لا شك أن ضابط الاستطاعة ليس له ميزان دقيق، فالأشخاص يختلفون، فهذا يقدر على أمور لا يستطيعها شخص آخر، وهذا قد أعطاه الله قوة في العلم والجسم وآخر قد فقدها أو أحدهما. فالضابط الحقيقي متروك لضمير الشخص نفسه. ولكن مع ذلك ينبغي أن يكون هناك حد أدنى يقف عنده الناس حتى لا يكون مبدأ عدم القدرة وسيلة لترك الأمر والنهي فهناك أمور يجب أن لا تصد الناس عن الأمر والنهي. فمثلاً الخوف من اللوم أو السب والشتم ونحو ذلك. فلا يعذر أحد من الناس بسبب ذلك لأنه بسيط وهو في ذات الله تعالى. ولقد أثنى الله سبحانه وتعالى على الذين يجاهدون في سبيله ولا يخافون فيه لومة لائم.
يقول تعالى: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ [المائدة: 54] .
يقول ابن كثير -رحمه الله-: أي لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله تعالى وإقامة الحدود وقتال أعدائه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يردهم عن ذلك راد، ولا يصدهم عنه صاد، ولا يحيك فيهم لوم لائم ولا عذل عاذل [1] .
وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: (( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن نقول الحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم ) ) [2] .
وقال القرطبي: (أجمع المسلمون فيما ذكر ابن عبد البر أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى، فإن ذلك لا ينبغي أن يمنعه من تغييره) [3] .
ويقول الغزالي: ولو تركت الحسبة بلوم لائم أو باغتياب فاسق أو شتمه أو تعنيفه أو سقوط المنزلة عن قلب أمثاله لم يكن للحسبة وجوب أصلاً إذ لا تنفك الحسبة عنه [4] .
فينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن لا يلتفت لهذه الأمور الصغيرة فإنها تعد قشوراً بسيطة تصيبه في ذات الله وهو مع ذلك لا يعتبر قدم شيئاً يذكر، وكان الأولى له والأفضل أن يقدم نفسه رخيصة في سبيل الله.
ويجب أن يعرف المسلم أن عذر الشارع في عدم النهي عن المنكر إذا خاف الإنسان على نفسه رخصة. وأما طريقة العزيمة والفضل فهو أن يقدم الإنسان نفسه وما يملك من أجل إعلاء كلمة الله تعالى، دون أن يتراجع عن كلمة الحق مهما كلفته؛ لأن الشارع رغب في ذلك.
وروي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إنه تصيب أمتي في آخر الزمان من سلطانهم شدائد لا ينجو منه إلا رجل عرف دين الله فجاهد عليه بلسانه ويده وقلبه فذلك الذي سبقت له السوابق، ورجل عرف دين الله فصدق به، ورجل عرف دين الله فسكت عليه، فإن رأى من يعمل الخير أحبه عليه وإن رأى من يعمل بباطل أبغضه عليه فذلك ينجو على إبطانه كله ) ) [5] .
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ) )أو (( أمير جائر ) ) [6] .
(1) (( تفسير القرآن العظيم ) ) (2/ 70) دار الفكر.
(2) رواه البخاري (7199) ، ومسلم (1840) .
(3) (( الجامع لأحكام القرآن ) )م2 (4/ 48) .
(4) (( إحياء علوم الدين ) )م3 (7/ 33) باختصار. دار الفكر.
(5) رواه أبو نعيم في (( أخبار أصبهان ) ) (1/ 81) ، والبيهقي في (( شعب الإيمان ) ) (6/ 95) . قال ابن رجب في (( جامع العلوم والحكم ) ) (2/ 244) : غريب وإسناده منقطع، وضعفه الألباني في (( سلسلة الأحاديث الضعيفة ) ) (6725) .
(6) رواه أبو داود (4344) ، والترمذي (2174) ، وابن ماجه (3256) ، وأحمد (3/ 19) (11159) . والحديث سكت عنه أبو داود، وحسن إسناده ابن الملقن في (( شرح صحيح البخاري ) ) (19/ 180) ، والعيني في (( عمدة القاري ) ) (15/ 228) ، وقال ابن حجر في (( الأمالي المطلقة ) ) (ص: 169) : حسن، وصححه الألباني في (( صحيح سنن ابن ماجه ) ).