فهرس الكتاب
الصفحة 3692 من 4009

المطلب الرابع: البدء بالأهم وتقديمه على غيره [1]

وأهمية التدرج في ذلك حسب ما تقتضيه المصلحة.

قال بعضهم:

إن اللبيب إذا بدا من جسمه ... مرضان مختلفان داوى الأخطر

إن معرفة الأولويات ومنازل الأعمال وما يترتب عليها فعلاً أو تركاً أمر ضروري للمحتسب في أزمنة الفترات، وتفشي وظهور المنكرات، واضمحلال الديانة في قلوب الناس وواقعهم .. مثل هذا الزمان الذي نعيشه اليوم.

ولقد دل على ثبوت هذا المبدأ وشرعيته الكتاب والسنة، وعليه جرى عمل سلف الأمة.

وقد قص الله تعالى علينا قصص الأنبياء وأخبارهم مع أقوامهم فكان كل واحد منهم يخاطب قومه من حين بعثته إليهم بقوله: اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 59] .

ومن المعلوم أنهم معصومون في أمور البلاغ والتشريع .. فطرائقهم وهديهم ومنهجهم كل ذلك معصوم ومحفوظ من وقوع الخلل في حال تبيينه للناس وتبليغه لهم عن طريق هؤلاء الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-.

ومن المعروف أنهم لم يكونوا يبدؤون دعوتهم لأقوامهم بالحديث عن تحريم السكر أو الزنا أو نحو ذلك من الأمور .. وإنما كانوا يقررون لهم التوحيد أولاً ويجعلونه منطلقاً لدعوتهم .. ثم ينتقلون معه إلى معالجة كبرى المشكلات التي يعايشها ذلك المجتمع الذي يبعثون فيه .. وبعد ذلك ينتقلون إلى ما دونها وهكذا.

فهذا هو سبيلهم من أولهم إلى خاتمهم -صلى الله عليه وسلم- الذي أنزل عليه قوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ... [يوسف: 108] وأنزل عليه قول تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] .

فقد كان هذا المنهج هو المنهج الذي سار عليه -صلوات الله وسلامه عليه- في دعوته .. روي البخاري بسنده عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (( إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر. لقالوا: لا ندع الخمر أبداً. ولو نزل: لا تزنوا. لقالوا: لا ندع الزنا أبداً.

لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر: 46] وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده. )) [2] .

وأخرج ابن بطة بسند جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح: 4] : إن الله بعث نبيه -صلى الله عليه وسلم- بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم دينهم فقال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... [المائدة: 3] .

قال ابن عباس: وكان المشركون والمسلمون يحجون جميعاً فلما نزلت (براءة) نفي المشركون عن البيت وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، وكان ذلك في تمام النعمة، وكمال الدين فأنزل الله تعالى الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ [المائدة: 3] إلى قوله الإِسْلاَمَ دِينًا [3] .

(1) انظر: (( مجموع الفتاوى ) ) (20/ 58 - 61) .

(2) رواه البخاري (4993) . من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3) (( الإبانة الكبرى ) ) (ص: 815) .

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام