المطلب الثاني: البدء بالنفس [1]
قدمنا لك فيما سبق أن العدالة ليست بشرط للقيام بهذا العمل .. وإلا حكمنا بإبطال مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد قيل:
إذا لم يعظ الناس من هو مذنب ... فمن يعظ الناس بعد محمد
وليس معنى عدم اشتراط العدالة من أجل القيام بتلك المهمة أن لا يلام من فرط فيها فارتكب محارم الله!!
بل القبح للذنب في حقه أعظم وأشد من غيره. ولذا كانت عقوبته في الآخرة من نوع خاص في جهنم! .. إنه يدور في أمعائه كما يدور الحمار في الرحى .. كما جاء ذلك صريحاً في حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنه- مرفوعاً: (( يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان: ما شأنك؟ أليس كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآيته ) ) [2] .
ومن لطيف المناسبة هنا أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر وهو غير ممتثل لما يأمر به ولا تارك لما ينهى عنه قد وقع تشبيهه في هذا الحديث بالحمار! كما أن الله عز وجل شبه حال المعرضين عن الأمر والنهي والموعظة والتذكير بالحمار أيضاً فقال: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ [المدثر: 50 - 51] فما أسوأ الحالين وما أحرى المسلم بالابتعاد عنهما!!
قال السفاريني -رحمه الله-:
ومن نهى عما له قد ارتكب ... فقد أتى مما به يقضي العجب
فلو بدا بنفسه فذادها ... عن غيها لكان قد أفادها
وقال أيضاً: (إنما يصح التأديب بالسوط من صحيح البدن، ثابت القلب، قوي الذراعين، فيؤلم ضربه فيردع، فأما من هو سقيم البدن لا قوة له، فماذا ينفع تأديبه بالضرب؟ والنفوس مجبولة على عدم الانتفاع بكلام من لا يعمل بعلمه ولا ينتفع به) [3] ا. هـ.
وإنما كان التشنيع على هذا الصنف من الناس .. لكونهم عالمين بوجوب ما تركوا، أو بتحريم ما اقترفوا .. ولا أدل على علمهم بذلك من أمرهم به أو نهيهم عنه!!
وقد سبق أن قدمنا لك بعض النصوص الدالة على ذم هؤلاء كقوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [البقرة: 44] .
وقوله: كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 3] بعد أن وبخهم بقوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 2] ؟
فمن أجل ذلك كله قال شعيب -عليه السلام- لقومه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود: 88] .
(1) (( الإحياء ) ) (2/ 328) ، (( القرطبي ) ) (1/ 368) ، (( تنبيه الغافلين ) ) (ص: 110 - 118) ، (( الفتح المبين ) ) (ص: 245) ، وانظر (( حاشية المدابغي ) ) (ص: 245) ، وانظر (( غذاء الألباب ) ) (1/ 215 - 219) ، (( لوامع الأنوار البهية ) ) (2/ 430 - 433) ، (( أضواء البيان ) ) (1/ 172) .
(2) رواه البخاري (3267) ، ومسلم (2989) .
(3) (( لوامع الأنوار البهية ) ) (2/ 43) .