وقال الرازي بعد نقله حجة أصحاب القول الأول -وهو هذا- (إذا ثبت هذا فنقول معنى هذه الآية: كونوا أمة دعاة إلى الخير، آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، وأما كلمة(من) فهي هنا للتبيين لا للتبعيض كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ [الحج: 30] ويقال: لفلان من أولاده جند .. يريد بذلك جميع أولاده .. لا بعضهم .. ) [1] ا. هـ.
وقال أبو السعود: وقيل (من) بيانية كما في قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم ... [الفتح: 29] الآية، والأمر من كان الناقصة والمعنى (كونوا أمة تدعون ... ) كقوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ... [آل عمران: 110] ولا يقتضي ذلك كون الدعوة فرض عين، فإن الجهاد من فروض الكفاية مع ثبوته بالخطابات العامة [2] ا. هـ.
ويمكننا تلخيص ما يمكن أن يستدل به أصحاب هذا القول فيما يلي [3] :
1 -إيجاب الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوله: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ ... .
2 -أنه ليس أحد من المكلفين إلا وجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد أو اللسان أو القلب.
ومما ينبغي التنبه له أن أصحاب هذا القول يقولون: إنه وإن كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً على الكل إلا أنه متى قام به البعض سقط عن الباقين، ونظيره قوله تعالى: انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً [التوبة: 41] وقوله: إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ... [التوبة: 39] فالأمر عام وكذا الوعيد، ثم إذا قامت به طائفة وقعت الكفاية وزال التكليف عن الباقين [4] .
وذهب آخرون كمقاتل بن حيان [5] وابن جرير [6] وابن كثير [7] وابن العربي [8] والقرطبي [9] والشوكاني [10] إلى أنها تبعيضية.
أخرج ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن مقاتل بن حيان في قوله: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ ... [آل عمران: 104] يقول: (ليكن منكم قوم يعني: واحد أو اثنين أو ثلاثة نفر فما فوق ذلك) [11] .
وقد جوز الزجاج هذا المعنى مع ميله إلى الأول كما هو ظاهر كلامه حيث قال: (ويجوز أن تكون أمرت منهم فرقة لأن قوله وَلْتَكُن مِّنكُمْ .. ذكر الدعاة إلى الإيمان، والدعاة ينبغي أن يكونوا علماء بما يدعون إليه، وليس الخلق كلهم علماء، والعلم ينوب فيه بعض الناس عن بعض، وكذلك الجهاد) [12] ا. هـ.
وقال أبو السعود: (ومن تبعيضية متعلقة بالأمر، أو بمحذوف وقع حالاً من الفاعل وهو أمة أو يدعون صفتها أي: لتوجد منكم أمة داعية إلى الخير، والأمة هي الجماعة التي يؤمها فرق الناس، أي يقصدونها ويقتدون بها، أو من الناقصة وأمة اسمها. ويدعون خبرها، أي: ولتكن منكم أمة داعين إلى الخير. وأياً كان فتوجيه الخطاب إلى الكل مع إسناد الدعوة إلى البعض لتحقيق معنى فرضيتها على الكفاية وأنها واجبة على الكل بحيث إن أقامها البعض سقطت عن الباقين، ولو أخل بها الكل أثموا جميعاً) [13] ا. هـ.
(1) (( تفسير الرازي ) ) (8/ 167) .
(2) (( تفسير أبي السعود ) ) (20/ 67) .
(3) انظر: (( تفسير الرازي ) ) (8/ 167) ، و (( تفسير النيسابوري ) ) (4/ 28) .
(4) انظر: (( الرازي ) ) (8/ 167) ، (( صفوة الآثار ) ) (4/ 270) .
(5) انظر: (( تفسير ابن أبي حاتم ) )رقم (1125) .
(6) (( تفسير الطبري ) ) (7/ 90) .
(7) (( تفسير ابن كثير ) ) (1/ 390) .
(8) (( أحكام القرآن ) ) (7/ 292) .
(9) (( تفسير القرطبي ) ) (4/ 165) .
(10) (( فتح القدير ) ) (2/ 527) .
(11) (( تفسير ابن أبي حاتم ) )رقم (1125) .
(12) (( معاني القرآن ) ) (1/ 425 - 453) ، وانظر: (( النيسابوري ) )، و (( فتح القدير ) )للشوكاني (1/ 369) .
(13) (( أبو السعود ) ) (2/ 267) .