قال الإمام البخاري في صحيحه: (باب لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه) ثم أورد حديث الزبير بن عدي قال: (( أتينا أنس ابن مالك فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج. فقال: اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشر منه. حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم -صلى الله عليه وسلم- ) ) [1] .
وقد ذكر الحافظ في شرحه أقوالاً متعددة ثم قال: ثم وجدت عند عبد الله بن مسعود التصريح بالمراد وهو أولى بالاتباع. فأخرج يعقوب بن شيبة من طريق الحارث بن حصيرة عن زيد بن وهب قال: (سمعت عبد الله بن مسعود يقول: لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شر من اليوم الذي كان قبله حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاء من العيش يصيبه، ولا مالاً يفيده، لكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقل علماً من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فعند ذلك يهلكون) . ومن طريق أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود إلى قوله (شر منه) .
قال: فأصابتنا سنة خصب. فقال: ليس ذلك أعني، إنما أعني ذهاب العلماء). ومن طريق الشعبي عن مسروق عنه قال: (لا يأتي عليكم زمان إلا وهو أشر مما كان قبله، أما إني لا أعني أميراً خيراً من أمير ولا عاماً خيراً من عام، ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجد منهم خلفاً، ويجيء قوم يفتون برأيهم) [2] وفي لفظ عنه من هذا الوجه: (ما ذاك بكثرة الأمطار وقلتها، ولكن بذهاب العلماء، ثم يحدث قوم يفتون في الأمور برأيهم فيثلمون الإسلام ويهدمونه) [3] [4] . والله المستعان.
هذا وقد يحمل الإقدام على الإنكار بغير علم ذوي النفوذ على الوقوف في وجه الحسبة وتعطيلها قال عبد الصمد بن المهتدي: لما دخل المأمون بغداد، نادى بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك لأن الشيوخ بقوا يضربون ويحبسون، فنهاهم المأمون وقال: قد اجتمع الناس على إمام، فمر أبو نعيم، فرأى جندياً وقد أدخل يديه بين فخذي امرأة، فنهاه بعنف، فحمله إلى الوالي، فحمله الوالي إلى المأمون. قال: فأدخلت عليه بكرة وهو يسبح، فقال توضأ. فتوضأت ثلاثاً ثلاثاً على ما رواه عبد خير، عن علي، فصليت ركعتين، فقال: ما تقول في رجل مات عن أبوين؟ فقلت: للأم الثالث، وما بقى للأب، قال فإن خلف أبويه وأخاه؟ قلت: المسألة بحالها، وسقط الأخ، قال: فإن خلف أبوين وأخوين؟ قلت: للأم السدس وما بقى للأب. قال: في قول الناس كلهم؟ قلت: لا، إن جدك ابن عباس يا أمير المؤمنين ما حجب الأم عن الثلث إلا بثلاثة إخوة. فقال: يا هذا، من نهى مثلك عن الأمر بالمعروف؟! إنما نهينا أقواماً يجعلون المعروف منكراً. ثم خرجت [5] .
السادس القدرة [6] :
يقول الله عز وجل: لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة: 286] فمن كان بوسعه القيام بالأمر والنهي لزمه ذلك ومن لا فلا.
هذا واعلم أن الناس يتفاوتون في القدرة تفاوتاً كبيراً .. فالسلطان أقدر من غيره على القيام بذلك .. كم أن المتطوع أقل اقتداراً في الغالب من المنصوب للاحتساب .. وهكذا.
(1) رواه البخاري (7068) .
(2) رواه الدارمي (1/ 76) (188) . والحديث موضوع ذكره السخاوي في (( المقاصد الحسنة ) ) (1/ 516) ، والفتني في (( تذكرة الموضوعات ) ) (ص: 21) ، والعجلوني في (( كشف الخفاء ) ) (2/ 123) .
(3) انظر: (( المقاصد الحسنة ) )للسخاوي (1/ 517) ، و (( كشف الخفاء ) )للعجلوني (2/ 123) .
(4) (( الفتح ) ) (13/ 21) .
(5) (( نزهة الفضلاء ) ) (2/ 748) .
(6) انظر: (( الإحياء ) ) (2/ 308) فما بعدها، (( أحكام القرآن ) )لابن العربي: (1/ 266 - 267) . (( تفسير ابن عطية ) ) (5/ 166) ، (( تنبيه الغافلين ) ) (18 - 19) (( مفتاح السعادة ) ) (3/ 307) ، (( التشريع الجنائي ) ) (1/ 497) .