بين الله تعالى أنه لا يجب على المتقين بسبب خوض من يخوض في آيات الله إلا شيء واحد، وهو: تذكيرهم. يقول القاضي البيضاوي: (وما يلزم المتقين من قبائح أعمالهم وأقوالهم الذين يجالسونهم شيء مما يحاسبون عليه، ولكن عليهم أن يذكروهم ذكرى ويمنعوهم من الخوض وغيره من القبائح ويظهروا كراهتها) [1] .
وإذا كان تذكير هؤلاء الأشرار يجب على المتقين فكيف يتصور مهتديا عند تركه هذا الواجب. ولذا يقول الشيخ ثناء الله الأمرتسري: (ومن جملة اهتدائكم تذكيرهم لقوله تعالى: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [2] .
ومن تلك النصوص أيضا قوله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ [الأنفال: 25] .
يقول الحافظ الكلبي الغرناطي في تفسير الآية: (أي لا تصيب الظالمين، بل تصيب معهم من لم يغير المنكر، ولم ينه عن الظلم، وإن كان لم يظلم) [3] .
وسبيل الاتقاء من العذاب هو الإنكار على ظلم الظالمين كما قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: (أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بعقاب) [4] .
هذا وقد بين أبو بكر الصديق رضي الله عنه خطأ المستدلين بهذه الآية على سقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما كان قد سمع من أنزل عليه صلى الله عليه وسلم هذه الآية, فقد روى الإمام أبو داود عن قيس قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا أيها الناس! إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب ) ) [5] .
(1) (( تفسير البيضاوي ) ) (1/ 306) . وانظر أيضا (( تفسير أبي السعود ) ) (3/ 47) .
(2) (( تفسير القرآن بكلام الرحمن ) ) (ص: 103) .
(3) (( كتاب التسهيل ) ) (2/ 116) ، وانظر أيضاً (( أحكام القرآن ) )لابن العربي (2/ 846) ، و (( التفسير الكبير ) ) (15/ 149) ، و (( تفسير القرطبي ) ) (7/ 293) ، و (( تفسير الجلالين ) ) (ص: 237) ، و (( تفسير روح المعاني ) ) (9/ 129) ، و (( أضواء البيان ) ) (2/ 171) .
(4) (( تفسير الطبري ) ) (13/ 474) ، (رقم الأثر 5909) . ويقول الحافظ ابن كثير بعد ذكره: وهذا تفسير حسن جداً. (( مختصر تفسير ابن كثير ) ) (2/ 96) ، وانظر أيضاً (( تفسير القرطبي ) ) (7/ 391) ، و (( الإكليل ) )للسيوطي (ص: 135) ، و (( تفسير الجلالين ) ) (ص: 237) .
(5) رواه أبو داود (4338) ، والترمذي (2168) ، وأحمد (1/ 7) (29، 30) ، وابن حبان (1/ 539) (304) . قال الترمذي، والطحاوي في (( شرح مشكل الآثار ) ) (3/ 208) : صحيح، وصحح إسناده النووي في (( الأذكار ) ) (ص: 412) ، وابن مفلح في (( الآداب الشرعية ) ) (1/ 193) ، وأحمد شاكر في تحقيقه للمسند (1/ 36) ، وقال الألباني في (( صحيح سنن الترمذي ) ): صحيح.