فإذا امتثل الآمر ما يأمر به، وانتهى عما ينهى عنه، قبل الناس دعوته وانشرحت صدورهم بسماع كلامه .. أما إن اختل ذلك فإنه يكون داعياً لهم بلسانه، راداً ومنفراً لهم بحاله، وقد تنبه لهذا المعنى عمر بن عبد العزيز رحمه الله .. فحينما ولي الخلافة وأراد أن يرد المظالم إلى أصحابها .. بدأ بنفسه وأهل بيته أولاً .. فوقف على المنبر وقال: أما بعد: فإن هؤلاء أعطونا عطايا ما كان ينبغي لنا أن نأخذها وما كان لهم أن يعطوناها، وإني قد رأيت ذلك ليس علي فيه دون الله محاسب، وإني قد بدأت بنفسي وأهل بيتي، اقرأ يا مزاحم. فجعل يقرأ كتاباً كتاباً ثم يأخذه عمر وبيده الجلم فيقطعه حتى نودي بالظهر [1] .
وإن من خبر الناس وعرف حالهم علم أنهم ينظرون لمن يأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر نظرة فاحصة تختلف عن نظرهم لغيره من سائر الناس .. فيرقبون حاله ومقاله وجميع تصرفاته .. كما يحصون عليه الكبير والقطمير .. بل وتضخم أخطاؤه في كثير من الأوقات.
وإذا عثروا على خطأ له فالويل له ولمن كان على شاكلته!!
فتقصيره -عندهم- لا يقف عليه وحده بل يتعداه إلى كل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر! ثم يصير ذلك التقصير الذي شاهدوه عصاً في أيديهم يقومون بإشهارها متى ما يحلو لهم ذلك!!
فالحاصل أن المحتسب يلزمه أن يكون في موضع الأسوة والقدوة الحسنة لا أن يدعو الناس باللسان ويصرفهم بالعمل والسلوك!
وما أحسن ما قيل:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
وقول الآخر:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي الناس وهو سقيم
وقال ثالث:
فإنك إذا ما تأت ما أنت آمر ... به تُلف من إياه تأمر آتياً
وقال منصور الفقيه:
إن قوماً يأمرونا ... بالذي لا يفعلونا
لمجانين وإن هم ... لم يكونوا يصرعونا
وقال أبو العتاهية:
وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى ... وريح الخطايا من ثيابك تسطع
@ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت - ص 200
(1) (( سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز ) )لابن الجوزي (ص: 127) .