قال رضي اللَّه عنه: في كتابه (الاقتصاد في الاعتقاد) [الدعوى الثالثة] ندّعي أن اللَّه تعالى منزه عن أن يوصف بالاستقرار على العرش فإن كل متمكن على جسم ومستقرّ عليه مقدورٌ عليه لا محالة، فإنه إِما أن يكون أكبر منه أو أصغر، أو مساوياً وكُلّ ذلك لا يخلو عن التقدير، وأنه لو جاز أن يَماسه جسم من هذه الجهة لجاز أن يَماسه من سائر الجهات فيصير محاطاً به، والخصم لا يعتقد ذلك بحال، وهو لازم على مذهبه بالضرورة، وعلى الجملة لا يستقر على الجسم إلا جسم، ولا يحل فيه إلا عرض، وقد بان أنه تعالى ليس بجسم، ولا عرض، فلا يحتاج إلى إقران هذه الدعوى بإقامة البرهان. فإِن قيل ما معنى قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .
وما معنى قوله عليه الصلاة والسلام:"يَنزلُ اللَّه كلَّ ليلَةٍ إلى سماءِ الدّنيَا".
قلنا: الكلام على الظواهر الواردة في هذا الباب طويل ولكن نذكر منهجاً في هذين الظاهرين يُرشد إِلى ما عداه، وهو أنا نقول: الناس في هذا فريقان، عوام وعلماء. والذي نراه اللائق بعوام الخلق ألا يُخاض بهم في هذه التأويلات، بل ننزع عن عقائدهم كل ما يوجب التشبه، ويدلّ على الحدوث. وتُحقق عندهم أنه موجود. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} .
وإِذا سألوا عن معاني هذه الآيات زُجروا عنها، وقيل ليس هذا بِعُشِّكُمْ فادْرُجو، فلكل علم رجال، ويُجاب بما أجاب به مالك بن أنس رضي اللَّه عنه حيث سئل عن الاستواء ... وهذا لأن عقول العوام لا تتسع لقبول المعقولات. ولا إِحاطتهم باللّغات، ولا تتّسع لفهم توسيعات العرب في الاستعارات.
وأما العلماء، فاللائق بهم تعريف ذلك وتفهمه، ولستُ أقول: إِن ذلك فرض عين إِذ لم يرد به تكليف بل التكليف التنزيه عن كل تشبيه بغيره"أهـ."