَمّا كَتَبُوا المُصْحَفَ طَوَّلُوها في سُورَةِ النَّمْلِ لِلْإشارَةِ إلى أنَّها مَبْدَأُ كِتابِ سُلَيْمانَ فَهي مِنَ المَحْكِيِّ، فَلَمّا جَعَلُوها عَلامَةً عَلى فَواتِحِ السُّوَرِ نَقَلُوها بِرَسْمِها، وتَطْوِيلُ الباءِ فِيها صالِحٌ لِاتِّخاذِهِ قُدْوَةً في ابْتِداءِ الغَرَضِ الجَدِيدِ مِنَ الكَلامِ بِحَرْفٍ غَلِيظٍ أوْ مُلَوَّنٍ.باعَدَ أُمَّ العَمْرِ مِن أسِيرِها، وهَلْ هي مُرَكَّبَةٌ مِن حَرْفَيْنِ أمْ هي حَرْفٌ واحِدٌ ؟ وإذا كانَتْ مِن حَرْفَيْنِ فَهَلِ الهَمْزَةُ زائِدَةٌ أمْ لا ؟ مَذاهِبُ، واللَّهُ أعْلَمُ، لا يُطْلَقُ إلّا عَلى المَعْبُودِ بِحَقٍّ مُرْتَجَلٍ غَيْرِ مُشْتَقٍّ عِنْدَ الأكْثَرِينَ، وقِيلَ: مُشْتَقٌّ، ومادَّتُهُ قِيلَ: لامٌ وياءٌ وهاءٌ، مِن لاهَ يَلِيهُ، ارْتَفَعَ. قِيلَ: ولِذَلِكَ سُمِّيَتِ الشَّمْسُ إلاهَةً بِكَسْرِ الهَمْزَةِ وفَتْحِها، وقِيلَ: لامٌ وواوٌ وهاءٌ مِن لاهَ يَلُوهُ لَوْهًا، احْتَجَبَ أوِ اسْتَنارَ، ووَزْنُهُ إذْ ذاكَ فَعَلَ أوْ فَعِلَ، وقِيلَ: الألِفُ زائِدَةٌ، ومادَّتُهُ هَمْزَةٌ ولامٌ مِن ألِهَ أيْ فَزِعَ، قالَهُ ابْنُ إسْحاقَ، أوْ ألَّهَ تَحَيَّرَ، قالَهُ أبُو عُمَرَ، وألَّهَ عَبَدَ، قالَهُ النَّضْرُ، أوْ ألَهَ سَكَنَ، قالَهُ المُبَرِّدُ. وعَلى هَذِهِ الأقاوِيلِ فَحُذِفَتِ الهَمْزَةُ اعْتِباطًا، كَما قِيلَ في ناسٍ أصْلُهُ أُناسٌ، أوْ حُذِفَتْ لِلنَّقْلِ ولَزِمَ مَعَ الإدْغامِ، وكِلا القَوْلَيْنِ شاذٌّ. وقِيلَ: مادَّتُهُ واوٌ ولامٌ وهاءٌ، مِن ولِهَ أيْ طَرِبَ، وأُبْدِلَتِ الهَمْزَةُ فِيهِ مِنَ الواوِ نَحْوَ أشاحَ، قالَهُ الخَلِيلُ والقَنّادُ، وهو ضَعِيفٌ لِلُزُومِ البَدَلِ. وقَوْلُهم في الجَمْعِ آلِهَةٌ، وتَكُونُ فِعالًا بِمَعْنى مَفْعُولٍ، كالكِتابِ يُرادُ بِهِ المَكْتُوبُ. وألْ في اللَّهِ إذا قُلْنا أصْلُهُ الإلاهُ، قالُوا لِلْغَلَبَةِ، إذِ الإلَهُ يَنْطَلِقُ عَلى المَعْبُودِ بِحَقٍّ وباطِلٍ، واللَّهُ لا يَنْطَلِقُ إلّا عَلى المَعْبُودِ بِالحَقِّ، فَصارَ كالنَّجْمِ لِلثُّرَيّا. وأُورِدَ عَلَيْهِ بِأنَّهُ لَيْسَ كالنَّجْمِ؛ لِأنَّهُ بَعْدَ الحَذْفِ والنَّقْلِ أوِ الإدْغامِ لَمْ يُطْلَقْ عَلى كُلِّ إلَهٍ، ثُمَّ غُلِّبَ عَلى المَعْبُودِ بِحَقٍّ، ووَزْنُهُ عَلى أنَّ أصْلَهُ فِعالٌ، فَحُذِفَتْ هَمْزَتُهُ عالٌ. وإذا قُلْنا بِالأقاوِيلِ السّابِقَةِ فَألْ فِيهِ زائِدَةٌ لازِمَةٌ، وشَذَّ حَذْفُها في قَوْلِهِمْ لاهَ أبُوكَ شُذُوذَ حَذْفِ الألِفِ في أقْبَلَ سَيْلٌ. أقْبَلَ جاءَ مِن عِنْدِ اللَّهِ. وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ ألْ في اللَّهِ مِن نَفْسِ الكَلِمَةِ، ووَصَلَتِ الهَمْزَةُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ، وهو اخْتِيارُ أبِي بَكْرِ بْنِ العَرَبِيِّ والسُّهَيْلِيِّ، وهو خَطَأٌ، لِأنَّ وزْنَهُ إذْ ذاكَ يَكُونُ فَعّالًا، وامْتِناعُ تَنْوِينِهِ لا مُوجِبَ لَهُ، فَدَلَّ عَلى أنَّ ألْ حَرْفٌ داخِلٌ عَلى الكَلِمَةِ سَقَطَ لِأجْلِها التَّنْوِينُ. ويَنْفَرِدُ هَذا الِاسْمُ بِأحْكامٍ ذُكِرَتْ في عِلْمِ النَّحْوِ، ومِن غَرِيبِ ما قِيلَ: إنَّ أصْلَهُ لاها بِالسُّرْيانِيَّةِ فَعُرِّبَ، قالَ:
كَحَلْفَةٍ مِن أبِي رَباحٍ ∗∗∗ يَسْمَعُها لاهُهُ الكِبارُ.
قالَ أبُو يَزِيدَ البَلْخِيِّ: هو أعْجَمِيٌّ، فَإنَّ اليَهُودَ والنَّصارى يَقُولُونَ لاها، وأخَذَتِ العَرَبُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ وغَيَّرُوها فَقالُوا اللَّهُ. ومِن غَرِيبِ ما قِيلَ في اللَّهِ أنَّهُ صِفَةٌ ولَيْسَ اسْمَ ذاتٍ؛ لِأنَّ اسْمَ الذّاتِ يُعْرَفُ بِهِ المُسَمّى، واللَّهُ - تَعالى - لا يُدْرَكُ حِسًّا ولا بَدِيهَةً، ولا تُعْرَفُ ذاتُهُ بِاسْمِهِ، بَلْ إنَّما يُعْرَفُ بِصِفاتِهِ، فَجَعْلُهُ اسْمًا لِلذّاتِ لا فائِدَةَ في ذَلِكَ. وكانَ العِلْمُ قائِمًا مُقامَ الإشارَةِ، وهي مُمْتَنِعَةٌ في حَقِّ اللَّهِ - تَعالى - وحُذِفَتِ الألِفُ الأخِيرَةُ مِنَ اللَّهِ لِئَلّا يُشْكِلَ بِخَطِّ اللّاهِ اسْمُ الفاعِلِ مِن لَها يَلْهُو، وقِيلَ: طُرِحَتْ تَخْفِيفًا، وقِيلَ هي لُغَةٌ فاسْتُعْمِلَتْ في الخَطِّ.فَأمّا إذا عَضَّتْ بِكَ الأرْضُ عَضَّةً ∗∗∗ فَإنَّكَ مَعْطُوفٌ عَلَيْكَ رَحِيمٌ.
قالَ عَلِيٌّ وابْنُ عَبّاسٍ وعَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ وقَتادَةُ وأبُو العالِيَةِ وعَطاءٌ وابْنُ جُبَيْرٍ ومُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى بْنِ حِبّانَ وجَعْفَرٌ الصّادِقُ: الفاتِحَةُ مَكِّيَّةٌ، ويُؤَيِّدُهُ ﴿ولَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ المَثانِي والقُرْآنَ العَظِيمَ﴾ [الحجر: ٨٧] . والحِجْرُ مَكِّيَّةٌ بِإجْماعٍ. وفي حَدِيثِ أُبَيٍّ: إنَّها السَّبْعُ المَثانِي والسَّبْعُ الطِّوالُ، أُنْزِلَتْ بَعْدَ الحِجْرِ بِمُدَدٍ، ولا خِلافَ أنَّ فَرْضَ الصَّلاةِ كانَ بِمَكَّةَ، وما حُفِظَ أنَّهُ كانَتْ في الإسْلامِ صَلاةٌ بِغَيْرِ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢] . وقالَ أبُو هُرَيْرَةَ وعَطاءُ بْنُ يَسارٍ ومُجاهِدٌ وسَوادُ بْنُ زِيادٍ والزُّهْرِيُّ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: هي مَدَنِيَّةٌ، وقِيلَ: إنَّها مَكِّيَّةٌ مَدَنِيَّةٌ.أتَنْتَهُونَ ولا يَنْهى ذَوِي شَطَطٍ كالطَعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزَيْتُ والفَتْلُ
وحُذِفَتِ الألِفُ مِن "بِسْمِ اللهِ" في الخَطِّ اخْتِصارًا وتَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ، واخْتَلَفَ النُحاةُ إذا كُتِبَ "بِاسْمِ الرَحْمَنِ، وبِاسْمِ القاهِرِ" فَقالَ الكِسائِيُّ، وسَعِيدٌ الأخْفَشُ: يُحْذَفُ الألِفُ. وقالَ يَحْيى بْنُ زِيادٍ: لا تُحْذَفُ إلّا مَعَ "بِسْمِ اللهِ" فَقَطْ؛ لِأنَّ الِاسْتِعْمالَ إنَّما كَثُرَ فِيهِ.بِاسْمِ الَّذِي في كُلِّ سُورَةٍ سِمُهْ ∗∗∗......................................
وسُكِّنَتِ السِينُ مِن بِسْمِ اعْتِلالًا عَلى غَيْرِ قِياسٍ، وإنَّما اسْتُدِلَّ عَلى هَذا الأصْلِ الَّذِي ذَكَرْناهُ بِقَوْلِهِمْ في التَصْغِيرِ (سُمَيٌّ)، وفي الجَمْعِ أسْماءٌ، وفي جَمْعِ الجَمْعِ (أسامِيُّ)، وقالَ الكُوفِيُّونَ: أصْلُ اسْمٍ واسْمٌ مِنَ (السِمَةِ)، وهي العَلامَةُ؛ لِأنَّ الِاسْمَ عَلامَةٌ لِمَن وُضِعَ لَهُ، وحُذِفَتْ فاؤُهُ اعْتِلالًا عَلى غَيْرِ قِياسٍ، والتَصْغِيرُ والجَمْعُ المَذْكُورانِ يَرُدّانِ هَذا المَذْهَبَ الكُوفِيَّ، وأمّا المَعْنى فِيهِ فَجَيِّدٌ، لَوْلا ما يَلْزَمُهم مِن أنْ يُقالَ في التَصْغِيرِ "وُسَيْمٌ"، وفي الجَمْعِ "أوسامٌ"؛ لِأنَّ التَصْغِيرَ والجَمْعَ يَرُدّانِ الأشْياءَ إلى أُصُولِها.إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَلامِ عَلَيْكُما ∗∗∗ ومَن يَبْكِ حَوْلًا كامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرَ
وقالُوا: إنَّ لَبَيْدًا أرادَ التَحِيَّةَ.لِلَّهِ دَرُّ الغانِياتِ المُدَّهِ ∗∗∗ سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِن تَألُّهِي
ومِن ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تَعالى: "وَيَذَرَكَ وإلَهَتَكَ" عَلى هَذِهِ القِراءَةِ، فَإنَّ ابْنَ عَبّاسٍ وغَيْرَهُ قالَ: وعِبادَتَكَ، قالُوا: فاسْمُ اللهِ مُشْتَقٌّ مِن هَذا الفِعْلِ؛ لِأنَّهُ الَّذِي يَأْلَهُهُ كُلُّ خَلْقٍ ويَعْبُدُهُ، حَكاهُ النَقّاشُ في صَدْرِ سُورَةِ آلِ عِمْرانَ. فَإلَهٌ فِعالٌ مِن هَذا.أقْبَلَ سَيْلٌ جاءَ مِن أمْرِ اللهْ ∗∗∗ يَحْرُدُ حَرْدَ الجَنَّةِ المُغِلَّةْ
(والرَحْمَنُ) صِفَةُ مُبالَغَةٍ مِنَ الرَحْمَةِ، ومَعْناها أنَّهُ انْتَهى إلى غايَةِ الرَحْمَةِ، كَما يَدُلُّ عَلى الِانْتِهاءِ سَكْرانُ وغَضْبانُ، وهي صِفَةٌ تَخْتَصُّ بِاللهِ ولا تُطْلَقُ عَلى البَشَرِ. وهي أبْلَغُ مِن فَعِيلٍ، وفَعِيلٌ أبْلَغُ مِن فاعِلٍ؛ لِأنَّ راحِمًا يُقالُ لِمَن رَحِمَ ولَوْ مَرَّةً واحِدَةً، ورَحِيمًا يُقالُ لِمَن كَثُرَ مِنهُ ذَلِكَ، والرَحْمَنُ النِهايَةُ في الرَحْمَةِ. وقالَ بَعْضُ الناسِ: الرَحْمَنُ الرَحِيمُ بِمَعْنًى واحِدٍ، كالنَدْمانِ والنَدِيمِ، نَعَمْ إنَّهُما مِن فِعْلٍ واحِدٍ، ولَكِنَّ أحَدَهُما أبْلَغُ مِنَ الآخَرِ.(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، وهي مقدمة لتلاوة كل سورة من سور القرآن، وروي عن بعض الصحابة: إننا كنا نعرف نهاية سورة وابتداء سورة بنزول قوله تعالى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم) وروي عن جعفر الصادق بن محمد رضي الله عنهما، أنه قال: البسملة تيجان السور ، وقد قال عبد الله بن المبارك: إنها جزء من كل سورة؛ ولذلك يجب ابتداء السورة بقراءتها.على أنها جزء منها، وقال الشافعي: إنها جزء من الفاتحة ، وتَردَّد في عدها جزءًا من كل سورة، ولكنها مهما تكن ليست جزءا من غير الفاتحة، وهي لازمة للفصل بين سورة وسورة من السور التي ابتدأت بذكرها. ولأن ثمة كلامًا في كون سورة براءة ليست مستقلة عن سورة الأنفال، وعدها الأكثرون جزءا منها - لم تكن مبتدأة بالبسملة، وينسب إلى الإمام مالك رضي الله تبارك وتعالى عنه أنها ليست جزءا من سورة الفاتحة أو غيرها، ومؤدى هذا القول أنها ليست من القرآن ككلمة آمين في آخر الفاتحة؛ إذ إن الفاتحة ضراعة إلى الله تعالى، فناسب أن تذكر بعدها آمين ، وعدَّ القرطبي في كتابه أحكام القرآن أن في مذهب مالك أن البسملة ليست من القرآن هو الصحيح، وذكر أن القرآن كله متواتر، والبسملة ليست متواترة، فلا تعد من القرآن، ولكن تكون علامة على انتهاء سورة، وابتداء سورة أخرى. ومع أنه قرر ذلك - يقرر أن مالكا يرى أنها يُبتدأ بها في الفرض والنافلة، كما رواه ابن نافع، وفي الحق أن ذلك القول غريب عن القرآن، وذلك لأن البسملة متواترة تواتر كل أجزاء القرآن، فلم تثبت بحديث آحاد، بل ثبتت بالقرآن نفسه، فقد كتبت في مصحف عثمان وما قبله، ولا تواتر أبلغ من هذا، وما كان للشيخين أبي بكر وعمر، وذي النورين وجميع الصحابة أن يدوِّنوا في المصحف ما ليس من القرآن، و آمين هي التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنطق بها في عقب قراءة الفاتحة. إن ادعاء أنها ثبتت بخبر آحاد يقتضي ذكر ذلك الخبر، ورواته، ومقدار قوتهم، وضعفهم، وعددهم، وليس كذلك، بل هي ثبتت مقترنة بسور القرآن على أنها ثابتة بين كل سورة وسورة.والسورة التي لم تصدر بها، ثبت عدم تقدمها لهذه السورة بالتواتر، فهي متواترة بالذكر في كل السور، ومتواترة بالسلب في سورة واحدة. ولهذا نرى أن نسبة ذلك القول إلى إمام دار الهجرة مالك هو في ذاته موضع نظر، وقد اقترن ذلك بادعاء أنه لم يقرأها أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقول القرطبي عفا الله عنه: فى مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة انقرضت عليه العصور ومرت عليه الأزمنة والدهور من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى زمان مالك، ولم يقرأ أحد فيه قط (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم) اتباعًا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإن لنا أن نرد ذلك القول، ونأخذ ذلك من كلامه هو، فهو قد روى أن عمر، وعليًّا، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، كانوا يقرأونها ويسرون بها. وروى هو أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يسر بها ولا يجهر، فقد روي عن أنس ابن مالك رضي الله عنه أنه قال: كان يصلي بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يُسمعنا قراءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وروي عنه أيضا: صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخلف أبي بكر، وعمر، فلم أسمع أحدًا منهم يجهر بـ بسم الله الرحمن الرحيم . فالأمر أمر الجهر بها، لَا أمر تركها، وفرق كبير بين الترك لها أصلا، وترك الجهر بها. وبذلك ينتفي ما ادعاه من أن أحدا لم يقرأها، اتباعا للسنة إن كانت سنة، وذلك لأنهم قرأوها خفية وفي سر، آخذين ذلك من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن كتاب الله عز وجل: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)). وننتهي من هذا إلى أن البسملة جزء من القرآن الكريم، وهي فاصلة بين السور تدل على الانتهاء من سورة والابتداء بسورة أخرى. وإن الشافعي يعُدها جزءا من الفاتحة، ومهما يكن فإنه لابد من البدء بقراءتها، وغيره يوجب البدء بها لَا على أنها جزء من الفاتحة، ولكن على أنها قرآن يبدأ به في أول كل سورة. والأكثرون عدوها على أنها يبتدأ بها سرا لَا جهرًا أو تضرعًا في خفية، ودون الجهر من القول، والله سبحانه وتعالى أعلم. * * * (التعوذ في ابتداء التلاوة) قال الله تعالى: (فَإذَا قَرَأْتَ الْقرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)، فُهِم من هذا النص الكريم أنه عند التلاوة لابد أن يقدمها بقوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ثم تكون بعدها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وقد حكي ذلك عن عطاء وغيره، فقالوا: إن الاستعاذة واجبة عند كل تلاوة في غير الصلاة ، وإنما في الصلاة فلا وجوب، ويظهر أن ذلك بالاتفاق؛ لأنه يكون زيادة واجب في الصلاة لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكل وجوب في عبادة من غير إيجاب من صاحب الشرع يُرَد ولا يؤخذ به. وكان النخعي، ومعه قوم يتعوذون استحبابًا في كل ركعة في الصلاة، فحيث كانت قراءة قرآن تعوذوا استحبابًا، وروي عن أبي حنيفة التعوذ في قراءة الركعة الأولى فقط.ومن المتفق عليه أمران: أحدهما: أن الاستعاذة ليست جزءا من الصلاة، ولا شرطا لقراءة الفاتحة، كما هو مقرر عند الشافعي، لَا سرا ولا جهرا؛ لأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه التزم بها لَا جهرا ولا خفية. الثاني: أن كلمة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ليست قرآنا، وإنما استجابة لقول الله تعالى: (فَإذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)، وكلمة أعوذ بالله هي الكلمة التي يرددها الناس عند الاستعاذة، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول في الاستعاذة: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، وروى ابن مسعود أنه تعوَّذ بها أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: يا ابْنَ أمِّ عَبْدٍ، أعوذُ باللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرجيمِ هكلذ أقْرَانِي جِبْرِيلُ عَنِ اللوح عَنِ القَلَم ، وإن هذا النص يستفاد منه أن كلمة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هي المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وننتهي من هذا إلى أنها مستحبة وليست واجبة، ولكن إذا قالها أيُسِرُّ أم يجهر؟ الجمهور على أنه يجهر عند الصلاة بها، وقال حمزة: يسرُّ بها، ومن قال إن الاستعاذة تكون بعد القراءة لأن الله يقول: (فَإذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) ...، فالقراءة تسبق الاستعاذة امتثالا لأمر الله تعالى؛ ولكيلا يكون القارئ متغنيا، ولا متلقيا، وليكون في حضرة الله في قراءته وبعدها، ويكون طائعا لله تعالى في كل أحواله. الفاتحة أو فاتحة الكتاب قال جار الله الزمخشري في كتابه الكشاف: إنها مكية؛ لأنها أنزلت بمكة، وذلك هو المشهور، وقيل إنها أنزلت بمكة مرة، والمدينة مرة أخرى عند تحويل القبلة إلى الكعبة، والظاهر أنها مكية، نزلت عند فرض الصلاة بمكة، وكونها نزلت بعد ذلك بالمدينة تكرار للنزول، ولا نحسب ثمة حاجة للتكرار فإنها متى نزلت كانت واجبة التلاوة على أنها جزء من القرآن ولاحاجة إلى تكرار نزولها. وتسمى أم القرآن، لاشتمالها على المعاني التي في القرآن من الثناء على الله تعالى، بما هو أهله، ومن التعبد بالأمر والنهي، ومن الوعد والوعيد، وتسمى أيضا سورة الكنز، وسورة الوافية لذلك الشمول الإجمالي الذي اشتملت عليه فيما ذكرنا، وتسمى المثاني لأنها تثنى في كل ركعة ولأنها السبع المثاني. وتسمى سورة الصلاة، لأنها مأمور بقراءتها فيها، وتسمى الشفاء والشافية وهي سبع آيات بالاتفاق . وكلها أسماء سميت بها لمعان فيها، ولاحظَها من جوانبها من سماها، فكل اسم يمثل جانبا من جوانبها. ابتدئت الفاتحة كما ابتدئت كل سورة ما عدا براءة بـ بسم الله الرحمن الرحيم ، وعدها الشافعي وفقهاء مكة جزءا من الفاتحة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدَّ الفاتحة سبع آيات، ولا تكون سبع آيات إلا إذا عدت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ جزءا منها، وعند أهل المدينة ومالك ليست جزءا من الفاتحة، وقد علمت القول المختلف في ذلك، وقد قررنا أنها جزء من القرآن وابتداء لكل سورة، وقال الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة: ما بين دفتي المصحف قرآن ، وقد كانت مكتوبة في مصحف عثمان رضي الله عنه والمصحفين من قبله، وتواتر المصحف بتواتر القرآن، والإجماع انعقد على ذلك، ولم تنقل بخبر آحاد كما ادعى بعض المالكية. (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (بِسْمِ) الباء هنا هي حرف جر يدل على السببية، وهي مبنية على الكسر كـ لام الأمر، والمعنى: بسبب اسم الله الذي لَا. يعبد سواه وأنه الرحمن الرحيم أبتدئ، فهي متعلقة بمحذوف يُذكر بعدها، لبيان اختصاص الابتداء أو التبرك باسم الله تعالى، فالتأخير يفيد الاهتمام بمتعلّق الباء ومزيد الاختصاص بالاستعانة والتيمن والتبرك به. والبسملة يبدأ بها في كل أمر ذي بال، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِبِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم فَهُو أَبْتَر والفعل الذي تعلقت به الباء محذوف، وكما ذكرنا يقدر مؤخرا، لأن المقدم يكون محل التخصيص. ولأن البسملة يبدأ بها كل أمر ذي بال، فإنه يقدر الفعل على حسب ما نبتدئ البسملة، ويرى بعض المفسرين أن يقدر الفعل المحذوف أبتدئ ، لأنه يكون صالحا، لكل أمر ذي بال وشأن، والآخرون قالوا: إنه يقدر في القرآن أتلو أو أقرأ أو أرتل أو نحو ذلك، وبعض العلماء قال: إنها في القرآن الكريم في معنى القسم بأن القرآن حق لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتكون على هذا للقسم، ويقدر الفعل بـ أُقسم . والمعنى على ذلك في أول كل سورة اجعل قسمك بالله الرحمن الرحيم أن ما تتلو هو الحق الذي لاريب فيه، فهو الكتاب لَا ريب فيه هدى للمتقين.و (اللَّهِ) هو لفظ الجلالة الدال على أنه وحده له كمال العبودية، واسم الله - قال بعض العلماء إنه المراد فيه الذات العلية فهو اسم يعني المسمى. والمعنى هو القسم بالذات العلية، وقرر بعض العلماء أن الاسم الأعلى هو المقصود بالافتتاح تبركا وتيمنا باسم الذات العلية، ولها المكان الأقدس من العباد تبارك الله، والاسم ذاته يتيمن به ويتبرك، فليس المراد بالاسم الذات؛ لأنها مذكورة، كما قال تعالى: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)، وقوله تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى)، وهذا ما نميل إليه؛ لأنه لَا يحتاج إلى تحول من المعنى الأصلي لكلمة الاسم إلى غيره، ولأن إطلاق الاسم على المسمى من قبيل المجاز، ولا يصار إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة، ولأن قصد الاسم الأسمى ابتداءً يفيد معنيين، وهو تقديس الاسم في كلمة بسم الله، وتقديس المسمى وهو الله سبحانه. ولو أطلق الاسم على المسمى، لكان تقديسا للذات العلية من غير إعالاء للاسم في ذاته، ولا شك أن الأول أبلغ تسبيح لله تعالى لقاء التبرك بذكره، والتيمن به سبحانه وتعالى علوا كبيرا. وكلمة (اللَّهِ) تعالى لَا تطلق إلا على الذات العلية خالق الكون، ومنشئ الوجود على غير مثال سبق، بديع السماوات والأرض. وقالوا: إن أصل كلمة الله: الإله، ثم كان حذف الهمزة، مع تقدير أنها مطوية في الكلام مقدرة فيه. والإله تطلق على المعبود، وتعم المعبود بحق وبغير حق، ولكن كلمة (اللَّهِ) تعالى لا تطلق إلا على المعبود بحق، فيُقال: آلهة المشركين، وآلهة الرومان، وآلهة المصريين، ولا يقال: الله إلا في مقام أنه الخالق المدبر المنشئ المستحق للعبادة؛ ولذلك كانت ألفاظ القرآن الكثيرة في مخاطبة المشركين، على أن الله تعالى معروف بأنه المنشئ، وأنه غير آلهتهم، فكانوا يقولون: الآلهة هبل، واللات، والعزى، ومناة الثالثة؛ يقولون عنها إله وآلهة ولا يقولون عن واحدة منها إنه الله ، لقد قال تعالىعنهم: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)، وكان يحتج عليهم بأنهم يعبدون مع الله آلهة أخرى، وجدل القرآن الكريم لهم لإلزامهم بالتوحيد بأنهم يعترفون بأن الله تعالى خالق السماوات والأرض فهو الجدير وحده بالعبادة، اقرأ قوله تعالى: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)) ونرى من هذا أن العرب كانوا يعرفون الله سبحانه وتعالى، وأنه الخالق لكل شيء وما كانوا يطلقون كلمة الله إلا على الخالق المدبر المنفرد بالإيجاد والإبداع، وما كانوا يطلقون على آلهتهم كلمة الله، وهذا عُرْف لغتهم ودلالتها. (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) هذان وصفان لله تعالى قُرنا في البسملة، وكلاهما يدل على كمال رحمة الله تعالى في ذاته وعلى خلقه، والرحمة رقة في القلب، والله تعالى لَا يتصف بذلك؛ لأن هذا من صفات الحوادث، والله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وإنما يراد من الأوصاف التي يتصف بمثلها العباد غايتها، وثمرتها، وثمرة الرحمة الإنعام الكامل، والنفع ودفع الضر، والرزق، وغفران الذنوب، وكلاءة الله تعالى لهم، والقيام على كل ما يمدهم به بالخير والنعمة.والوصفان اقترنا واجتمعا في البسملة، كما اجتمعا في بسملة كتاب سليمان عليه السلام لبلقيس، إذ قال تعالى: (إِنَّه مِن سُلَيْمَانَ وَإِنِّه بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وهذه بسملة كبسملة أوائل السور، كما اجتمع الوصفان في آيتين أخريين من آيات القرآن، ففي أول سورة فصلت ذكر للقرآن الكريم، وقال سبحانه عن الذكر (تَنزِيلٌ منَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم) وجاء في سورة الحشر (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ). ولا شك أن الوصفين من أسماء الله الحسنى وصفاته، ولا شك أن لكل منهما معنًى قائمًا بذاته، منفردًا به عن الآخر. يقول الزمخشري (نقلا عن الزجاج): إن صيغة فَعْلان من الصيغ التي تدل على الامتلاء، كغضبان، وشبعان، وسكران، وجوعان، فإنها تدل على الامتلاء من الفعل الذي اشتُقت منه، فكذلك الرحمن معناها الممتلئ رحمة، ورحيم تدل على الاتصاف بالرحمة التي تليق بذاته العلية من غير امتلاء. ولذلك يقول الزمخشري ومن تبعه في دراساته البيانية للقرآن الكريم: إن الرحمن أبلغ من الرحيم ، وإن كان كلامه تعالى كله فوق الكلام البشرى وما ترى فيه من تفاوت، وإن كان كله في أعلى درجات البيان لَا يساويه بيان للإنسان. وبدراسة اللفظين في القرآن يتبين لنا الفرق بينهما في الاستعمال القرآني السامي في بلاغته إلى ما لَا يتسامى إليه كلام بشر، ولا يدانيه شيءٌ من الكلام الإنساني. وعند الاتجاه إلى استقراء الآيات القرآنية نجد القرآن الكريم جمع بين الوصفين في آيتين غير البسملة وقد ذكرتا، وذكر وصف الرحمن منفردا في نحو ستينموضعًا من كتاب الله العزيز، وكان يذكر ذلك الوصف السامي غير مضاف إلى فعل من الأفعال، ولا واقع على أحد كقوله تعالى: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى...)، وكقوله تعالى: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا)، وقوله تعالى: (الرَّحْمَن عَلَّمَ الْقُرْآنَ)، ومثل قوله تعالى: (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ). وهكذا في نحو ستين آية يذكر وصف الرحمن مجردا من الإضافة إلى شيء أو شخص أو فعل كما يذكر الله تعالى، وذكر وصف الرحيم منفردًا عن الرحمن في أكثر من ثلاثين ومائة آية، ونجد أنها مضافة إلى رحمته سبحانه وتعالى بالعباد مثل قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رحِيمٌ)، ومثل قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رحِيمٌ)، ومثل قوله تعالى: (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). ومن هذه الموازنات بين استعمال القرآن لكلمة رحمن ، واستعماله لكلمة رحيم ننتهي إلى ما يأتي: أولا: أن وصف الرحمن وصف ذاتي للذات العلية لَا يتعلق بفعل ولا بشخص يذكر، ولكنه وصف لله أو اسم له كلفظ الجلالة، ولكنه يشعرنا بالرحمة، كما أنه لفظ يشعر بالألوهية واستحقاق العبادة؛ ولذلك قال بعض العلماء: إن كلمة الرحمن اسم لله تعالى، وأما الرحيم فهو وصف لله تعالى يتعلق برحمته بالعباد المكلفين المخاطبين بشريعته، والذين طلب منهم أن يقوموا بحق الله تعالى في إجابة أوامره، واجتناب نواهيه؛ ولذلك يقترن كثيرا بالتوبة والمغفرة.ثانيا: أن الرحمة في الرحمن أكثر من الرحيم ، ولذلك قالوا: إن رحمة الرحمن، هي الرحمة بالوجود كله، فبرحمة الرحمن يرزق الله من في السماوات والأرض، وبرحمته الواسعة ينزل الغيث، ويرسل الرياح، ومهَّد الأرض، وجعل الجبال، وبرحمة الرحمن بعث الرسل مبشرين ومنذرين، وبرحمة الرحمن جازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْر أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ). وهكذا كانت رحمة الرحمن شاملة الوجود كله، والرحيم متعلق في رحمته بالمكلفين. ثالثا: أن الرحمن أكثر رحمة لما في الوصف بالرحمة فيه من شمول يشمل الوجود الإنساني كله، ووصف الرحيم خاص بالمكلفين، كما يدل على ذلك سياق اللفظ في القرآن الكريم. ومن هذا الاستقراء والتتبع، واستنباط المعاني لألفاظ (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) من استعمال القرآن ننتهي إلى أن بيان معاني (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم) أن الله سبحانه وتعالى يأمرنا أن نتلو القرآن مبتدئين تالين لآياته باسمه الأقدس. نتبرك به ونتيمن ونسبح باسمه، وهو الله الإله المتفرد بالخلق والتكوين والتدبير والمتفرد بالعبودية وحده جل جلاله لأنه بديع السماوات والأرض والوجود كله، وهو الرحمن ذو الرحمة الواسعة التي تعم الوجود كله في السماوات والأرض، والدنيا والآخرة، المدبر للوجود برحمته، وهو الرحيم بعباده يغفر لهم ويتوب عليهم، ويشرع لهم من الشرائع ما يكون خيرًا لهم في معادهم ومعاشهم، وهو بكل شيء عليم.
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الظلال:
الحياة في ظلال القرآن نعمة. نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها. نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه.
والحمد لله.. لقد منَّ علي بالحياة في ظلال القرآن فترة من الزمان، ذقت فيها من نعمته ما لم أذق قط في حياتي. ذقت فيها هذه النعمة التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه.
لقد عشت أسمع الله - سبحانه - يتحدث إلي بهذا القرآن.. أنا العبد القليل الصغير.. أي تكريم للإنسان هذا التكريم العلوي الجليل؟ أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل؟ أي مقام كريم يتفضل به على الإنسان خالقه الكريم؟
وعشت - في ظلال القرآن - أنظر من علو إلى الجاهلية التي تموج في الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة.. أنظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال، وتصورات الأطفال، واهتمامات الأطفال.. كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال، ومحاولات الأطفال. ولثغة الأطفال.. وأعجب.. ما بال هذا الناس؟! ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة، ولا يسمعون النداء العلوي الجليل. النداء الذي يرفع العمر ويباركه ويزكيه؟
عشت أتملى - في ظلال القرآن - ذلك التصور الكلامل الشامل الرفيع النظيف للوجود.. لغاية الوجود كله، وغاية الوجود الإنساني.. وأقيس إليه تصورات الجاهلية التي تعيش فيها البشرية، في شرق وغرب، وفي شمال وجنوب.. وأسأل.. كيف تعيش البشرية في المستنقع الآسن، وفي الدرك الهابط، وفي الظلام البهيم وعندها ذلك المرتع الزكي، وذلك المرتقى العالي، وذلك النور الوضيء؟
وعشت - في ظلال القرآن - أحس التناسق الجميل بين حركة الإنسان كما يريدها الله، وحركة هذا الكون الذي أبدعه الله.. ثم أنظر.. فأرى التخبط الذي تعانيه البشرية في انحرافها عن السنن الكونية، والتصادم بين التعاليم الفاسدة الشريرة التي تملى عليها وبين فطرتها التي فطرها الله عليها. وأقول في نفسي: أي شيطان لئيم هذا الذي يقود خطاها إلى هذا الجحيم؟ يا حسرة على العباد !
وعشت - في ظلال القرآن - أرى الوجود أكبر بكثير من ظاهره المشهود.. أكبر في حقيقته، وأكبر في تعدد جوانبه.. إنه عالم الغيب والشهادة لا عالم الشهادة وحده. وإنه الدنيا والآخرة، لا هذه الدنيا وحدها.. والنشأة الإنسانية ممتدة في شعاب هذا المدى المتطاول كله إنما هو قسط من ذلك النصيب. وما يفوته هنا من الجزاء لا يفوته هناك. فلا ظلم ولا بخس ولا ضياع. على أن المرحلة التي يقطعها على ظهر هذا الكوكب إنما هي رحلة في كون حي مأنوس، وعالم صديق ودود. كون ذي روح تتلقى وتستجيب، وتتجه إلى الخالق الواحد الذي تتجه إليه روح المؤمن في خشوع: ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال. . تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده. . أي راحة، وأي سعة وأي أنس، وأي ثقة يفيضها على القلب هذا التصور الشامل الكامل الفسيح الصحيح؟
وعشت - في ظلال القرآن - أرى الإنسان أكرم بكثير من كل تقدير عرفته البشرية من قبل للإنسان ومن بعد.. إنه إنسان بنفخة من روح الله: فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. . وهو بهذه النفخة مستخلف في الأرض: وإذ قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة. . ومسخر له كل ما في الأرض: وسخر لكم ما في الأرض جميعا.. ولأن الإنسان بهذا القدر من الكرامة والسمو جعل الله الآصرة التي يتجمع عليها البشر هي الآصرة المستمدة من النفخة الإلهية الكريمة. جعلها آصرة العقيدة في الله.. فعقيدة المؤمن هي وطنه، وهي قومه، وهي أهله.. ومن ثم يتجمع البشر عليها وحدها، لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج !. .
والمؤمن ذو نسب عريق، ضارب في شعاب الزمان. إنه واحد من ذلك الموكب الكريم، الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم: نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب ويوسف، وموسى وعيسى، ومحمد.. عليهم الصلاة والسلام.. وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون. .
هذا الموكب الكريم، الممتد في شعاب الزمان من قديم، يواجه - كما يتجلى في ظلال القرآن - مواقف متشابهة، وأزمات متشابهة، وتجارب متشابهة على تطاول العصور وكر الدهور، وتغير المكان، وتعدد الأقوام. يواجه الضلال والعمى والطغيان والهوى، والاضطهاد والبغي، والتهديد والتشريد. ولكنه يمضي في طريقه ثابت الخطو، مطمئن الضمير، واثقا من نصر الله، متعلقا بالرجاء فيه، متوقعا في كل لحظة وعد الله الصادق الأكيد: وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا. فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين، ولنسكننكم الأرض من بعدهم. ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد. . موقف واحد وتجربة واحدة. وتهديد واحد. ويقين واحد. ووعد واحد للموكب الكريم.. وعاقبة واحدة ينتظرها المؤمنون في نهاية المطاف. وهم يتلقون الاضطهاد والتهديد والوعيد. .
الحياة في ظلال القرآن
وفي ظلال القرآن تعلمت أنه لا مكان في هذا الوجود للمصادفة العمياء، ولا للفلتة العارضة: إنا كل شيء خلقناه بقدر. . وخلق كل شيء فقدره تقديرا. . وكل أمر لحكمة. ولكن حكمة الغيب العميقة قد لا تتكشف للنظرة الإنسانية القصيرة: فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل
الله فيه خيرا كثيرا. . وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم. والله يعلم وأنتم لا تعلمون. . والأسباب التي تعارف عليها الناس قد تتبعها آثارها وقد لا تتبعها، والمقدمات التي يراها الناس حتمية قد تعقبها نتائجها وقد لا تعقبها. ذلك أنه ليست الأسباب والمقدمات هي التي تنشئ الآثار والنتائج، وإنما هي الإرادة الطليقة التي تنشئ الآثار والنتائج كما تنشئ الأسباب والمقدمات سواء: لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا. . وما تشاءون إلا أن يشاء الله. . والمؤمن يأخذ بالأسباب لأنه مأمور بالأخذ بها. والله هو الذي يقدر آثارها ونتائجها.. والاطمئنان إلى رحمة الله وعدله وإلى حكمته وعلمه هو وحده الملاذ الأمين، والنجوة من الهواجس والوساوس: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا، والله واسع عليم. .
ومن ثم عشت - في ظلال القرآن - هادئ النفس، مطمئن السريرة، قرير الضمير.. عشت أرى يد الله في كل حادث وفي كل أمر. عشت في كنف الله وفي رعايته. عشت أستشعر إيجابية صفاته تعالى وفاعليتها.. أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء؟. . وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير. . والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. . واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه. . فعال لما يريد. . ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه. إن الله بالغ أمره. . ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها. . أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه. . ومن يهن الله فما له من مكرم. . ومن يضلل الله فما له من هاد. . إن الوجود ليس متروكا لقوانين آلية صماء عمياء. فهناك دائما وراء السنن الإرادة المدبرة، والمشيئة المطلقة.. والله يخلق ما يشاء ويختار. كذلك تعلمت أن يد الله تعمل. ولكنها تعمل بطريقتها الخاصة، وأنه ليس لنا أن نستعجلها، ولا أن نقترح على الله شيئا. فالمنهج الإلهي - كما يبدو في ظلال القرآن - موضوع ليعمل في كل بيئة، وفي كل مرحلة من مراحل النشأة الإنسانية، وفي كل حالة من حالات النفس البشرية الواحدة.. وهو موضوع لهذا الإنسان الذي يعيش في هذه الأرض، آخذ في الاعتبار فطرة هذا الإنسان وطاقاته واستعداداته، وقوته وضعفه، وحالاته المتغيرة التي تعتريه.. إن ظنه لا يسوء بهذا الكائن فيحتقر دوره في الأرض، أو يهدر قيمته في صورة من صور حياته، سواء وهو فرد أو وهو عضو في جماعة. كذلك هو لا يهيم مع الخيال فيرفع هذا الكائن فوق قدره وفوق طاقته وفوق مهمته التي أنشأه الله لها يوم أنشأه.. ولا يفترض في كلتا الحالتين أن مقومات فطرته سطحية تنشأ بقانون أو تكشط بجرة قلم !.. الإنسان هو هذا الكائن بعينه. بفطرته وميوله واستعداداته يأخذ المنهج الإلهي بيده ليرتفع به إلى أقصى درجات الكمال المقدر له بحسب تكوينه ووظيفته، ويحترم ذاته وفطرته ومقوماته، وهو يقوده في طريق الكمال الصاعد إلى الله.. ومن ثم فإن المنهج الإلهي موضوع للمدى الطويل - الذي يعلمه خالق هذا الإنسان ومنزل هذا القرآن - ومن ثم لم يكن معتسفا ولا عجولا في تحقيق غاياته العليا من هذا المنهج. إن المدى أمامه ممتد فسيح، لا يحده عمر فرد، ولا تستحثه رغبة فان، يخشى أن يعجله الموت عنتحقيق غايته البعيدة، كما يقع لأصحاب المذاهب الأرضية الذين يعتسفون الأمر كله في جيل واحد، ويتخطون الفطرة المتزنة الخطى لأنهم لا يصبرون على الخطو المتزن ! وفي الطريق العسوف التي يسلكونها تقوم المجازر، وتسيل الدماء، وتتحطم القيم، وتضطرب الأمور. ثم يتحطمون هم في النهاية وتتحطم مذاهبهم المصطنعة تحت مطارق الفطرة التي لا تصمد لها المذاهب المعتسفة ! فأما الإسلام فيسير هينا لينا مع الفطرة، يدفعها من هنا، ويردعها من هناك، ويقومها حين تميل، ولكنه لا يكسرها ولا يحطمها. إنه يصبر عليها صبر العارف البصير الواثق من الغاية المرسومة.. والذي لا يتم في هذه الجولة يتم في الجولة الثانية أو الثالثة أو العاشرة أو المائة أو الألف.. فالزمن ممتد، والغاية واضحة، والطريق إلى الهدف الكبير طويل، وكما تنبت الشجرة الباسقة وتضرب بجذورها في التربة، وتتطاول فروعها وتتشابك.. كذلك ينبت الإسلام ويمتد في بطء وعلى هينة وفي طمأنينة. ثم يكون دائما ما يريده الله أن يكون.. والزرعة قد تسقى عليها الرمال، وقد يأكل بعضها الدود، وقد يحرقها الظمأ. وقد يغرقها الري. ولكن الزارع البصير يعلم أنها زرعة للبقاء والنماء، وأنها ستغالب الآفات كلها على المدى الطويل، فلا يعتسف ولا يقلق، ولا يحاول إنضاجها بغير وسائل الفطرة الهادئة المتزنة، السمحة الودود.. إنه المنهج الإلهي في الوجود كله.. ولن تجد لسنة الله تبديلا. .
والحق في منهج الله أصيل في بناء هذا الوجود. ليس فلتة عابرة، ولا مصادفة غبر مقصودة.. إن الله سبحانه هو الحق. ومن وجوده تعالى يستمد كل موجود وجوده: ذلك بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل، وأن الله هو العلي الكبير. . وقد خلق الله هذا الكون بالحق لا يتلبس بخلقه الباطل: ما خلق الله ذلك إلا بالحق. . ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ! والحق هو قوام هذا الوجود فإذا حاد عنه فسد وهلك: ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن. . ومن ثم فلا بد للحق أن يظهر، ولا بد للباطل أن يزهق.. ومهما تكن الظواهر غير هذا فإن مصيرها إلى تكشف صريح: بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. .
والخير والصلاح والإحسان أصيلة كالحق، باقية بقاءه في الأرض: أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها، فاحتمل السيل زبدا رابيا، ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع، زبد مثله. كذلك يضرب الله الحق والباطل. فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. كذلك يضرب الله الأمثال. .. ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء. .
أي طمأنينة ينشئها هذا التصور؟ وأي سكينة يفيضها على القلب؟ وأي ثقة في الحق والخير والصلاح؟ وأي قوة واستعلاء على الواقع الصغير يسكبها في الضمير؟
أثر الحياة في ظلال القرآن
من فترة الحياة - في ظلال القرآن - إلى يقين جازم حاسم.. إنه لا صلاح لهذه الأرض، ولا راحة لهذه البشرية، ولا طمأنينة لهذا الإنسان، ولا رفعة ولا بركة ولا طهارة، ولا تناسق مع سنن الكون وفطرة الحياة.. إلا بالرجوع إلى الله. .
والرجوع إلى الله - كما يتجلى في ظلال القرآن - له صورة واحدة وطريق واحد.. واحد لا سواه.. إنه العودة بالحياة كلها إلى منهج الله الذي رسمه للبشرية في كتابه الكريم.. إنه تحكيم هذا الكتاب وحده في حياتها. والتحاكم إليه وحده في شؤونها. وإلا فهو الفساد في الأرض، والشقاوة للناس، والارتكاس في الحمأة، والجاهلية التي تعبد الهوى من دون الله: فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم. ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله؟ إن الله لا يهدي القوم الظالمين. .
إن الاحتكام إلى منهج الله في كتابه ليس نافلة ولا تطوعا ولا موضع اختيار، إنما هو الإيمان.. أو.. فلا إيمان.. وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. . ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون. إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض، والله ولي المتقين. .
والأمر إذن جد.. إنه أمر العقيدة من أساسها.. ثم هو أمر سعادة هذه البشرية أو شقائها. .
إن هذه البشرية - وهي من صنع الله - لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده - سبحانه - وقد جعل في منهجه وحده مفاتيح كل مغلق، وشفاء كل داء: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين. . إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم. . ولكن هذه البشرية لا تريد أن ترد القفل إلى صانعه، ولا أن تذهب بالمريض إلى مبدعه، ولا تسلك في أمر نفسها، وفي أمر إنسانيتها، وفي أمر سعادتها أو شقوتها.. ما تعودت أن تسلكه في أمر الأجهزة والآلات المادية الزهيدة التي تستخدمها في حاجاتها اليومية الصغيرة.. وهي تعلم أنها تستدعي لإصلاح الجهاز مهندس المصنع الذي صنع الجهاز. ولكنها لا تطبق هذه القاعدة على الإنسان نفسه، فترده إلى المصنع الذي منه خرج، ولا أن تستفتي المبدع الذي أنشأ هذا الجهاز العجيب، الجهاز الإنساني العظيم الكريم الدقيق اللطيف، الذي لا يعلم مساربه ومداخله إلا الذي أبدعه وأنشأه: إنه عليم بذات الصدور. ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟. .
ومن هنا جاءت الشقوة للبشرية الضالة. البشرية المسكينة الحائرة، البشرية التي لن تجد الرشد، ولن تجد الهدى، ولن تجد الراحة، ولن تجد السعادة، إلا حين ترد الفطرة البشرية إلى صانعها الكبير، كما ترد الجهاز الزهيد إلى صانعه الصغير !
ولقد كانت تنحية الإسلام عن قيادة البشرية حدثا هائلا في تاريخها، ونكبة قاصمة في حياتها، نكبة لم تعرف لها البشرية نظيرا في كل ما ألم بها من نكبات. .
لقد كان الإسلام قد تسلم القيادة بعد ما فسدت الأرض، وأسنت الحياة، وتعفنت القيادات، وذاقت البشرية الويلات من القيادات المتعفنة، و ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. .
تسلم الإسلام القيادة بهذا القرآن، وبالتصور الجديد الذي جاء به القرآن، وبالشريعة المستمدة من هذا التصور.. فكان ذلك مولدا جديدا للإنسان أعظم في حقيقته من المولد الذي كانت به نشأته. لقد أنشأ هذا القرآن للبشرية تصورا جديدا عن الوجود والحياة والقيم والنظم، كما حقق لها واقعا اجتماعيا فريدا، كان يعز على خيالها تصوره مجرد تصور، قبل أن ينشئه لها القرآن إنشاء.. نعم ! لقد كان هذا الواقع من النظافة والجمال، والعظمة والارتفاع، والبساطة واليسر، والواقعية والإيجابية، والتوازن والتناسق. .. بحيث لا يخطر للبشرية على بال، لولا أن الله أراده لها، وحققه في حياتها.. في ظلال القرآن، ومنهج القرآن، وشريعة القرآن.
ثم وقعت تلك النكبة القاصمة. ونحي الإسلام عن القيادة. نحي عنها لتتولاها الجاهلية مرة أخرى، في صورة من صورها الكثيرة. صورة التفكير المادي الذي تتعاجب به البشرية اليوم، كما يتعاجب الأطفال بالثوب المبرقش واللعبة الزاهية الألوان !
إن هناك عصابة من المضللين الخادعين أعداء البشرية. يضعون لها المنهج الإلهي في كفة والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى؛ ثم يقولون لها: اختاري !!! اختاري إما المنهج الإلهي في الحياة والتخلي عن كل ما أبدعته يد الإنسان في عالم المادة، وإما الأخذ بثمار المعرفة الإنسانية والتخلي عن منهج الله !!! وهذا خداع لئيم خبيث. فوضع المسألة ليس هكذا أبدا.. إن المنهج الإلهي ليس عدوا للإبداع الإنساني. إنما هو منشئ لهذا الإبداع وموجه له الوجهة الصحيحة.. ذلك كي ينهض الإنسان بمقام الخلافة في الأرض. هذا المقام الذي منحه الله له، وأقدره عليه، ووهبه من الطاقات المكنونة ما يكافئ الواجب المفروض عليه فيه، وسخر له من القوانين الكونية ما يعينه على تحقيقه، ونسق بين تكوينه وتكوين هذا الكون ليملك الحياة والعمل والإبداع.. على أن يكون الإبداع نفسه عبادة لله، ووسيلة من وسائل شكره على آلائه العظام، والتقيد بشرطه في عقد الخلافة، وهو أن يعمل ويتحرك في نطاق ما يرضي الله. فأما أولئك الذين يضعون المنهج الإلهي في كفة، والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى.. فهم سيئو النية، شريرون، يطاردون البشرية المتعبة الحائرة كلما تعبت من التيه والحيرة والضلال، وهمت أن تسمع لصوت الحادي الناصح، وأن تؤوب من المتاهة المهلكة وأن تطمئن إلى كنف الله. ..
وهنالك آخرون لا ينقصهم حسن النية، ولكن ينقصهم الوعي الشامل، والإدراك العميق.. هؤلاء يبهرهم ما كشفه الإنسان من القوى والقوانين الطبيعية، وتروعهم انتصارات الإنسان في عالم المادة. فيفصل ذلك البهر وهذه الروعة في شعورهم بين القوى الطبيعية والقيم الإيمانية، وعملها وأثرها الواقعي في الكون وفي واقع الحياة، ويجعلون للقوانين الطبيعية مجالا، وللقيم الإيمانية مجالا آخر، ويحسبون أن القوانين الطبيعية تسير في طريقها غير متأثرة بالقيم الإيمانية، وتعطي نتائجها سواء آمن الناس أم كفروا. اتبعوا منهج الله أم خالفوا عنه. حكموا بشريعة الله أم بأهواء الناس !
هذا وهم.. إنه فصل بين نوعين من السنن الإلهية هما في حقيقتهما غير منفصلين. فهذه القيم الإيمانية هي بعض سنن الله في الكون كالقوانين الطبيعية سواء بسواء. ونتائجها مرتبطة ومتداخلة، ولا مبرر للفصل بينهما في حس المؤمن وفي تصوره.. وهذا هو التصور الصحيح الذي ينشئه القرآن في النفس حين تعيش في ظلال القرآن. ينشئه وهو يتحدث عن أهل الكتب السابقة وانحرافهم عنها وأثر هذا الانحراف في نهاية المطاف: ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم. ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم. وينشئه وهو يتحدث عن وعد نوح لقومه: فقلت: استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا. . وينشئه وهو يربط بين الواقع النفسي للناس والواقع الخارجي الذي يفعله الله بهم إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. .
إن الإيمان بالله، وعبادته على استقامة، وإقرار شريعته في الأرض. .. كلها إنفاذ لسنن الله. وهي سنن ذات فاعلية إيجابية، نابعة من ذات المنبع الذي تنبثق منه سائر السنن الكونية التي نرى آثارها الواقعية بالحس والاختبار.
ولقد تأخذنا في بعض الأحيان مظاهر خادعة لافتراق السنن الكونية، حين نرى أن اتباع القوانين الطبيعية يؤدي إلى النجاح مع مخالفة القيم الإيمانية.. هذا الافتراق قد لا تظهر نتائجه في أول الطريق، ولكنها تظهر حتما في نهايته.. وهذا ما وقع للمجتمع الإسلامي نفسه. لقد بدأ خط صعوده من نقطة التقاء القوانين الطبيعية في حياته مع القيم الإيمانية. وبدأ خط هبوطه من نقطة افتراقهما. وظل يهبط ويهبط كلما انفرجت زاوية الافتراق حتى وصل إلى الحضيض عندما أهمل السنن الطبيعية والقيم الإيمانية جميعا. .
وفي الطرف الآخر تقف الحضارة المادية اليوم. تقف كالطائر الذي يرف بجناح واحد جبار، بينما جناحه الآخر مهيض، فيرتقي في الإبداع المادي بقدر ما يرتكس في المعنى الإنساني. ويعاني من القلق والحيرة والأمراض النفسية والعصبية ما يصرخ منه العقلاء هناك.. لولا أنهم لا يهتدون إلى منهج الله وهو وحده العلاج والدواء.
إن شريعة الله للناس هي طرف من قانونه الكلي في الكون. فإنفاذ هذه الشريعة لا بد أن يكون له أثر إيجابي في التنسيق بين سيرة الناس وسيرة الكون.. والشريعة إن هي إلا ثمرة الإيمان لا تقوم وحدها بغير أصلها الكبير. فهي موضوعة لتنفذ في مجتمع مسلم، كما أنها موضوعة لتساهم في بناء المجتمع المسلم. وهي متكاملة مع التصور الإسلامي كله للوجود الكبير وللوجود الإنساني، ومع ما ينشئه هذا التصور من تقوى في الضمير، ونظافة في الشعور، وضخامة في الاهتمامات، ورفعة في الخلق، واستقامة في السلوك. .. وهكذا يبدو التكامل والتناسق بين سنن الله كلها سواء ما نسميه القوانين الطبيعية وما نسميه القيم الإيمانية.. فكلها أطراف من سنة الله الشاملة لهذا الوجود.
والإنسان كذلك قوة من قوى الوجود. وعمله وإرادته، وإيمانه وصلاحه، وعبادته ونشاطه. ... هي كذلك قوى ذات آثار إيجابية في هذا الوجود وهي مرتبطة بسنة الله الشاملة للوجود.. وكلها تعمل متناسقة، وتعطي ثمارها كاملة حين تتجمع وتتناسق، بينما تفسد آثارها وتضطرب وتفسد الحياة معها، وتنتشر الشقوة بين الناس والتعاسة حين تفترق وتتصادم: ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. . فالارتباط قائم وثيق بين عمل الإنسان وشعوره وبين ماجريات الأحداث في نطاق السنة الإلهية الشاملة للجميع. ولا يوحي بتمزيق هذا الارتباط، ولا يدعو إلى الإخلال بهذا التناسق، ولا يحول بين الناس وسنة الله الجارية، إلا عدو للبشرية يطاردها دون الهدى، وينبغي لها أن تطارده، وتقصيه من طريقها إلى ربها الكريم. .
هذه بعض الخواطر والانطباعات من فترة الحياة في ظلال القرآن. لعل الله ينفع بها ويهدي. وما تشاءون إلا أن يشاء الله.
{بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ}
مقدمة السورة:
الفاتحة مكية وآياتها سبع
يردد المسلم هذه السورة القصيرة ذات الآيات السبع، سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة على الحد الأدنى، وأكثر من ضعف ذلك إذا هو صلى السنن، وإلى غير حد إذا هو رغب في أن يقف بين يدي ربه متنفلا، غير الفرائض والسنن. ولا تقوم صلاة بغير هذه السورة لما ورد في الصحيحين عن رسول الله ﷺ من حديث عبادة بن الصامت: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " .
إن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية، وكليات التصور الإسلامي، وكليات المشاعر والتوجيهات، ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة، وحكمة بطلان كل صلاة لا تذكر فيها. .
بسم الله الرحمن الرحيم:
تبدأ السورة: (بسم الله الرحمن الرحيم). . ومع الخلاف حول البسملة: أهي آية من كل سورة أم هي آية من القرآن تفتتح بها عند القراءة كل سورة، فإن الأرجح أنها آية من سورة الفاتحة، وبها تحتسب آياتها سبعا. وهناك قول بأن المقصود بقوله تعالى: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم). . هو سورة الفاتحة بوصفها سبع آيات (من المثاني) لأنها يثنى بها وتكرر في الصلاة.
والبدء باسم الله هو الأدب الذي أوحى الله لنبيه ﷺ في أول ما نزل من القرآن باتفاق، وهو قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك. . .). . وهو الذي يتفق مع قاعدة التصور الإسلامي الكبرى من أن الله (هو الأول والآخر والظاهر والباطن). . فهو - سبحانه - الموجود الحق الذي يستمد منه كل موجود وجوده، ويبدأ منه كل مبدوء بدأه. فباسمه إذن يكون كل ابتداء. وباسمه إذن تكون كل حركة وكل اتجاه.
ووصفه - سبحانه - في البدء بالرحمن الرحيم، يستغرق كل معاني الرحمة وحالاتها. . وهو المختص وحده باجتماع هاتين الصفتين، كما أنه المختص وحده بصفة الرحمن. فمن الجائز أن يوصف عبد من عباده بأنه رحيم، ولكن من الممتنع من الناحية الإيمانية أن يوصف عبد من عباده بأنه رحمن. ومن باب أولى أن تجتمع له الصفتان. . ومهما يختلف في معنى الصفتين: أيتهما تدل على مدى أوسع من الرحمة، فهذا الاختلاف ليس مما يعنينا تقصيه في هذه الظلال؛ إنما نخلص منه إلى استغراق هاتين الصفتين مجتمعتين لكل معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها.
وإذا كان البدء باسم الله وما ينطوي عليه من توحيد الله وأدب معه يمثل الكلية الأولى في التصور الإسلامي. . فإن استغراق معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها في صفتي الرحمن الرحيم يمثل الكلية الثانية في هذا التصور، ويقرر حقيقة العلاقة بين الله والعباد.
واللَّهُ أسْماكَ سُمًى مُبارَكًا... آثَرَكَ اللَّهُ بِهِ إيَثارَكا
والقَلْبُ بَعِيدٌ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، واشْتِقاقُهُ مِنَ السُّمُوِّ لِأنَّهُ رِفْعَةٌ لِلْمُسَمّى وشِعارٌ لَهُ. ومِنَ السِّمَةِ عِنْدَ الكُوفِيِّينَ، وأصْلُهُ وسَمَ حُذِفَتِ الواوُ وعُوِّضَتْ عَنْها هَمْزَةُ الوَصْلِ لِيَقِلَّ إعْلالُهُ. ورُدَّ بِأنَّ الهَمْزَةَ لَمْ تُعْهَدْ داخِلَةً عَلى ما حُذِفَ صَدْرُهُ في كَلامِهِمْ، ومِن لُغاتِهِ سِمٌ وسُمٌ قالَ:إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَلَيْكُما
وَإنْ أُرِيدَ بِهِ الصِّفَةُ، كَما هو رَأْيُ الشَّيْخِ أبِي الحَسَنِ الأشْعَرِيِّ، انْقَسَمَ انْقِسامَ الصِّفَةِ عِنْدَهُ: إلى ما هو نَفْسُ المُسَمّى، وإلى ما هو غَيْرُهُ، وإلى ما لَيْسَ هو ولا غَيْرَهُ. وإنَّما قالَ: بِسْمِ اللَّهِ ولَمْ يَقُلْ بِاللَّهِ، لِأنَّ التَّبَرُّكَ والِاسْتِعانَةَ بِذِكْرِ اسْمِهِ. أوْ لِلْفَرْقِ بَيْنَ اليَمِينِ والتَّيَمُّنِ. ولَمْ تُكْتَبِ الألِفُ عَلى ما هو وضْعُ الخَطِّ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ، وطُوِّلَتِ الباءُ عِوَضًا عَنْها.كَحِلْفَةٍ مِن أبِي رَباحٍ... ∗∗∗ يُشْهِدُها لاهَهُ الكُبارُ
وَقِيلَ عَلَمٌ لِذاتِهِ المَخْصُوصَةِ لِأنَّهُ يُوصَفُ ولا يُوصَفُ بِهِ، ولِأنَّهُ لا بُدَّ لَهُ مِنِ اسْمٍ تَجْرِي عَلَيْهِ صِفاتُهُ ولا يَصْلُحُ لَهُ مِمّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ سِواهُ، ولِأنَّهُ لَوْ كانَ وصْفًا لَمْ يَكُنْ قَوْلُ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، تَوْحِيدًا مِثْلَ: لا إلَهَ إلّا الرَّحْمَنُ، فَإنَّهُ لا يَمْنَعُ الشَّرِكَةَ، والأظْهَرُ أنَّهُ وصْفٌ في أصْلِهِ لَكِنَّهُ لَمّا غَلَبَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لا يُسْتَعْمَلُ في غَيْرِهِ وصارَ لَهُ كالعَلَمِ مِثْلَ: الثُّرَيّا والصَّعِقِ أُجْرِيَ مَجْراهُ في إجْراءِ الأوْصافِ عَلَيْهِ، وامْتِناعِ الوَصْفِ بِهِ، وعَدَمِ تَطَرُّقِ احْتِمالِ الشَّرِكَةِ إلَيْهِ، لِأنَّ ذاتَهُ مِن حَيْثُ هو بِلا اعْتِبارٍ أمْرٌ آخَرُ حَقِيقِيٌّ أوْ غَيْرُهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ لِلْبَشَرِ، فَلا يُمْكِنُ أنْ يُدَلَّ عَلَيْهِ بِلَفْظٍ، ولِأنَّهُ لَوْ دَلَّ عَلى مُجَرَّدِ ذاتِهِ المَخْصُوصَةِ لَما أفادَ ظاهِرُ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿وَهُوَ اللَّهُ في السَّماواتِ﴾ مَعْنًى صَحِيحًا، ولِأنَّ مَعْنى الِاشْتِقاقِ هو كَوْنُ أحَدِ اللَّفْظَيْنِ مُشارِكًا لِلْآخَرِ في المَعْنى والتَّرْكِيبِ، وهو حاصِلٌ بَيْنَهُ وبَيْنَ الأُصُولِ المَذْكُورَةِ، وقِيلَ أصْلُهُ لاها بِالسُّرْيانِيَّةِ فَعُرِّبَ بِحَذْفِ الألِفِ الأخِيرَةِ، وإدْخالِ اللّامِ عَلَيْهِ، وتَفْخِيمِ لامِهِ إذا انْفَتَحَ ما قَبْلَهُ أوِ انْضَمَّ سُنَّةً، وقِيلَ مُطْلَقًا، وحَذْفُ ألِفِهِ لَحْنٌ تُفْسُدُ بِهِ الصَّلاةُ، ولا يَنْعَقِدُ بِهِ صَرِيحُ اليَمِينِ، وقَدْ جاءَ لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ:ألا لا بارَكَ اللَّهُ في سُهَيْلٍ... ∗∗∗ إذا ما اللَّهُ بارَكَ في الرِّجالِ
وَ (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) اسْمانِ بُنِيا لِلْمُبالَغَةِ مِن رَحِمَ، كالغَضْبانِ مِن غَضِبَ، والعَلِيمِ مِن عَلِمَ، والرَّحْمَةُ في اللُّغَةِ: رِقَّةُ القَلْبِ، وانْعِطافٌ يَقْتَضِي التَّفَضُّلَ والإحْسانَ، ومِنهُ الرَّحِمُ لِانْعِطافِها عَلى ما فِيها. وأسْماءُ اللَّهِ تَعالى إنَّما تُؤْخَذُ بِاعْتِبارِ الغاياتِ الَّتِي هي أفْعالٌ دُونَ المَبادِي الَّتِي تَكُونُ انْفِعالاتٍ. و (الرَّحْمَنِ) أبْلَغُ مِنَ (الرَّحِيمِ)، لِأنَّ زِيادَةَ البِناءِ تَدُلُّ عَلى زِيادَةِ المَعْنى كَما في قَطَّعَ وقَطَعَ وكُبّارٍ وكِبارٍ، وذَلِكَ إنَّما يُؤْخَذُ تارَةً بِاعْتِبارِ الكَمِّيَّةِ، وأُخْرى بِاعْتِبارِ الكَيْفِيَّةِ، فَعَلى الأوَّلِ قِيلَ: يا رَحْمَنَ الدُّنْيا لِأنَّهُ يَعُمُّ المُؤْمِنَ والكافِرَ، ورَحِيمَ الآخِرَةِ لِأنَّهُ يَخُصُّ المُؤْمِنَ، وعَلى الثّانِي قِيلَ: يا رَحْمَنَ الدُّنْيا والآخِرَةِ، ورَحِيمَ الدُّنْيا، لِأنَّ النِّعَمَ الأُخْرَوِيَّةَ كُلُّها جِسامٌ، وأمّا النِّعَمُ الدُّنْيَوِيَّةُ فَجَلِيلَةٌ وحَقِيرَةٌ، وإنَّما قُدِّمَ والقِياسُ يَقْتَضِي التَّرَقِّيَ مِنَ الأدْنى إلى الأعْلى، لِتَقَدُّمِ رَحْمَةِ الدُّنْيا، ولِأنَّهُ صارَ كالعِلْمِ مِن حَيْثُ إنَّهُ لا يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهُ لِأنَّ مَعْناهُ المُنْعِمُ الحَقِيقِيُّ البالِغُ في الرَّحْمَةِ غايَتَها، وذَلِكَ لا يَصْدُقُ عَلى غَيْرِهِ لِأنَّ مَن عَداهُ فَهو مُسْتَعِيضٌ بِلُطْفِهِ وإنْعامِهِ يُرِيدُ بِهِ جَزِيلَ ثَوابٍ أوْ جَمِيلَ ثَناءٍ أوْ مَزِيجَ رِقَّةِ الجِنْسِيَّةِ أوْ حُبَّ المالِ عَنِ القَلْبِ، ثُمَّ إنَّهُ كالواسِطَةِ في ذَلِكَ لِأنَّ ذاتَ النِّعَمِ ووُجُودَها، والقُدْرَةَ عَلى إيصالِها، والدّاعِيَةَ الباعِثَةَ عَلَيْهِ، والتَّمَكُّنَ مِنَ الِانْتِفاعِ بِها، والقُوى الَّتِي بِها يَحْصُلُ الِانْتِفاعُ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن خَلْقِهِ لا يَقْدِرُ عَلَيْها أحَدٌ غَيْرُهُ. أوْ لِأنَّ الرَّحْمَنَ لَمّا دَلَّ عَلى جَلائِلِ النِّعَمِ وأُصُولِها ذَكَرَ الرَّحِيمَ لِيَتَناوَلَ ما خَرَجَ مِنها، فَيَكُونَ كالتَّتِمَّةِ والرَّدِيفِ لَهُ. أوْ لِلْمُحافَظَةِ عَلى رُءُوسِ الآيِ.واللَّهُ أسْماكَ سُمًى مُبارَكًا ∗∗∗ آثَرَكَ اللَّهُ بِهِ إيثارَكا
والقَلْبُ بَعِيدٌ؛ غَيْرُ مُطَّرِدٍ؛ واشْتِقاقُهُ مِنَ السُّمُوِّ لِأنَّهُ رَفْعٌ لِلْمُسَمّى؛ وتَنْوِيهٌ لَهُ؛ وعِنْدَ الكُوفِيِّينَ مِنَ السِّمَةِ؛ وأصْلُهُ "وَسْمٌ"؛ حُذِفَتِ الواوَ؛ وعَوَّضَتْ عَنْها هَمْزَةُ الوَصْلِ؛ لِيَقِلَّ إعْلالُها؛ ورُدَّ عَلَيْهِ بِأنَّ الهَمْزَةَ لَمْ تُعْهَدْ داخِلَةً عَلى ما حُذِفَ صَدْرُهُ في كَلامِهِمْ؛ ومِن لُغاتِهِمْ "سِمٌ"؛ و"سُمٌ"؛ قالَ:بِاسْمِ الَّذِي في كُلِّ سُورَةٍ سِمُهْ ∗∗∗
وَإنَّما لَمْ يَقُلْ: "بِاللَّهِ"؛ لِلْفَرْقِ بَيْنَ اليَمِينِ؛ والتَّيَمُّنِ؛ أوْ لِتَحْقِيقِ ما هو المَقْصُودُ بِالِاسْتِعانَةِ هَهُنا؛ فَإنَّها تَكُونُ تارَةً بِذاتِهِ (تَعالى) - وحَقِيقَتُها طَلَبُ المَعُونَةِ؛ عَلى إيقاعِ الفِعْلِ وإحْداثِهِ؛ أيْ "إفاضَةُ القُدْرَةِ"؛ المُفَسَّرَةُ عِنْدَ الأُصُولِيِّينَ مِن أصْحابِنا بِما يَتَمَكَّنُ بِهِ العَبْدُ مِن أداءِ ما لَزِمَهُ؛ المُنْقَسِمَةُ إلى مُمْكِنَةٍ؛ ومُيَسَّرَةٍ؛ وهي المَطْلُوبَةُ بِـ "إيّاكَ نَسْتَعِينُ" -؛ وتارَةً أُخْرى بِاسْمِهِ - عَزَّ وعَلا - وحَقِيقَتُها طَلَبُ المَعُونَةِ في كَوْنِ الفِعْلِ مُعْتَدًّا بِهِ شَرْعًا؛ فَإنَّهُ ما لَمْ يُصَدَّرْ بِاسْمِهِ (تَعالى) يَكُونُ بِمَنزِلَةِ المَعْدُومِ؛ ولَمّا كانَتْ كُلُّ واحِدَةٍ مِنَ الِاسْتِعانَتَيْنِ واقِعَةً؛ وجَبَ تَعْيِينُ المُرادِ بِذِكْرِ الِاسْمِ؛ وإلّا فالمُتَبادَرُ مِن قَوْلِنا "بِاللَّهِ"؛ عِنْدَ الإطْلاقِ؛ لا سِيَّما عِنْدَ الوَصْفِ بِـ "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" هي الِاسْتِعانَةُ الأُولى؛ إنْ قِيلَ: فَلْيُحْمَلِ الباءُ عَلى التَّبَرُّكِ؛ ولْيُسْتَغْنَ عَنْ ذِكْرِ الِاسْمِ لِما أنَّ التَّبَرُّكَ لا يَكُونُ إلّا بِهِ؛ قُلْنا: ذاكَ فَرْعُ كَوْنِ المُرادِ بِـ "اللَّهِ" هو الِاسْمُ؛ وهَلِ التَّشاجُرُ إلّا فِيهِ؟! فَلا بُدَّ مِن ذِكْرِ الِاسْمِ؛ لِيَنْقَطِعَ احْتِمالُ إرادَةِ المُسَمّى؛ ويَتَعَيَّنُ حَمْلُ الباءِ عَلى الِاسْتِعانَةِ الثّانِيَةِ؛ أوِ التَّبَرُّكِ؛ وإنَّما لَمْ يُكْتَبِ الألِفَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ؛ قالُوا: وطُوِّلَتِ الباءُ عِوَضًا عَنْها.ألا لا بارَكَ اللَّهُ في سُهَيْلٍ ∗∗∗ إذا ما اللَّهُ بارَكَ في الرِّجالِ
وَ ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾؛ صِفَتانِ مَبْنِيَّتانِ مِن "رَحِمَ"؛ بَعْدَ جَعْلِهِ لازِمًا بِمَنزِلَةِ الغَرائِزِ؛ بِنَقْلِهِ إلى "رَحُمَ"؛ بِالضَّمِّ؛ كَما هو المَشْهُورُ؛ وقَدْ قِيلَ: إنَّ "الرَّحِيمِ" لَيْسَ بِصِفَةٍ مُشَبَّهَةٍ؛ بَلْ هي صِيغَةُ مُبالَغَةٍ؛ نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ؛ في قَوْلِهِمْ: هو رَحِيمٌ فُلانًا؛ والرَّحْمَةُ في اللُّغَةِ: رِقَّةُ القَلْبِ؛ والِانْعِطافُ؛ ومِنهُ "الرَّحِمُ"؛ لِانْعِطافِها عَلى ما فِيها؛ والمُرادُ هَهُنا: التَّفَضُّلُ؛ والإحْسانُ؛ وإرادَتُهُما؛ بِطَرِيقِ إطْلاقِ اسْمِ السَّبَبِ - بِالنِّسْبَةِ إلَيْنا - عَلى مُسَبِّبِهِ البَعِيدِ؛ أوِ القَرِيبِ؛ فَإنَّ أسْماءَ اللَّهِ (تَعالى) تُؤْخَذُ بِاعْتِبارِ الغاياتِ الَّتِي هي أفْعالٌ؛ دُونَ المَبادِئِ الَّتِي هي انْفِعالاتٌ؛ والأوَّلُ مِنَ الصِّفاتِ الغالِبَةِ؛ حَيْثُ لَمْ يُطْلَقْ عَلى غَيْرِهِ (تَعالى)؛ وإنَّما امْتَنَعَ صَرْفُهُ إلْحاقًا لَهُ بِالأغْلَبِ في بابِهِ مِن غَيْرِ نَظَرٍ إلى الِاخْتِصاصِ العارِضِ؛ فَإنَّهُ كَما حُظِرَ وُجُودُ "فَعْلى"؛ حُظِرَ وُجُودُ "فَعْلانَةٌ"؛ فاعْتِبارُهُ يُوجِبُ اجْتِماعَ الصَّرْفِ؛ وعَدَمِهِ؛ فَلَزِمَ الرُّجُوعُ إلى أصْلِ هَذِهِ الكَلِمَةِ قَبْلَ الِاخْتِصاصِ بِأنْ تُقاسَ إلى نَظائِرِها مِن بابِ "فَعَلَ يَفْعَلُ"؛ فَإذا كانَ كُلُّها مَمْنُوعَةٌ مِنَ الصَّرْفِ - لِتَحَقُّقِ وُجُودِ "فَعْلى" فِيها - عُلِمَ أنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ أيْضًا في أصْلِها مِمّا تَحَقَّقَ فِيها وُجُودُ "فَعْلى"؛ فَتُمْنَعُ مِنَ الصَّرْفِ؛ وفِيهِ مِنَ المُبالَغَةِ ما لَيْسَ في "الرَّحِيمِ"؛ ولِذَلِكَ قِيلَ: يا رَحْمَنَ الدُّنْيا والآخِرَةِ؛ ورَحِيمَ الدُّنْيا؛ وتَقْدِيمُهُ - مَعَ كَوْنِ القِياسِ تَأْخِيرَهُ - رِعايَةٌ لِأُسْلُوبِ التَّرَقِّي إلى الأعْلى؛ كَما في قَوْلِهِمْ: فُلانٌ عالِمٌ نِحْرِيرٌ؛ وشُجاعٌ باسِلٌ؛ وجَوادٌ فَيّاضٌ؛ لِأنَّهُ بِاخْتِصاصِهِ بِهِ عَزَّ وجَلَّ صارَ حَقِيقًا بِأنْ يَكُونَ قَرِينًا لِلِاسْمِ الجَلِيلِ الخاصِّ بِهِ (تَعالى)؛ ولِأنَّ ما يَدُلُّ عَلى جَلائِلِ النِّعَمِ وعَظائِمِها وأُصُولِها أحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ مِمّا يَدُلُّ عَلى دَقائِقِها وفُرُوعِها؛ وإفْرادُ الوَصْفَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ بِالذِّكْرِ لِتَحْرِيكِ سِلْسِلَةِ الرَّحْمَةِ.بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (1)
سورة الفاتحة هي السورة الوحيدة التي أمر الإسلام أتباعه أن يقرءوها في كل صلاة. وفي جميع الركعات، وفي كل الأوقات، ولهذا أصبح حفظها ميسورا لكل مؤمن.
وهذه السورة على صغر حجمها، وقلة آياتها، قد اشتملت بوجه إجمالي على مقاصد الدين من توحيد، وتعبد، وأحكام، ووعد ووعيد.
ونرى من الخير قبل أن نبدأ في تفسيرها بالتفصيل، أن نمهد لذلك بالكلام عما يأتي:
أولا: متى نزلت سورة الفاتحة؟
للإجابة على هذا السؤال نقول: إن الرأي الراجح بين المحققين من العلماء أنها نزلت بمكة، بل هي من أوائل ما نزل من القرآن بمكة.
وقيل: إنها مدنية. وقيل: إنها نزلت مرتين مرة بمكة حين فرضت الصلاة ومرة بالمدينة حين حولت القبلة.
قال القرطبي: الأول أصح لقوله- تعالى- في سورة الحجر: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وسورة الحجر مكية بالإجماع. ولا خلاف في أن فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنه لم يكن في الإسلام قط صلاة بغير الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يدل على ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب . وهذا خبر عن الحكم لا عن الابتداء .
ثانيا: عدد آياتها: وهي سبع آيات لقوله- تعالى-: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ. قال العلماء: السبع المثاني هي الفاتحة.
وقال ابن كثير: هي سبع آيات بلا خلاف. وقال عمرو بن عبيد: هي ثماني آيات لأنه جعل إِيَّاكَ نَعْبُدُ آية. وقال حسين الجعفي: هي ست آيات وهذان القولان شاذان .
ثالثا: أسماؤها: لسورة الفاتحة أسماء كثيرة من أشهرها:
1- الفاتحة أو فاتحة الكتاب، وسميت بذلك لأنه تفتتح قراءة القرآن بها لفظا. وتفتتح بها الكتابة في المصحف خطا، وتفتتح بها الصلوات، وإن لم تكن هي أول ما نزل من القرآن. وقد اشتهرت بهذا الاسم في أيام النبوة.
وقد أصبح هذا الاسم علما بالغلبة لتلك الطائفة من الآيات التي مبدؤها الْحَمْدُ لِلَّهِ..
ونهايتها.. وَلَا الضَّالِّينَ.
2- أم القرآن أو الكتاب وسميت بذلك لاشتمالها إجمالا على المقاصد التي ذكرت فيه تفصيلا، أو لاشتمالها على ما فيه من الثناء على الله بما هو أهله، والتعبد بأمره ونهيه، وبيان وعده ووعيده، أو على جملة معانيه من الحكم النظرية، والأحكام العملية التي هي سلوك الصراط المستقيم، والاطلاع على معارج السعداء ومنازل الأشقياء.
قال ابن جرير: والعرب تسمى كل أمر جامع أمّا، وكل مقدم له توابع تتبعه أما فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ: أم الرأس . وتسمى لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها أما .
3- السبع المثاني جمع مثنى كفعلي اسم مكان. أو مثنى- بالتشديد- من التثنية على غير قياس. وسميت بذلك لأنها سبع آيات في الصلاة، أى تكرر فيها أخرج الإمام أحمد، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: هي أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي القرآن العظيم .
4- وتسمى- أيضا- سورة الحمد . 5- و الكنز . 6- و الواقية .
7- و الشفاء ، لحديث. هي الشفاء من كل داء.
8- و الكافية لأنها تكفي عن سواها ولا يكفى سواها عنها.
9- و الأساس . 10- و الرقية .
هذا، وقد ذكر القرطبي للفاتحة اثنى عشر اسما، كما ذكر السيوطي لها في كتابه الإتقان خمسة وعشرين اسما.
رابعا: فضلها: ورد في فضل سورة الفاتحة أحاديث كثيرة منها:
ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد بن المعلى- رضي الله عنه- قال:
كنت أصلي في المسجد، فدعاني النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم أجبه فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلّي.
فقال: ألم يقل الله: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ.
ثم قال لي: لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد . ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج، قلت: يا رسول الله. ألم تقل: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن. قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته .
وروى مسلّم والنسائي، عن ابن عباس، قال:
بينما جبريل قاعد عند النبي صلّى الله عليه وسلّم سمع نقيضا من فوقه- أي: صوتا- فرفع رأسه فقال:
هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم. فسلّم وقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما، ولم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته .
وروى مسلّم عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج (ثلاثا) : غير تمام فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: قال الله- تعالى-: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قال الله تعالى: أثنى علي عبدي. وإذا قال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال الله: مجدني عبدي. فإذا قال:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.
قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل .
وأخرج الإمام أحمد في مسنده، عن عبد الله بن جابر، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: ألا أخبرك بأخير سورة في القرآن؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: اقرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ حتى تختمها .
تلك هي بعض الأحاديث التي وردت في فضل هذه السورة الكريمة.
وقد ذكر العلماء أنه يسن للمسلّم قبل القراءة أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، استجابة لقوله- تعالى- فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ .
ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : ألتجئ إلى الله وأتحصن به، واستجير بجنابه من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي.
قال ابن كثير: والشيطان في لغة العرب كل متمرد من الجن والإنس والدواب وكل شيء.
وهو مشتق من شطن إذا بعد، فهو بعيد بطبعه عن طباع الشر، وبعيد بفسقه عن كل خير.
وقيل: مشتق من شاط لأنه مخلوق من نار. والأول أصح إذ عليه يدل كلام العرب، فهم:
يقولون تشيطن فلان إذا فعل أفعال الشيطان، ولو كان من شاط. لقالوا: تشيط، فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح .
والرجيم: فعيل بمعنى مفعول أي أنه مرجوم مطرود من رحمة الله ومن كل خير، وقيل:
رجيم بمعنى راجم لأنه يرجم الناس بالوساوس والشكوك.
قال بعض العلماء: وإنما خصت القراءة بطلب الاستعاذة مع أنه قد أمر بها على وجه العموم في جميع الشئون، لأن القرآن مصدر الهداية والشيطان مصدر الضلال، فهو يقف للإنسان بالمرصاد في هذا الشأن على وجه خاص، فيثير أمامه ألوانا من الشكوك فيما يقرأ، وفيما يفيد من قراءته، وفيما يقصد بها، فيفوت عليه الانتفاع بهدى الله وآياته، فعلمنا الله أن نتقي ذلك كله بهذه الاستعاذة التي هي في الواقع عنوان صدق، وتعبير حق، عن امتلاء قلب المؤمن بمعنى اللجوء إلى الله، وقوة عزيمته في طرد الوساوس والشكوك، واستقبال الهداية بقلب طاهر،وعقل واع، وإيمان ثابت .
قال القرطبي: وقد أجمع العلماء على أن التعوذ ليس من القرآن ولا آية منه، وهو قول القارئ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
والآن وبعد هذا التمهيد الموجز الذي تكلمنا فيه عن نزول سورة الفاتحة، وعن عدد آياتها، وعن أشهر أسمائها، وعن بعض الأحاديث التي وردت في فضلها نحب أن نبدأ في تفسير السورة الكريمة فنقول- وبالله التوفيق-:
{ بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }
الاسم: اللفظ الذى يدل على ذات أو معنى. وقد اختلف النحويون في اشتقاقه على وجهين، فقال البصريون: هو مشتق من السمو، وهو العلو والرفعة، فقيل: اسم، لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به.
وقال الكوفيون: إنه مشتق من السمة وهي العلامة، لأن الاسم علامة لمن وضع له، فأصل اسم على هذا وسم .
ويرى المحققون أن رأي البصريين أرجح، لأنه يقال في تصغير اسم سُمىَ، وفي جمعه أسماء، والتصغير والجمع يردان الأشياء إلى أصولها. ولو كان أصله وسم - كما قال الكوفيون - لقيل في جمعه: أوسام، وفي تصغيره وسيم.
ولفظ الجلالة وهو الله علم على ذات الخالق - عز وجل - تفرد به - سبحانه - ولا يطلق على غيره، ولا يشاركه فيه أحد.
قال القرطبي: قوله الله هذا الاسم أكبر أسمائه - سبحانه - وأجمعها حتى قال بعض العلماء: إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره، ولذلك لم يثن ولم يجمع: فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإِلهية، المنعوت بنعوت الربوبيه، المنفرد بالوجود الحقيقي، لا إله إلا هو - سبحانه -
و { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } صفتان مشتقتان من الرحمة. والرحمة في أصل اللغة: رقة في القلب تقتضي الإِحسان، وهذا المعنى لا يليق أن يكون وصفاً لله - تعالى-، ولذا فسرها بعض العلماء بإرادة الإِحسان. وفسرها آخرون بالإِحسان نفسه.
والموافق لمذهب السلف أن يقال: هي صفة قائمة بذاته - تعالى - لا نعرف حقيقتها، وإنما نعرف أثرها الذي هو الإِحسان.
وقد كثرت أقوال المفسرين في العلاقة بين هاتين الصفتين، فبعضهم يرى أن { ٱلرَّحْمـٰنِ } هو المنعم على جميع الخلق. وأن { ٱلرَّحِيمِ } هو المنعم على المؤمنين خاصه. ويرى آخرون أن { ٱلرَّحْمـٰنِ } هو المنعم بجلائل النعم، وأن { ٱلرَّحِيمِ } هو المنعم بدقائقها.
ويرى فريق ثالث أن الوصفين بمعنى واحد وأن الثاني منهما تأكيد للأول. والذى يراه المحققون من العلماء أن الصفتين ليستا بمعنى واحد، بل روعي فب كل منهما معنى لم يراع في الآخر، فالرحمن بمعنى عظيم الرحمة، لأن فعلان صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمته، ويلزم منه الدوام كغضبان وسكران. والرحيم بمعنى دائم الرحمة، لأن صيغته فعيل تستعمل في الصفات الدائمة ككريم وظريف. فكأنه قيل: العظيم الرحمة الدائمة.
أو أن { ٱلرَّحْمـٰنِ } صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة والإِحسان. و { ٱلرَّحِيمِ } صفة فعل تدل على وصول الرحمة والإِحسان وتعديهما إلى المنعم عليه.
ولعل مما يؤيد ذلك أن لفظ الرحمن لم يذكر في القرآن إلا مجرى عليه الصفات كما هو الشأنِ في أسماء الذات. قال - تعالى-:
{ ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } و
{ ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ }
{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ }
وهكذا...
أما لفظ الرحيم فقد كثر في القرآن استعماله وصفاً فعلياً، وجاء في الغالب بأسلوب التعدية والتعلق بالمنعم عليه. قال - تعالى -
{ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }
{ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً }
{ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً }
إلخ.
قال بعض العلماء وهذا الرأي في نظرنا هو أقوى الآراء، فإن تخصيص أحد الوصفين بدقائق النعم أو ببعض المنعم عليهم لا دليل عليه، كما أنه ليس مستساغاً أن يقال في القرآن: إن كلمة ذكرت بعد أخرى لمجرد تأكيد المعنى المستفاد منها .
والجار والمجرور بسم متعلق بمحذوف تقديره ابتدئ.
والمعنى: ابتدئ قراءتي متبركاً ومتيمناً باسم الله الذى هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، والذى رحمته وسعت كل شيء، وأتبرأ مما كان يفعله المشركون والضالون، من ابتدائهم قراءتهم وأفعالهم باسم اللات أو باسم العزى أو باسم غيرهما من الآلهة الباطلة.
هذا وقد أجمع العلماء على أن البسملة جزء آية من سورة النمل فى قوله - تعالى -
{ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }
ثم اختلفوا بعد ذلك في كونها آية مستقلة أنزلت للفصل بين السور مرة واحدة، أو هى آية من سورة الفاتحة ومن كل سورة ألخ.
فبعضهم يرى أن البسملة آية من الفاتحة ومن كل سورة، ومن حججهم أن السلف قد أثبتوها في المصحف مع الأمر بتجريد القرآن مما ليس منه، ولذا لم يكتبوا آمين . فثبت بهذا أن البسملة جزء من الفاتحة ومن كل سورة.
وبهذا الرأي قال ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وسعيد بن جبير والشافعي، وأحمد في أحد قوليه.
ويرى آخرون أن البسملة ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وقالوا: إنها آية فذة. من القرآن أنزلت للفصل والتبرك للابتداء بها، ومن حججهم أنها لو كانت آية من الفاتحة ومن كل سورة، لما اختلف الناس في ذلك، ولما اضطربت أقوالهم في كونها آية من كل سورة أو من الفاتحة فقط.
وكما وقع الخلاف بين العلماء في كونها آية مستقلة أو آية من كل سورة، فقد وقع الخلاف بينهم - أيضاً - في وجوب قراءتها فى الصلاة، وفي الجهر بها أو الإِسرار إذا قرئت.
وتحقيق القول في ذلك مرجعه إلى كتب الفقه، وإلى كتب التفسير التي عنيت بتفسير آيات الأحكام.