ولله تعالى فوق هذا كله حكم قد ندركها، وقد لا ندركها، فإن الكافر في الدنيا كان ذا عتو واستكبار، يمشي على رجليه متبخترا معتزا بنفسه، لا يحني رأسه لشيء غير هواه، فلا يعرف التواضع لله في شيء، بل كان يستنكف من السجود لربه والخضوع له.
وهذا ما ذهب إليه ابن حجر في بيان حكمة هذا المشي حين قال: (والحكمة في حشر الكافر على وجهه: أنه عوقب على عدم السجود لله في الدنيا، بأن يسحب على وجهه في القيامة؛ إظهارا لهوانه، بحيث صار وجهه مكان يده ورجله في التوقي عن المؤذيات ) ) [1]
وكثرة النصوص في هذا الموضوع تمنع كونه من باب التمثيل، فهو إذا على حقيقته فلا ينبغي تأويله، بالإضافة إلى أنه من الأمور الممكنة عقلا، وليست من قبيل المستحيلات على الله تعالى
3 -حشر المتكبرين
ومن الأوصاف الأخرى التي وردت في السنة لحشر فئات من الناس، صنف من الناس يحشرون في أحقر صفة وأذلها، وهؤلاء هم المتكبرون.
فلأنهم في الدنيا يمشون في كبرهم وتبخترهم على الناس، عالية رؤوسهم عن التواضع لله أو لخلقه، هؤلاء المستكبرون ورد في صفة حشرهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال, يغشاهم الذل من كل مكان ) ) [2] الحديث.
وفي رواية عن جابر رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( يبعث الله يوم القيامة ناساً في صور الذر يطؤهم الناس بأقدامهم، فيقال: ما هؤلاء في صور الذر؟ فيقال: هؤلاء المتكبرون في الدنيا ) ) [3] .
وهذه الحالة المخزية تناسب ما كانوا فيه في الدنيا من تعاظم وغرور بأنفسهم، لأنهم كانوا في الدنيا يتصورون أنفسهم أعظم وأجل المخلوقات؛ فجعلهم الله في دار الجزاء أحقر المخلوقات وأصغرها.
4 -حشر السائلين:
ومن الصور الأخرى التي تشاهد في يوم القيامة صور أولئك السائلين الذين يسألون الناس وعندهم ما يغنيهم، يأتون يوم القيامة وفي وجوههم خموش أو كدوح، أو يأتون وليس في وجوههم مزعة لحم، يعرفهم الناس كلهم.
وهذا ما ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( ما يزال الرجل يسأل الناس؛ حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم ) ) [4] .
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من سأل وله ما يغنيه؛ جاءت خموشاً أو كدوحاً في وجهه يوم القيامة ) ) [5] والجزاء من جنس العمل.
(1) (( فتح الباري ) ) (11/ 382) .
(2) رواه الترمذي (2492) ، وأحمد (2/ 179) (6677) ، والبخاري في (( الأدب المفرد ) ) (557) . قال الترمذي: حسن صحيح، وحسنه البغوي في (( شرح السنة ) ) (6/ 537) ، وصححه ابن مفلح في (( الآداب الشرعية ) ) (3/ 521) ، وقال العراقي في (( تخريج الإحياء ) ) (3/ 415) : إسناده حسن، وحسنه ابن حجر في (( تخريج مشكاة المصابيح ) ) (4/ 474) كما قال في المقدمة.
(3) رواه البزار كما في (( مجمع الزوائد ) ) (10/ 337) ، والمنذري في (( الترغيب والترهيب ) ) (4/ 293) . وقال: [لا يتطرق إليه احتمال التحسين] ، وقال الهيثمي: فيه القاسم بن عبد الله العمري وهو متروك، وقال الألباني في (( سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ) ) (5010) : موضوع.
(4) رواه البخاري (1474) ، ومسلم (1040) .
(5) رواه أبو داود (1626) ، والترمذي (650) ، والنسائي (5/ 97) ، وابن ماجه (1502) ، وأحمد (1/ 388) (3675) ، والحاكم (1/ 565) ، والبيهقي (7/ 24) (13586) . والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن، وصححه ابن العربي في (( عارضة الأحوذي ) ) (2/ 108) ، وحسنه ابن حجر في (( تخريج مشكاة المصابيح ) ) (2/ 273) كما قال في المقدمة.