.. فهذا هو التوسط بين هاتين الفرقتين، فالجبرية أخذوا بنصوص إثبات المقادير السابقة فقط، ولم ينظروا في النصوص المثبتة لمشيئة العبد وتركوا الأدلة التي فيها إثبات عموم القدر والخلق، أهل السنة أخذوا بكل الأدلة، فصار قولهم هو القول الوسط، قال تعالى: ? وكذلك جعلناكم أمة وسطًا ?، والله أعلم.
... ج 166: أقول: اعلم - يا رعاك الله تعالى - أن الإجابة على هذا السؤال تختلف باختلاف الأقوال في باب القدر، فالجبرية الذين يسلبون العبد قدرته واختياره يقولون: إن العبد مسير مطلقًا، لا حيلة له في فعله ولا ينسب فعله إليه إلا مجازًا، وهذا القول خطأ؛ لأنه بني أصلاً على خطأ، وما بني على الضلال فهو ضلال.
... وأما القدرية الذين يثبتون للعبد القدرة الكاملة والمشيئة المستقلة فإنهم يقولون: العبد مخير مطلقًا، وهذا القول خطأ أيضًا؛ لأنه مبني على خطأ، وأما أهل السنة - رحمهم الله تعالى - فلأنهم يقولون بإثبات القدر السابق وبإثبات قدرة العبد ومشيئته فقد قالوا هنا: إن العبد مسير ومخير، لكن باعتبارين، فهو مسير باعتبار ما كتب وقدر له وسبق به العلم في الأزل، ومسير باعتبار دخول الفعل تحت قدرته واختياره، أي أننا إذا نظرنا إلى ما سبق وقدر وفرغ من كتابته قلنا: هو مسير، وإذا نظرنا إلى دخول الفعل تحت قدرته واختياره قلنا: هو مخير، فاجتمع فيه التسيير والتخيير.
... ونضرب لك مثلاً: لو أن إنسانًا سلك طريقًا من الطرق ثم جاءه مساران إما يمين وإما شمال فهو مخير باعتبار أنه إن أرد أن يذهب يمينًا فله ذلك، وإن أراد أن يذهب شمالاً فله ذلك، فهذا الفعل داخل تحت اختياره، فهو بهذا الاعتبار مخير، لكن اعلم أنه لن يذهب إلا إلى الجهة التي قدرها الله له وسبق بها علمه وكتابته فهو بهذا الاعتبار مسير.