الفرع الثالث: بيان نظر الشارع للنتائج واعتباره لها [1]
تقدم عند الكلام على الحكم والفوائد من مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذكر إقامة الدين وظهور الشريعة .. وزوال الباطل أو التقليل منه .. وهذا ولا شك مطلب شرعي أصيل .. لابد للمحتسب من أن يضعه نصب عينيه وهو يؤدي هذه المهمة.
أما إن كان الناتج عن الأمر والنهي في بعض الحالات زيادة في المنكر الذي أردنا إزالته، أو زوال للمعروف الذي أردنا تكثيره .. فإن الآمر أو الناهي في هذه الحال يكون سبباً في ازدياد الباطل وتقليل المعروف علم أو لم يعلم [2] .
ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما شرع لتحقيق ما يحبه الله ورسوله، فإذا ترتب على ذلك ما هو أنكر منه وأبغض إلى الشارع فإنه لا يسوغ إنكاره؛ وإن ترك الإنكار لا يعني إقرار المنكر.
ومثاله: الإنكار على الولاة المسلمين بالخروج عليهم .. فإن ما يترتب عليه من المفاسد أكبر مما يجلب من المصالح .. وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين قال في وصفهم: (( تعرفون وتنكرون ) )فقال: (( لا ما صلوا، لا ما صلوا ) ) [3] .
ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات -كالأصنام- ولا يستطيع تغييرها .. ولما فتح مكة عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك -مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالإسلام. ولهذا لم يأذن بالإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من المفاسد.
والحاصل أن ما يترتب على إنكار المنكر لا يخلو من أربع حالات:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده من المعروف، كما إذا نصحت رجلاً يبيع الأغاني وينشرها، فقبل النصح، فاستبدل ذلك بالأشرطة الإسلامية.
الثانية: أن يقل المنكر وإن لم يزل بجملته .. كما إذا نبهت بعض أصحاب المناهج المشتملة على بعض المخالفات أو البدع .. على مخالفته أو بدعته، فقبل منك، فترك بعض ما هو فيه من المنكر .. وكما إذا نصحت من يسب الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو الدين، فانتهى إلى سب آحاد المؤمنين.
الثالثة: أن يزول ويخلفه ما هو مثله .. كما إذا نصحت رجلاً عن سماع الأغاني الغربية، فانتقل منها إلى الأغاني العربية!!
وكما إذا بينت لنصراني فساد عقيدة التثليث، فعرف فسادها، فانتقل إلى اليهودية مثلاً .. !
وكما إذا حاورت بعض المنتسبين إلى الدعوة إلى الإسلام، وهو ذو منهج تشوبه بعض البدع أو المخالفات، فانتقل إلى منهج في الدعوة يماثله في حجم الانحراف وقدره.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه .. كما يقع في بعض الأحيان في صفوف النشء المقبل على الإسلام -أكثر من غيرهم- إذا واجه النقد المتبادل بين أوساط العاملين للإسلام .. فيتخلى عن الجميع وينحرف تماماً.
وكما إذا نصحت بعض أصحاب المهن بأن يتزين في لباسه إذا أراد المجيء إلى المسجد فيدع الصلاة فيه.
فالأولان مشروعان، والثالث موضع اجتهاد [4] ونظر، والرابع محرم [5] .
قال ابن القيم -رحمه الله-: فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة، إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الشارع كسباق الخيل .. وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون فإذا نقلته عنها إلى كتب أهل البدع والضلال والسحر فدعه.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه وقلت له: إنما حرم الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة .. وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم.
ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قطع الأيدي في الغزو .. مع كون القطع حد من حدود الله تعالى .. فنهى عنه خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين.
وقد نص أحمد وإسحاق والأوزاعي وغيرهم على أن الحدود لا تقام في أرض العدو [6] . ا. هـ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( .. فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم يكن مما أمر الله به وإن كان قد ترك واجب وفعل محرم، إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده وليس عليه هداهم) [7] ا. هـ. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت - ص: 234
(1) (( التشريع الجنائي ) ) (1/ 497 - 498) .
(2) انظر: (( أصول الدعوة ) ) (187 - 188) .
(3) رواه مسلم (1854) . من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
(4) انظر: (( الكلام على تزاحم المفاسد ) ) (ص: 242) ، وكذا (( الكلام على تساوي درجة المصلحة والمفسدة في حال التعارض ) ) (ص: 240) .
(5) انظر: (( إعلام الموقعين ) ) (3/ 4 - 7) .
(6) انظر: (( إعلام الموقعين ) ) (3/ 4/7) بتصرف.
(7) (( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) )لابن تيمية (17/ 18) .