فهرس الكتاب
الصفحة 3694 من 4009

فينبغي أن يبدأ بترسيخ الإيمان في النفوس أولاً .. وتعليم الناس توحيد الله عز وجل، وتصفية نفوسهم وواقعهم من الشرك ومظاهره .. ثم ينطلق الدعاة والمحتسبون إلى ما دونه من الأمور والتي تليه أهمية .. وهكذا.

وهذا لا يعني أن تقتصر الدعوة في أول أمرها على التوحيد فحسب، بل يكون هو المنطلق والأساس والقاعدة التي يبني عليها الأمر بالتخلي عن سائر الانحرافات الأخرى.

وهذا جلي فيما حكاه القرآن من دعوة الرسل، إذ كانوا يدعون إلى عبادة الله وحده مع كونهم ينكرون جرائم أخرى قد تفشت في أقوامهم كاللواط، ونقص المكيال والميزان، وقطع الطريق، وما إلى ذلك من الانحرافات المتنوعة.

وإنما آفة هذه الحكمة التعجل الذي غالباً ما يكون ناتجاً عن ضعف العلم والبصيرة، ولذا جاء في الحديث: (( التأني من الله والعجلة من الشيطان ) ) [1] .

وكما في الحديث الآخر: (( التؤدة والاقتصاد والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة ) ) [2] .

ثم إن هذا المنهج كما يطبق في تغيير واقع المجتمعات فهو كذلك يطبق في دعوة الأفراد على حد سواء.

ولشيخ الإسلام -رحمه الله- كلام نفيس جداً في هذا المقام حيث يقول: ( .. فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما، لم يكن الآخر في هذه الحال واجباً، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجباً في الحقيقة، وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً في الحقيقة، وإن سمى ذلك ترك واجب وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر، ويقال في مثل هذا: ترك الواجب لعذر، وفعل المحرم للمصلحة الراجحة، أو للضرورة، أو لدفع ما هو أحرم، وهذا كما يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها إنه صلاها في غير الوقت المطلق قضاء.

وهذا باب التعارض -باب واسع جداً لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة، وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة.

فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن إما لجهله وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه، فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر. فالعالم في البيان والبلاغ كذلك قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً إلى بيانها.

يبين حقيقة الحال هذه أن الله يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15] .

(1) رواه البيهقي (10/ 104) (20767) ، وأبو يعلى في (( المسند ) ) (7/ 247) (4256) . من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال ابن القيم في (( أعلام الموقعين ) ) (2/ 120) : إسناده جيد، وقال الهيثمي في (( مجمع الزوائد ) ) (8/ 22) : رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح، وقال الألباني في (( سلسلة الأحاديث الصحيحة ) ) (1795) : إسناده حسن رجاله ثقات.

(2) رواه الترمذي (2010) ، وعبد بن حميد في (( المسند ) ) (512) ، والطبراني في (( المعجم الأوسط ) ) (1/ 303) (1017) ، والخطيب في (( تاريخ بغداد ) ) (3/ 66) . من حديث عبد الله بن سرجس رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقال ابن مفلح في (( الآداب الشرعية ) ) (1/ 446) : إسناده جيد، وقال المناوي في (( تخريج أحاديث المصابيح ) ) (4/ 334) : رجاله موثقون، وحسنه الألباني في (( صحيح سنن الترمذي ) ).

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام