فهرس الكتاب
الصفحة 3693 من 4009

وبهذا التدرج كان يوصي صلى الله عليه وسلم رسله ويأمرهم إذا بعثهم للقيام بالدعوة .. كما أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: (( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله تعالى قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله تعالى قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم ) ) [1] الحديث.

هذا وقد تمثل هذا المنهج في دعوة الأئمة من بعده صلى الله عليه وسلم .. نقل ابن الجوزي وغيره أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دخل على أبيه وهو في قائلته فأيقظه وقال: ما يؤمنك أن تؤتى في منامك، وقد رفعت إليك مظالم لم تقض حق الله فيها. قال: يا بني إن نفسي مطيتي، إن لم أرفق بها لم تبلغني؛ إني لو أتعبت نفسي وأعواني لم يك ذلك إلا قليلاً حتى أسقط ويسقطوا؛ وإني لأحتسب في نومتي من الأجر مثل الذي أحتسب في يقظتي. إن الله جل ثناؤه لو أراد أن ينزل القرآن جملة لأنزله، ولكنه أنزله الآية والآيتين، حتى استكن الإيمان في قلوبهم. ثم قال: يا بني أما مما أنا فيه أمر هو أهم إلى من أهل بيتك، هم أهل العدة والعدد، وقبلهم ما قبلهم، فلئن جمعت ذلك في يوم واحد خشيت انتشاره علي، ولكني انصف من الرجل والاثنين فيبلغ ذلك من وراءه فيكون أنجع له، فإن يرد الله تمام هذا الأمر أتمه [2] .

فهذه حكمة بالغة لا يدركها حق إدراكها ويعمل بها كما يطلب إلا مجدد أو محتذ حذوه.

إن الفساد الذي ينخر في المجتمعات الإسلامية اليوم إنما هو حصيلة قرون متطاولة .. وقد عمل على تقريره وإذاعته وتعميق جذوره جبابرة ودهاقنة للفساد متتابعون! تباعدت أقطارهم واتحدت أهدافهم .. ومثل ذا لا يمكن أن يغير بيوم ولا سنة! وإنما يحتاج إلى مدة كافية تماماً يروض فيها الناس على التوحيد والإيمان والصدق بعد أن سفت السوافي على هذه الأمور العظام، وكادت أن تأفل من عالم الواقع ..

إن حالاً كتلك لا يمكن أن تغير بجرة قلم كم يظن البعض .. فتجده يعمل جاهداً ومسخراً دعوته للوصول إلى ذلك القلم بأقرب طريق!

إن هذا المسلك مغاير لمنهج الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- في دعوتهم.

أخرج البيهقي عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: (لقد عشنا برهة من دهرنا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد -صلى الله عليه وسلم- فنتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يوقف عنده منها كما تعلمون أنتم اليوم القرآن؛ ثم لقد رأيت اليوم رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه فينثره نثر الدقل) [3] .

وأخرج ابن بطة بسنده أيضاً عن جندب -رضي الله عنه- قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غلماناً حزاورة فنتعلم الإيمان قبل أن نتعلم القرآن فازددنا إيماناً) [4] .

(1) رواه البخاري (1496) .

(2) (( مناقب عمر بن عبد العزيز ) )لابن الجوزي (ص: 127) .

(3) رواه البيهقي (3/ 120) (5073) . والحديث رواه الطحاوي في (( مشكل الآثار ) ) (4/ 85) ، وابن منده في (( الإيمان ) ) (106) ، والحاكم في (( المستدرك ) ) (1/ 91) . قال ابن منده: إسناده صحيح على رسم مسلم والجماعة إلا البخاري، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولا أعرف له علة ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال العراقي في (( تخريج الإحياء ) ) (1/ 76) : أخرجه الحاكم وصححه على شرط الشيخين والبيهقي.

(4) (( الإبانة الكبرى ) )رقم (1136) .

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام