قال الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف: 108] فدلت الآية على لزوم البصيرة وهي الدليل الواضح [1] . قال ابن القيم -رحمه الله-:(وإذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها، فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه بل لابد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى حد أقصى ما يصل إليه السعي.
ويكفي هذا في شرف العلم أن صاحبه يحوز به هذا المقام، والله يؤتي فضله من يشاء)ا. هـ [2] .
وإن مما يدخل في هذا العلم المطلوب: علم المحتسب بمواقع الحسبة وحدودها [3] . قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: (من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح) [4] .
قال النووي -رحمه الله-: (إنما يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه، ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء) [5] ا. هـ. بل لا يكون عمل المحتسب أو الداعي صالحاً ما لم يكن بعلم وفقه كما قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- .. لأن القصد والعمل إن لم يكن بعلم كان جهلاً وضلالاً واتباعاً للهوى .. وهذا هو الفرق بين أهل الجاهلية وأهل الإسلام.
فلابد إذاً من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما، كما لابد من العلم بحال المأمور وحال المنهي [6] .
ولا تفهم مما سبق أن المطلوب منك عند قيامك بمهمة الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تكون عالماً فقيهاً!! بل يكفي في ذلك أن تعلم أن هذا من المنكر فتنكره أو من المعروف فتأمر به وتدعو الناس إليه.
أما إذا اقتحم الجهال الدعوة، وترأسوا فيها، وأخذوا بالأمر والنهي بلا علم في ذلك كله، فإنهم يفسدون في هذه الحال أكثر مما يصلحون كما تقدم؛ فقد يأمر أحدهم بالمنكر وينهى عن المعروف جهلاً منه [7] .. قال تعالى: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ... [النحل: 116] .
وإن من أمارات الساعة ومن أسباب تعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رفع العلم كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ) ) [8] .
(1) لمعرفة كلام المفسرين في هذه الآية انظر: (( الطبري ) ) (16/ 291) تحقيق أحمد شاكر، (( البغوي ) ) (2/ 453) ، (( ابن الجوزي ) ) (4/ 295) ، (( الفخر الرازي ) ) (18/ 225) ، (( القرطبي ) ) (9/ 274) ، (( ابن كثير ) ) (2/ 495 - 496) ، (( أبا السعودي ) ) (4/ 310) ، (( الشوكاني ) ) (3/ 59) ، (( القاسمي ) ) (9/ 294 - 296) ، (( السعدي ) ) (4/ 63) ، (( الشنقيطي ) ) (1/ 173 - 174) .
(2) (( مفتاح دار السعادة ) ) (1/ 154) .
(3) (( أصول الدعوة ) ) (ص: 174) .
(4) (( الزهد ) )لأحمد (ص: 366) ، (( زاد المسير ) ) (ص: 250) .
(5) (( شرح مسلم ) ) (1/ 2/23) .
(6) (( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) )لابن تيمية (ص: 28) .
(7) انظر: (( أضواء البيان ) ) (1/ 173 - 174) .
(8) رواه البخاري (100) ، ومسلم (2673) . من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.