والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلاً. وهذه أوقات الفترات، فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئاً فشيئاً بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئاً فشيئاً، ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بالمستطاع.
كذلك المجدد لدينه، والمحيي لسنته، لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها؛ وكذلك التائب من الذنوب، والمتعلم، والمسترشد، لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان كما عفى الرسول عما عفى عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط، فتدبر هذا الأصل فإنه نافع.
ومن هنا يتبين سقوط كثير من الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم، فإن العجز مسقط للأمر والنهي، وإن كان واجباً في الأصل) [1] ا. هـ.
فإذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين منكر كبير ومنكرات دونه أنكرنا أولاً المنكر الأكبر كأمور الاعتقاد، لأنها تقدم على ما دونها من الانحرافات .. لكن إن أمكن إنكار المنكر الأقل دون الأكبر لعذر صحيح يتعلق بالمحتسب، أو كانت المصلحة في ذلك عائدة على الحسبة نفسها أو المحتسب عليه .. فإنه ينكر الأدون في هذه الحالة؛ كالسلطان الذي يحكم القوانين ويلبس الذهب والحرير، أو يأكل الربا، أو يقامر، ولم يمكن للمحتسب أن ينكر عليه تحكيم القوانين خوفاً على نفسه أو خوفاً على دعوته فإنه إن أمكنه إنكار ما دون ذلك فعل؛ وكمن يسافر إلى بلد الكفار ويزني بالكافرات ويشرب الخمر هناك مع كونه قد حلق رأسه قزعاً .. فلم يمكن إنكار السفر وفعل الفاحشة عليه لمصلحة تتعلق بالمسلمين، كإظهاره الشراب بين أظهرهم، وزناه في ديارهم ونسائهم!! فينكر حينئذ الأدون إن أمكن، وهكذا.
وقد يقدم المحتسب إنكار المنكر الأقل لمصلحة تقتضي ذلك في بعض الأحيان، كمن رأيته يريد الزنا أو شرب الخمر وأنت تعلم أن الرجل لا يزكي ماله، أو يتصف بمنكر هو أعظم من الزنا والشرب للمسكر دون الشرك بالله .. ففي هذه الحال يقدم إنكار الزنا أو الشرب لإبعاده عنه قبل الوقوع فيه فالدفع أسهل من الرفع.
ثم إن الطاعة أو المعصية تتعاظم باعتبارات عدة:
الأول: باعتبار الفاعل. فإذا كان الذي يقدم على المعصية ممن يقتدى به فإن هذا أخطر من إقدام الأغمار عليها. ولهذا كانت زلة العالم زلة العالم.
الثاني: باعتبار الزمان. فليس الذي يشرب المسكر في نهار رمضان كالذي يشربه في غيره وهكذا.
الثالث: باعتبار المكان. إذ المعصية أو الطاعة في الحرم أعظم منها خارجه.
(1) (( مجموع الفتاوى ) ) (20/ 57 - 61) .