فهرس الكتاب
الصفحة 86 من 180

بيان ما فصل الله بين خلقه وأمره

باب بيان ما فصل الله بين خلقه وأمره وذلك أن الله -جل ثناؤه- إذا سمى الشيء الواحد باسمين أو ثلاثة أسامٍ فهو مرسل غير مفصل مقيد، وإذا سمى شيئين مختلفين لا يدعهما مرسلين.

يعني غير مفصل وغير مقيد، لا يدعهما مرسلين حتى يفصل بينهما ، ومن ذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فهذا شيء واحد سماه بثلاثة أسامٍ وهو مرسل، ولم يقل: إن له أبا وشيخا وكبيرا، وقال: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثم قال: ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا هذا شيء واحد فهو مرسل، فلما ذكر شيئين مختلفين؛ فصل بينهما، فذلك قوله: ثيبات فلما كانت البكر غير الثيب؛ لم يدعه مرسلًا حتى فصل بينهما. فذلك قوله: وأبكارا وقال: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ فلما كان البصير غير الأعمى؛ فصل بينهما، ثم قال: وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ فلما كان كل واحد من هذا الشيء غير الشيء الآخر؛ فصل بينهما ، ثم قال: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ إلى قوله: الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ فهذا كله اسم شيء واحد فهو مرسل ليس بمفصل، فكذلك إذا قال الله: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ لأن الخلق غير الأمر فهو مفصل.

إذًا هذا الباب يبين فيه الإمام -رحمه الله- أن الشيء إذا كانت له أسماء متعددة وأوصاف متعددة؛ يأت بعضها تلو بعض من دون أن يفصل بينهما بالواو، أما إذا كانت متغايرة فلا بد أن يفصل بينهما بالواو؛ ولهذا قال الإمام: وذلك أن الله -جل ثناؤه- إذا سمى الشيء الواحد باسمين أو ثلاثة أسام فهو مرسل غير مفصل غير مقيد، تأتي تباعا الاسم بعد الاسم دون أن يفصل بينهما بالواو، أما إذا سماه بشيئين مختلفين فلا يدعهما مرسلين حتى يفصل بينهما يعني بالواو.

مثال الأول: وهو أن يسمي الواحد باسمين أو ثلاثة أسام ويكون مرسلا غير مقيد، قول الله -عز وجل-: يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا هو يعقوب هو أب وهو شيخ وهو كبير أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا كلها ثلاثة أسماء لشيء واحد؛ ولهذا ما فصل بينها، ولم يقل: إن له أبا وشيخا وكبيرا، بل أرسلها، ومثله قوله تعالى: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ هذه كلها صفات لشيء واحد ، صفات للزوجات: مسلمات هذا وصف لهن، مؤمنات هذا وصف لهن، قانتات القنوت هو الطاعة، تائبات: وهو الرجوع إلى الله، عابدات سائحات.

ثم بعد ذلك لما كان الوصف مختلفا؛ لما جاء وصفين مختلفين فصل بينهما بالواو- فقال: ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ولم يقل: ثيبات أبكارا، لماذا؟ لأن البكر غير الثيب -تختلف- فلما كان الشيء سمى باسمين مختلفين فصل بينهما بالواو فقال: ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ولما كانت الصفات السابقة كلها صفات لشيء واحد: مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ لما كانت كلها أوصافا لشيء واحد لم يفصل بينها بالواو، بل أرسلها هكذا: مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ فلما اختلف المعنى؛ فصل بالواو فقال: ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا .

هذا معنى قول المؤلف، فهذا شيء واحد فهو مرسل يعني قوله: مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ فلما ذكر شيئين مختلفين ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا فصل بينهما يعني بالواو، فذلك قوله: ثيبات فلما كانت البكر غير الثيب؛ لم يدعه مرسلا حتى فصل بينهما يعني فذلك قوله: وأبكارا .

وقال: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ لما كان البصير غير الأعمى؛ فصل بينهما بالواو ولم يقل: وما يستوي الأعمى البصير، البصير غير الأعمى فلما كان البصير غير الأعمى فصل بينهما بالواو.

وكذلك مثل: وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ كلها مختلفة، هذه الظلمات غير النور، والظل غير الحرور؛ ولهذا فصل بينهما بالواو ولم يرسلها ويقل: الظلمات النور الظل الحرور، فلما كان كل واحد منها غير الشيء الآخر؛ فصل بينهما بالواو.

ثم قال: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ إلى قوله: الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ فهذه كلها أسماء لله -عز وجل- فلما كانت اسما لشيء واحد وهو الله -عز وجل- لم يفصل بينها، ولهذا قال: فهذا كله اسم لشيء واحد فهو مرسل ليس بمفصل.

نأتي إلى موضوع البحث، وهو الخلق والأمر، قال المؤلف: فكذلك إذا قال الله: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فالخلق غير الأمر فهو مفصل، لما كان الخلق غير الأمر والأمر غير الخلق؛ فصل بينهما بالواو، لو كان الأمر داخلا في الخلق كما تزعمه الجهمية - الجهمية تقول: الأمر داخل في الخلق، الأمر الذي هو قول الله مخلوق- لو كان داخلا في الخلق لما فصل بينهما بالواو، لو كان شيئا واحدا لقال: ألا له الخلق الأمر، فلما فصل بينهما بالواو: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ دل على أن الخلق غير الأمر، وأن الأمر كلام الله ، وكلام الله غير خلقه، كلام الله صفة من صفاته غير الخلق؛ فلهذا فصل بينهما بالواو أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ هذا كله تابع لجواب الشبهة السابقة.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام