الحال الثالثة: ما كان في معنى العجز الحسي، وذلك إذا كان يلحقه من جرائه مكروه معتبر في إسقاط الوجوب عنه [1] . دل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعاً: (( إن الله ليسأل العبد يوم القيامة، حتى يقول: ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره؟! فإن لقن الله عبداً حجته قال: يا رب! رجوتك وفرقت من الناس ) ) [2] فقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حجته. ومما يدل على هذا المعنى أيضاً حديث حذيفة رضي الله عنه مرفوعاً: (( لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيقه ) ) [3] .
حد المكروه المعتبر شرعاً [4]
من المعلوم أن الإنسان قد يكره كلمة، كما يكره الضرب، أو طول اللسان، أو الغيبة [5] ، وما من شخص يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا ويتوقع منه نوع من الأذى.
لذلك كان لابد من معرفة حد المكروه الذي يسقط بسببه وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
اعلم أن مطالب الناس في هذه الدار ترجع إلى أربعة أمور (يطلبها الإنسان لنفسه ومن أحب كالقرابة ونحوهم) وهي:
الأول: مطلوب في النفس وهو العلم.
الثاني: مطلوب في البدن وهو الصحة.
الثالث: مطلوب في المال وهو الثروة.
الرابع: مطلوب في قلوب الناس وهو الجاه.
والمكروه في هذه الأمور الأربعة أمران:
الأول: زوال الموجود منها.
الثاني: امتناع المرتقب.
وكل واحد من هذين الأمرين يحصل بفواته الضرر.
ولكي تجلى لك صورة الأمر نمثل لك على تعرض كل واحد من تلك المطالب الأربعة للزوال باعتبار ما هو حاصل وموجود منها، لا ما كان مرتقباً.
فأما العلم: فلا يمكن لأحد رفعه من قلب صاحبه، وهذا من مزايا العلم وشرفه على غيره كما هو معلوم .. فانتفى المحذور من هذا الوجه.
وأما البدن: فقد يقصد بالعطب الكامل وذلك بالقتل .. فهذا يسقط الوجوب ولا ريب، وقد يقصد بأذى دونه كالضرب أو قطع شيء من الأعضاء ونحو ذلك، وهذا على قسمين وهما:
1 -القسم الأول: ما كان الأذى فيه غير معتبر .. كالضربة الخفيفة ونحوها. فهي غير مؤثرة ولا معتبرة في إسقاط الوجوب.
2 -القسم الثاني: ما كان الأذى فيه معتبراً كالضرب المؤثر، وقطع شيء من الأعضاء وما جرى مجرى ذلك .. فإن هذا يسقط الوجوب.
وأما المال .. فهذا على قسمين أيضاً وهما:
الأول: ما كان زواله غير مؤثر ولا منظور .. كنقص حبيبات من بر، أو درهم من ممتلكات المحتسب .. وهذا على سبيل التغليب، وإلا فلا شك أن ذلك يختلف باختلاف الناس.
(1) انظر: (( تنبيه الغافلين ) ) (ص: 19) (( لوامع الأنوار البهية ) ) (2/ 428) ، (( مفتاح السعادة ) ) (3/ 307 - 309) .
(2) رواه ابن ماجه (3260) ، وأحمد (3/ 29) (11263) ، وابن حبان (16/ 368) (7368) ، والبيهقي في (( شعب الإيمان ) ) (6/ 90) (7574) . وقال: له متابعة، وقال العراقي في (( تخريج الإحياء ) ) (1/ 544) : إسناده جيد، وقال ابن كثير في تفسيره (3/ 155) : إسناده لا بأس به، وصححه الألباني في (( صحيح سنن ابن ماجه ) ).
(3) رواه الترمذي (2254) ، وابن ماجه (3259) ، وأحمد (5/ 405) (23491) ، والبيهقي في (( شعب الإيمان ) ) (7/ 418) (10824) . قال الترمذي: حسن غريب، وقال البيهقي: تابعه سعيد بن سليمان النسيطي وعمر بن موسى الشامي عن حماد بن سلمة، وقال البغوي في (( شرح السنة ) ) (6/ 546) : حسن غريب، وحسنه ابن حجر في (( الأمالي المطلقة ) ) (166) . وقال أحمد شاكر في (( عمدة التفسير ) ) (1/ 716) : إسناده صحيح، وحسنه الألباني في (( صحيح سنن ابن ماجه ) ).
(4) انظر: (( الإحياء ) ) (2/ 317 - 319) وانظر: (( مفتاح السعادة ) ) (3/ 308 - 309) .
(5) انظر: الآداب الشرعية (1/ 155 - 156) و (( تنبيه الغافلين ) )لابن النحاس (ص: 103 - 106) (( لوامع الأنوار البهية ) ) (2/ 434) .