فهرس الكتاب
الصفحة 17 من 180

شبهتهم في قوله تعالى"كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها"والرد عليها(تابع)

قال -رحمه الله تعالى-: باب ما ضلت فيه الزنادقة من متشابه القرآن قال أحمد في قوله -عز وجل- كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا قالت الزنادقة فما بال جلودهم التي عصت قد احترقت وأبدلهم جلودًا غيرها؟! فلا نرى إلا أن الله يعذب جلودًا لم تذنب حين يقول: بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا فشكوا في القرآن وزعموا أنه متناقض؟

-هذه الشبهة الآن، جواب الإمام عن هذه الشبهة. -

فقلت: إن قول الله: بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا ليس يعني جلودًا غير جلودهم وإنما يعني بدلناهم جلودًا غيرها، تبديلها: تجديدها؛ لأن جلودهم إذا نضجت جددها الله؛ وذلك لأن القرآن فيه خاص وعام، ووجوه كثيرة، وخواطر يعلمها العلماء.

إلى هنا انتهى جواب الشبهة، انتهى المثال الأول.

إذًا المثال الأول: هو أن المشبهة والزنادقة قالوا في قول الله تعالى كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا في آية النساء: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ قالوا: الله تعالى قال: بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا إذًا يعذب الله جلودًا لم تذنب، ويلزم من ذلك أن يكون الله ظالما، تعالى الله عما يقولون ، عذب أحدا بغير جرم، عذب جلودًا ما أذنبت. وهذا باطل.

المؤلف -رحمه الله- يقول: هذا من أبطل الباطل، أيها الزنادقة ليس المراد بالتبديل هنا تبديل الجلود، أنها يؤتى بجلود أخرى تُعذب. لا المراد بالتبديل: التجديد، جلودهم هي نفسها تُجدد، تبديل تجديد لا تبديل جلود أخرى وذوات أخرى، هذا تبديل تجديد، كما أن الكافر يوسع جلده في النار حتى يشتد العذاب.

كما أن من مانع الزكاة -كما في الحديث-: أنه ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت لهم صفائح من نار، فيحمى عليها...، كلما بردت أعيدت.. قال العلماء: ليس... لا يوضع درهم على درهم، ولا دينار على دينار، وإنما يوسع جلده حتى يشمل هذه الدراهم والدنانير التي منع الزكاة، ولو كانت أوراقا نقدية يجعلها الله شيئًا قويًا كالدراهم والدنانير، حتى يعذب.

فهذا تبديل تجديد، ليس تبديل جلود أخرى. قد يقول قائل: هذا تأويل بدلناهم جلودًا غيرها؟ ظاهر الآية أنها جلود أخرى، فكيف تتأولون؟ المؤلف أجاب قال:"لأن القرآن فيه خاص وعام، ووجوه كثيرة وخواطر يعلمها العلماء".

القرآن فيه خاص وعام ووجوه كثيرة وأفهام يعلمها العلماء؛ لأن القرآن يضم بعضه إلى بعض، النصوص يُضم بعضها إلى بعض من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، الله تعالى قال: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ وقال: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا وقال: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ الله تعالى لا يظلم أحدًا، فلا يمكن أن يعذب أحدًا بغير جرم، ولا يمكن أن يعذب أحدًا لم يذنب، والله تعالى نزه نفسه عن الظلم، ونفاه عن نفسه، وحرم الظلم على نفسه، كما في الحديث القدسي -حديث أبي ذر - يقول الله -تبارك وتعالى-: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا .

فالله تعالى حرم الظلم على نفسه فلا يمكن أن يظلم أحدًا، فلو كان المراد جلودا أخرى لكان ظالمًا والله تعالى منزه عن الظلم، لا يمكن هذا ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ .

وإذا كان يوسف -عليه الصلاة والسلام- لما جعل الصواع في رحل أخيه وأخذ أخاه؛ لأن معه الصواع. جاء أخوته يطلبون منه أن يأخذ أحدهم مكانه: قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ .

ماذا كان الجواب؟ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ هذا هو الظالم الذي أخذ الصواع، هو الذي نأخذه، نأخذ واحدا بدله، هذا ظلم مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ .

إذا كان يوسف -عليه الصلاة والسلام- لا يأخذ واحدا بدل واحد، فكيف يقال: إن الله يعذب جلودًا لم تذنب، فليس هذا تأويلًا مخالفا لظاهر القرآن، بل هو تفسير للقرآن بالقرآن، فالقرآن يضم بعضه إلى بعض، الله نفى الظلم عن نفسه، فلا يمكن أن تكون جلودا أخرى، وإنما المراد المراد بالتبديل: تجديد جلود بجلود. ونظير هذا تبديل الأرض يوم القيامة، قال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ .

الجهم قال: تبدل أرض أخرى غير هذه الأرض، وهذا باطل، فليس المراد تبديل ذات بذات، المراد: تبديل صفات.

فالأرض نفسها هي تمد كما يمد الأديم، وتسوى ويزال ما فيها من الجبال والأودية وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا فتُمَد ويزال ما فيها، وتسوى.

هذا هو تبديلها. كذلك بعث الأجساد يوم القيامة، الناس يبعثهم الله أنفسهم، نفس الذوات يعيد الله، الذرات التي استحالت ترابا، الإنسان يبلى إلا عجب الذنب، وهو العصعص آخر عظم في العمود الفقري، هذا لا يبلى، منه خلق ابن آدم، ومنه يركب ويعيد الله الذرات التي استحالت، بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ .

والله تعالى رد على منكري البعث بأنه علم بالذرات التي استحالت، وقادر على إعادتها، فهذا البعث بعث ليس إنشاء لذوات جديدة، وإنما البعث بعث الأجساد، بعث الأجساد نفسها، جمع بعد تفريق، يجمعها الله بعد أن تفرقت، ثم تُنَشَّأ، ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ نشأة أخرى قوية، تبدل الصفات لا تبديل ذوات بذوات؛ ولهذا يتحمل الناس ويقفون في مواقف القيامة، هذا الموقف الطويل، هذا تبديل صفات الذوات هي هي، والصفات هي التي تختل.

قال الله تعالى ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فإذًا التبديل هنا تبديل تجديد، كما أن تبديل الأرض تبديل صفات لا تبديل أرض أخرى، وكذلك بعث الأجساد وإنشائها بعث وإنشاء عن تفرق لا عن عدم، الجهم بن صفوان -قبحه الله- قال: إنه يعدم الإنسان إذا مات وتنتهي ذراته، ثم يبعث الله أناسا آخرين، هذا من أبطل الباطل، معناه: أن الله يبعث أناسا آخرين، ويعذب أناسا آخرين لم يذنبوا هذا من أبطل الباطل.

ولما قال الجهم بن صفوان هذا القول -أنكر البعث- وقال: إن البعث بعث بعث أجساد أخرى، فتح بابا لابن سينا الملحد المعروف، فلما قال الجهم إن البعث بعث أجساد أخرى، جاء ابن سينا وقال: ليس هناك بعث للأجساد إطلاقًا، وإنما البعث للأرواح، ما في بعث للأجساد , فكفر. هذا كفر صريح، قال الله تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ .

ابن سينا ملحد، ينكر البعث، ينكر وجود الله، ينكر الكتب والرسل، الذي اغتر به كثير من الناس ومن الصحفيين والإعلاميين ويقولون: فيلسوف الإسلام، وهو ملحد يقول عن نفسه: أنا وأبي من دعوة الحاكم العبيدي والحاكم العبيدي رافضي خبيث لا يؤمن بالله ولا بملائكته ولا بكتبه ولا برسله ولا باليوم الآخر ولا بالقدر، نسأل الله السلامة والعافية.

فإذًا هذا التبديل تبديل جلود، معناه: تجديدها، لا إيجاد جلود أخرى، كما أن تبديل الأرض يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ تبديل صفات، تسوى وتمد كما يمد الأديم ويزال ما عليها، وكذلك السماء يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وتكون وردة كالدهان، يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ .

كما أن بعث الأجساد بعث لنفس الذرات التي استحالت، يعيدها الله خلقا جديدا، وينزل الله مطرا فتنبت منه أجساد الناس، وينشأ الناس تنشئة أخرى قوية يتحملون؛ ولهذا كان الناس لا يتحملون رؤية الله في الدنيا، وفي يوم القيامة المؤمنون يرون ربهم، أما في الدنيا ما يستطيع أحد أن يرى الله، ولما قال موسى رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قال الله: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ما استطاع تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ .

لكن في يوم القيامة ينشئ الله المؤمنين تنشئة قوية يستطيعون ويثبتون فيها لرؤية الله -عز وجل-.

التنشئة غير التنشئة، تنشئة صفات، والذوات هي هي؛ ولهذا يكون الناس طولهم في الجنة على طول آدم: ستون ذراعا في السماء، وأما العرض فجاء في حديث رواه الترمذي في سنده بعض الضعف أن عرض الواحد سبعة أذرع لكن فيه ضعف.

أما الطول فثابت في الصحيح، في البخاري أن طول ابن آدم ستون ذراعًا هي هي ذاته، لكن الصفات، وكذلك الكافر يعظم خلقه في النار، جاء في صحيح مسلم: أن ضرس الكافر في النار مثل جبل أحد .

حتى يعذب، يوسع جلده لكن هو هو، ليس شخصا آخر، فهؤلاء الزنادقة الذين شبهوا، فهذه من الأمثلة التي شبه فيها الزنادقة وتأولوا القرآن على غير تأويله، قالوا بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا قالوا: جلودًا أخرى هي التي أبدلت فالله يعذب جلودًا لم تذنب فيكون ظالما، نعوذ بالله، تعالى الله عما يقولون.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام