.. والفرقة الثانية: القدرية المتأخرون، وهؤلاء هم أكثر القدرية في هذه الأزمنة، ويقولون: قد علم الله ما سيفعله العبد لكن العبد هو الذي يوجد فعله استقلالاً، فلا ينسب الفعل إلى الله خلقًا ولا إيجادًا، هذه هي خلاصة أقوال الفرق في هذه المسألة.
... فجاء أهل السنة والجماعة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى وأعلى منارهم في الدنيا والآخرة وثبت أحياءهم ورحم أمواتهم وجمعنا بهم في الجنة وحشرنا في زمرتهم فأخذوا الحق الذي مع كلا الفرقتين وتركوا الباطل؛ لأنهم أحق بالحق وهذه الفرق أحق بالباطل، فقال أهل السنة: كل شيء بقضاء الله وقدره فالله تعالى قدر المقادير قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكتب كل ذلك في اللوح المحفوظ وشاءه بمشيئته النافذة وقدرته الشاملة وخلق كل شيء فقدره تقديرًا، وجعل للعبادة قدرة على أفعالهم ومشيئة، وهو الخالق لقدرتهم وإرادتهم ومشيئتهم، فلا يشاءون إلا ما يشاء الله، وأن العباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم وأن العبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والمزكي والصائم.
... وبالجملة فأفعال العباد تنسب إلى الله تعالى خلقًا وإيجادًا، وتنسب إلى العبد فعلاً واكتسابًا، فأهل السنة - رحمهم الله تعالى - بهذا القول حققوا مذهب الوسطية كعادتهم وأخذوا بالأدلة كلها ولم يدعوا منها شيئًا ولم يخالفوا بهذا القول نصًا صحيحًا صريحًا، بل جاء قولهم متوافقًا مع الأدلة في هذا الباب كل الموافقة، وهذا من هداية الله تعالى لهم وتوفيقه وحسن امتنانه، فلا هم غلوا في إثبات القدر حتى سلبوا العبد قدرته واختياره كما تقوله الجبرية، ولا هم غلوا في إثبات قدرة العبد واختياره حتى جعلوه هو الخالق لفعله استقلالاً كما يقوله القدرية.