المطلب الأول: الرفق [1]
لابد أن يكون المحتسب رفيقاً في احتسابه ما أمكنه ذلك، لأن هذه الصفة الطيبة -أعني الرفق- هي من الصفات المحببة إلى الخلق كما يحبها الخالق جل وعلا، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ) ) [2] كما قال صلى الله عليه وسلم (( إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه ) ) [3] وعن جرير رضي الله عنه مرفوعاً: (( من يحرم الرفق يحرم الخير كله ) ) [4] .
ثم إن هذه الصفة محببة إلى الخلق، لأن الإنسان بطبعه وفطرته يحب الإحسان ويكره الإساءة .. وهو يقبل من طريق الرفق ما لا يقبل من طريق العنف والشدة، بل إن الإنسان -غالباً- إذا أمر بعنف فإنه تأخذه العزة بالإثم فيأنف ويصر على خطئه عناداً .. وهو بطبعه نفور من أهل الفظاظة والغلظة .. ومصداق ذلك قوله تعالى: وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] ولذا أرشده إلى المدخل إلى نفوسهم وقلوبهم وهو ضد ذلك الوصف الرديء .. فقال فَاعْفُ عَنْهُمْ وهذا لا شك إذا كان المقام يحتمل ذلك .. ثم أعقب ذلك بقوله: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران: 159] فاتصاف الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بالشفقة والرحمة والخوف على مصلحة المأمور أمر ضروري لقبول دعوته.
وهكذا كان حال النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى ممتناً ببعثته: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 128] بل كان -صلوات الله وسلامه عليه- يشتد عليه إعراض قومه، ويتألم لذلك، ولهذا قال تعالى له مهوناً عليه: وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 127] .
وقال: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف: 6] وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللهَ شَيْئاً [آل عمران: 176] يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة: 41] .
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ [الأنعام: 33] وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ [يونس: 65] وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ [لقمان: 23] .
هذا وإن الاحتساب المثمر هو الذي يجعل المحتسب عليه ينقاد لما يطلب منه من فعل أو ترك .. فإن رافق ذلك وصاحبه الاقتناع بما طلب منه كان ذلك أكمل وأفضل حتى يكون له وازع من نفسه وقلبه بضرورة فعل هذا الأمر أو تركه [5] .
(1) انظر: (( المنهاج للحليمي ) ) (2/ 218) ، و (( الحدائق ) )لابن الجوزي (2/ 428 - 429) . و (( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) )لابن تيمية (29 - 31) ، و (( جامع العلوم والحكم ) ) (ص: 285) (( معالم القربة ) ) (ص: 14) (( الدرر السنية ) ) (7/ 25، 32) ، و (( أضواء البيان ) ) (1/ 174) ، و (( أصول الدعوة ) ) (ص: 465) .
(2) رواه مسلم (2593) . من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) رواه مسلم (2594) . من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4) رواه مسلم (2592) ، وأبو داود (4809) واللفظ له، وابن ماجه (2988) ، وأحمد (4/ 366) (19272) . من حديث جرير رضي الله عنه.
(5) انظر: (( أصول الدعوة ) ) (ص: 176، 188) .