فهرس الكتاب
الصفحة 40 من 180

شبهتهم في إثبات الرؤية ونفي الإدراك (تابع)

وأما قوله: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ يعني: في الدنيا دون الآخرة، وذلك أن اليهود قالوا لموسى أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فماتوا وعوقبوا بقولهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً وقد سألت مشركو قريش النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا فلما سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه المسألة قال الله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ حين قالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ الآية، فأنزل الله -سبحانه- يخبر أنه لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ أي: إنه لا يراه أحد في الدنيا دون الآخرة، فقال: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ يعني: في الدنيا أما في الآخرة فإنهم يرونه، وهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة

الجمع الذي جمع بينهما الإمام -رحمه الله- أن قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ يعني: تنظر إلى ربها في الجنة، وأما قوله: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ فهذا في الدنيا، فإذًا الجمع بينهما الآية الأولى محمولة على النظر إلى وجه الله في الدنيا، المؤمنون ينظرون إلى ربهم في الجنة، وأما الثانية: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ هذا في الدنيا لا يرون الله في الدنيا، ما يمكن أحد يرى الله في الدنيا، وفي الآخرة في إثبات، إذًا ما فيه تناقض.

الإمام -رحمه الله- يقول:"وذلك أن اليهود قالوا لموسى أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فماتوا، وعوقبوا بقولهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ثم أحياهم الله بعد ذلك وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ."

وقد سألت مشركو قريش النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا في سورة الإسراء ذكر الله الاقتراحات التي اقترحها كفار قريش على النبي -صلى الله عليه وسلم- من باب التعنت وقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ والْمَلائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ ولَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً .

كل هذه اقتراحات من باب التعنت، نعم فلما سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- أنزل الله: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ يعني سؤال تعنت كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ حين سأله بنو إسرائيل، وقالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فأخذتهم الصاعقة فأنزل الله سبحانه يخبر أنه لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ أي: لا يراه أحد في الدنيا دون الآخرة.

قال: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ أي: في الدنيا، أما في الآخرة فإنهم يرونه، وهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة

هنا جواب آخر في الجمع بين الآيتين، وهو أن آية: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ عامة تخصص بالآية الثانية، وهي إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ المؤمنون في الجنة، فإنهم يرونه، وهذا قريب من المعنى الأول، تكون الآية من باب العموم والخصوص، فلا يراه أحد أبدا إلا المؤمنون، فتكون رؤية المؤمنين مخصصة لعموم لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ .

وهناك جواب ثالث، وهو الصواب، وهو أن قوله عز وجل: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ليس نفيا للرؤية، فيها نفي للإدراك، والإدراك أخص من الرؤية، والرؤية أعم، فالآية ليس فيها نفي للرؤية ما قال: لا تراه الأبصار، قال: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ والإدراك قدر زائد على الرؤية فقد يرى الإنسان الشيء، ولا يدركه؛ لأن الإدراك معناه الإحاطة، الإحاطة بالشيء، ومعرفة كنهه، فالمؤمنون وإن رأوا الله في الجنة لكن لا يدركونه، ولا يحيطون به رؤية.

فالمراد بنفي الإدراك، نفي الإحاطة، المستلزم لمعرفة الكنه والحقيقة والكيفية، فرق بين نفي الرؤية ونفي الإدراك، فالمؤمنون يرون ربهم في الجنة، لكن لا يحيطون به رؤية، ولا يعلمون كنهه، بل إن الإنسان في الدنيا يرى الشيء، ولا يحيط به رؤية، فأنت ترى الجبل تراه لكن هل تحيط به رؤية؟ لكن هل تحيط به من جميع الجهات أم يخفى عليك شيء من جهاته؟ يخفى عليك شيء من جهاته.

وأنت في البستان، ترى البستان، ولا تحيط به رؤية إذا كان عندك بستان مسافة عشرة كيلو، في عشرة كيلو، تراه لكن هل تحيط به رؤية؟ لا تحيط به إذا أردت أن ترى الجوانب الأخرى تركب السيارة تذهب حتى ترى الجوانب الأخرى.

السماء الآن نراها لكن لا نحيط بالسماء رؤية؟ نرى الأرض، ولا نحيط بها رؤية، نحن الآن في مدينة الرياض، نراها، لكن هل نحيط بها رؤية؟ هل تعلم ما في الشرق أو الغرب أو في الشمال أو في الجنوب؟ ما تحيط به رؤية، إذًا هناك فرق بين نفي الرؤية ونفي الإدراك، الله -سبحانه- ما نفى الرؤية، وإنما نفى الإدراك.

فالله -سبحانه- لكمال عظمته، وكونه أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء لا يحيط به أحد رؤية، فهو أعظم وأعلى وأجل من أن يحيط به العباد، والله -تعالى- أخبر في قصة مسير موسى ومن معه من الجيش، ولحوق فرعون ومن معه بأن الجمعين تراءيا.

قال الله -عز وجل-: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ الجمع الذي مع موسى والجمع الذي مع فرعون وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ .

ثم قال بعد ذلك: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ موسى ومن معه امتثل أمر الله فسار بمن معه من بني إسرائيل، فتبعهم فرعون ومن معه جيش يتبع جيش فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ صار كل جمع يرى الجمع الآخر، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ إذًا هذا الإدراك غير الرؤية إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي: لمحاط بنا فموسى -عليه السلام- نفى الإحاطة، قال: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ وإن رأيتم الجيش من بعد، لكن لا يحيط بكم، ولا يدرككم.

فلما وصل موسى إلى البحر، أمره الله فضرب البحر بعصاه، فانفلق فكان اثني عشر فريقًا على عدد القبائل، صار يبسًا، الماء الجاري السيال يبس في الحال، فلما تكامل موسى وقومه داخلون، تبعهم فرعون ومن معه، أرض يابسة، طُرُق، فلما خرج موسى ومن معه من الجهة الأخرى، وتكامل فرعون ومن معه داخلون، أمر الله البحر بأن يعود إلى حالته، فانطبق على فرعون وقومه فصارت أجسامهم للغرق، وأرواحهم للنار والحرق، نعوذ بالله.

فالشاهد قوله: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ أثبت الرؤية قالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قال موسى كلا لستم بمدركين، فثبت أن الإدراك غير الرؤية، وهي قدر زائد على الرؤية، وهي الإحاطة، لما تراءى الجمعان، ظن أصحاب موسى أن فرعون سيلحقهم، ويحيط بهم، قالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ البحر أمامنا، فإن خضناه غرقنا، وفرعون ومن معه خلفنا، فإن وقفنا أدركنا، ماذا نفعل: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ .

فإذًا لا منافاة بين الآيتين: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ إثبات الرؤية، وآية: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ليس فيها نفي الرؤية، وإنما فيها نفي الإدراك، والإدراك قدر زائد على الرؤية، وهي الإحاطة؛ لأن الإنسان قد يرى الشيء، ولا يحيط به رؤية، والله تعالى أعظم وأجل وأعلى من أن يحيط به العباد، رؤية مستلزمة معرفة الكل.

كما أن الله -سبحانه وتعالى- يُعلم، ولا يُحَاط به علمًا: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا أثبت العلم، العباد يعلمون ربهم ولكن لا يحيطون به علما، لو كان المراد بقوله: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ لا تراه في الدنيا لم يكن في ذلك مدح وكمال لله -عز وجل- والآية سيقت مساق التمدح: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ولو كان المراد بها نفي الرؤية لم يكن في ذلك مدح، ولا كمال، لأن كون الشيء لا يُرَى ليس فيه مدح؛ لأنه يشارك المعدوم، المعدوم لا يُرَى، هل يمدح المعلوم بأنه لا يُرَى؟ ما يمدح، لو كان المراد بالآية نفي الرؤية ما كان فيه مدح ولا كمال، إنما الكمال إثبات الرؤية، ونفي الإدراك والحقيقية والكنه، فالمعنى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ أنه تراه العيون، ولا تحيط به رؤية لكماله وعظمته، وكونه أعظم من كل شيء، وهو أعلى وأجل وأعظم من أن يدركه العباد.

أما في الدنيا فهذا معروف لا تراه في الدنيا، معروف أنه لا يراه أحد في الدنيا، ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم-سئل: هل رأيت ربك يعني ليلة المعراج؟ فقال: نور أنى أراه وفي لفظ: رأيت نورا .

وفي حديث أبي موسى الأشعري في صحيح مسلم يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور -وفي لفظ حجابه النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه .

إذًا لا يراه أحد في الدنيا، ولما سأل موسى الرؤية في الدنيا: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي يعني في الدنيا وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا تدكدك الجبل ما ثبت، فكيف يثبت البشر الضعيف.

فإذًا رؤية الله في الدنيا جائزة عقلًا، لكنها غير واقعة شرعًا، ولا يستطيع أحد أن يثبت لرؤية الله في الدنيا، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ما يستطع أحد أن يثبت لرؤية الله، لكن في يوم القيامة ينشأُ الله الناس تنشئة قوية يتحملون فيها رؤية الله حتى نبينا -عليه الصلاة والسلام- ليلة المعراج ما رأى ربه على الصحيح، والمسألة فيها قولان لأهل العلم يعني: اتفق أهل السنة على أن الله -تعالى- لا يراه أحد في الدنيا، ولم يخالف في هذا إلا بعض الصوفية وبعض المشبهة الذين لا يعتد بقولهم، المشبهة الذين يقولون: إن الله يُرَى يمكن أن يُرَى في الدنيا.

وبعض الصوفية الذين قالوا: كل مكان فيه خضرة، لعل فيه ربنا، هؤلاء كفرة، والعياذ بالله، لا عبرة بهم وما عداهم، فقد أجمعت الأمة على أن الله -تعالى- لم يراه أحد في الدنيا، ولم يخالفوا إلا في نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج، اتفقوا على أن الله تعالى لم يره أحد في الأرض، واتفقوا على أن غير النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يره باتفاق.

واختلفوا في رؤية نبينا -صلى الله عليه وسلم- خاصة ليلة المعراج في السماء، هل رأى ربه بعيني رأسه؟ على قولين لأهل العلم: القول الأول: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى ربه بعيني رأسه.

والقول الثاني أنه رآه بعيني قلبه، وهذا هو الصواب الذي عليه جماهير الصحابة والتابعون ولما سئلت عائشة -رضي الله عنها- لما سألها مسروق فقال لها: هل رأى محمد -صلى الله عليه وسلم- ربه؟ قالت: لقد قفَّ شعري مما قلت، ثم قالت: من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب .

ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه والرسول من خلقه، ولقول الله عز وجل: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ .

وجمع المحققون من أهل العلم بين الرواية التي فيها إثبات الرؤية، والرواية التي فيها نفي الرؤية؛ لأنه روي عن ابن عباس في الرؤية أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- رأى ربه، وروي عن الإمام أحمد بن حنبل لكن الجمع بينهما أن الروايات التي فيها إثبات الرؤية، محمولة على رؤية القلب، وأنه رأى ربه بقلبه.

والروايات التي فيها نفي الرؤية محمولة على رؤية العين، فما جاء من النصوص أن النبي لم ير ربه، يعني بعين رأسه، وما جاء من النصوص، والآثار أن النبي رأى ربه يعني: بعيني قلبه، وبهذا تجتمع النصوص، ولا تختلف.

ثم أن رؤية الله في الدنيا نعيم، لا تكون لأهل الدنيا، نعيم لأهل الجنة خاصة، فالمؤمنون يوم القيامة يتنعمون برؤية الله -عز وجل-، أعظم نعيم يعطاه أهل الجنة هو رؤيتهم لربهم -عز وجل- حتى إنهم إذا رأوا الله نسوا كل ما هم فيه.

فرؤية الله نعيم ادخره الله لأجلنا، فلا يكون لأهل الدنيا، ما يمكن لأحد يراه في الدنيا، نعيم خاص لأهل الجنة، فالخلاصة رؤية الله في الدنيا جائزة عقلًا، لكنها غير واقعة شرعًا، جائزة يعني: غير مستحيلة.

والدليل على أنها جائزة عقلًا، يعني: لا يحيلها العقل أن موسى سأل ربه قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ وموسى ما يسأل الشيء المستحيل، ولكنها غير كائنة في الدنيا، ولو كانت ممتنعة لأنكر الله على موسى كما أنكر على نوح حين سأل نجاة ابنه: فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ولأن الله لم يقل لا أُرى، ولا يمكن رؤيتي أو رؤيتي مستحيلة: قَالَ لَنْ تَرَانِي أي في الدنيا ببشريتك الضعيفة، فإذا رؤية الله في الدنيا جائزة عقلا غير مستحيلة، لكنها غير واقعة شرعا.

أما في الآخرة فهي جائزة عقلا وواقعة شرعا، من أقوى الأدلة على أن الله -تعالى- لا يراه أحد في الدنيا ما ثبت في صحيح مسلم وصحيح ابن خزيمة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا فإذًا هذه الآية لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ليس المراد بها نفي الرؤية، وإنما المراد نفي الإدراك؛ لأنها سيقت مساق المدح.

ولو كان المراد نفي الرؤية لما كان في ذلك مدح؛ لأن المعدوم هو الذي لا يُرَى، والكمال في إثبات الرؤية هو نفي الإدراك؛ لأن النفي المحض لا يأتي في صفات الله، ما يأتي إلا النفي الذي يستلزم إثبات ضده من الكمال.

فالمعنى أنه يُرَى ولا يحاط به رؤية، كما أنه يُعلم، ولا يُحَاط به علما لكمال عظمته، وكونه أعظم من كل شيء لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ لكمال عظمته وكونه أعظم من كل شيء، لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لكمال قوته واقتداره وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا لكمال عدله لا شريك له، ولا ولد، ولا صاحبة لكمال ربوبيته، وهكذا فالنفي الذي يأتي من صفات الله ليس نفيًا محضا، وإنما هو يستلزم إثبات ضده من الكمال.

ما يأتي النفي المحض الصرف، ما فيه مدح، فالمدح في النفي الذي يستلزم إثبات ضده من الكمال: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ لماذا لكمال عظمته، وكونه أعظم من كل شيء، أما النفي المحض فهذا ذم؛ لقول الشاعر:

قُبَيلَة لا يغدرون بذمة ولا

يظلمون الناس حبة خردل

هل هذا مدح؟ لا يغدرون، ولا يظلمون هو يذمهم يقول: لضعفهم وعجزهم، ولهذا صغَّرهم بقولة قُبَيلَة، وإنما يمدح الإنسان كونه لا يظلم إذا كان قادرًا على الظلم، ثم ترك الظلم، قادر على الغدر، ثم ترك الغدر، أما إذا كان عاجزًا لا يكون مدحا.

والشاعر الآخر يهجو قومه لما أُخِذَت إبله، واستنصر بهم، ولم يجد منهم نجدة قال يتمنى أنه من قبيلة أخرى يستنجد بها وتنجده قال:

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي

بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

إذًا لقام بنصري معشر خشن

عند الحفيظة أن ذو لوثة لانا

لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد

ليسوا من الشر في شيء وإن هانا

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة

ومن إساءة أهل السوء إحسانا

لكونهم عاجزين ضعفاء، وهذا نقص، وإنما يكون كمالًا إذا كان قادرا، ثم ترك الظلم.

أما إذا كان عاجزًا فليس هناك مدح، فالشاهد أن النفي المحض الصرف في صفات الله لا يأتي بالنسبة لجناب الرب -عز وجل- لأن النفي المحض الصرف، هذا فيه ذم، كما سمعتم في الأمثلة، ولو قلنا: إنه لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ لا يراه أحد في الدنيا، معناه أن هذا شارَك المعدوم لا يراه أحد، فالمعنى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ تراه الأبصار، لكن لا تحيط به رؤية، وإن كان القول الأول اختاره الإمام - رحمه الله- وحمله على الدنيا، لكنه قول ليس بالقوي.

فالصواب في الجمع بين الآيتين أن الآية لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ محمولة على نفي الإدراك، والإدراك قدر زائد على الرؤية، المعنى الله يُرَى، ولا يُحَاط به رؤية لكمال عظمته، وكونه أعظم من كل شيء.

وهذا هو القول الراجح وعلى هذا ما في تعارض: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ تنظر إلى ربها يوم القيامة، لكن لا تحيط به رؤية لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ آية أثبتت الرؤية، وآية نفت الإدراك، ولا منافاة بينهما فالشيء يرى ولا يدرك.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام