الرابع: باعتبار ما يترتب على العمل من الآثار [1] . ولهذا كانت البدع أشد ضرراً وخطراً من المعاصي الأخرى الواردة من باب الشهوات. وكذلك المعصية المتعدية أعظم من القاصرة على الفاعل.
ومن المعلوم أن المنكرات أقسام: فمنها ما يكون ظلماً للناس، كالوقوع في أعراضهم، أو سفك دمائهم، أو نهب أموالهم .. ومنها ما يكون ظلماً للنفس، كالشرب للخمر أو المخدر وغيرهما من المعاصي التي لا يتعدى ضررها على غير فاعلها. والقسم الثالث وهو ما كان يجمع بين هذا وذاك كمن يغتصب النساء، ويزني بهن، أو يأكل الربا .. وهذا النوع الأخير هو شر تلك الأنواع وأخطرها، ويليه الأول، وأقلها الثاني .. وأنت إذا تأملت النوع الأول منها رأيت أن فيه ظلماً للنفس في حقيقة الأمر وباطنه؛ فإذا رأينا من يجمع بين بعض هذه الأنواع فينبغي أن نقدم الإنكار للأعظم.
هذا واعلم أن جنس فعل الواجبات أعظم وأعلى من جنس ترك المحرمات، فيكون الإنسان مستحقاً للذم والإثم حال كونه تاركاً واجباً من الواجبات أكثر من استحقاقه ذلك عندما يكون مرتكباً لشيء من المنهيات؛ ولهذا كانت عقوبة إبليس لما امتنع من الامتثال للأمر الطرد والإبعاد من رحمة الله .. بينما كانت عقوبة آدم -عليه السلام- لما كان ذنبه من قبل ارتكاب المحظورات الإخراج من الجنة وإهباطه إلى الأرض.
وبهذا تعلم أنه إذا اجتمع في شخص ترك واجب وفعل محرم قدم الإنكار على ترك الواجب أولاً .. هذا من حيث الجملة، وإن كان الحكم قد يختلف في بعض الصور والحالات، كما إذا كان ترك الواجب العين أقل جرماً وإثماً من ارتكاب المحرم المعين، كمن ترك الصلاة مع الجماعة وفي نفس الوقت هو مقدم على القتل أو ضرب أحد والديه .. فيقدم في هذه الحال إنكار ارتكاب المحرم لشناعته وعظمه.
ومما ينبغي معرفته أيضاً أن المنكرات الظاهرة تقدم في الإنكار على المنكرات المستترة، لأن العقوبة في الظاهر تعم .. ثم إنها تجرئ أصحاب المنكر وتغري غيرهم به .. بل تنقلهم إلى أعظم منه .. ثم إن هذا يكون سبباً لظهور المنكر المستتر!!
وهذا مشاهد في واقعنا .. فنحن نشاهد أن السفور يبدأ من ظهور العري في التلفاز والمجلات .. من ناحية .. ومن العبث بالحجاب، تارة برفع العباءة أو تقصيرها، أو ظهور ما يسمى بالنقاب الذي تخرج المرأة فيه عينيها ثم يتدرج الأمر حتى يصل إلى إظهار الوجه، ثم الساقين والذراعين وهكذا .. فحينما نسكت عن إنكار الانحراف الأول فإنه يزداد ويتعاظم وينتشر .. ومن أمثلة ذلك أن التدخين كان أمراً مستهجناً يعزر فاعله بالجلد أربعين سوطاً في بعض الجهات .. وقد يهجر .. ثم تدرج الأمر حتى سكت الكثير عنه .. فصار أمراً مألوفاً ثم وصل الأمر بالبعض إلى شرب الخمر .. ثم جاءت المخدرات فأنست الناس ذلك كله!! الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت - ص 206
(1) انظر كلاماً مفيداً حول هذه القضية في (( الموافقات ) ) (2/ 298) .