بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني -رضي الله عنه، وأثابه الجنة وغفر لنا وله بمنه وكرمه آمين-:
السند في الرسالة، تحقيق الشيخ إسماعيل الأنصاري
أخبرنا أبو الطاهر المبارك بن المبارك بن معطوشي في كتابه: أن أبا طلحة أن محمد بن محمد بن أحمد ابن المهدي بالله أجاز له أن أبا القاسم عبد العزيز بن علي الأزدي أجاز لهم عن أبي بكر عبد العزيز المعروف بغلام الخلال قال: أنبأنا أبو بكر الخلال قال: أخبرنا الخضر بن مثنى الكندي قال: أنبأنا عبد الله بن أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- قال: هذا ما أخرجه أبي -رحمه الله - في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله، قال-رحمه الله تعالى ورضي عنه.
-إذًا هذا سند الرسالة، متصل السند. -
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبّهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين.
هذه خطبة الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- في هذه الرسالة، وهي خطبة عظيمة ما زال العلماء ينقلونها في كتبهم ويستشهدون بها، كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-وغيره من أهل العلم.
وكثير من أهل العلم يستشهدون بهذه الرسالة، ويقولون قال الإمام أحمد في رسالة الرد على الزنادقة"الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم"ويسردونها، فهي خطبة عظيمة، فاستشهاد العلماء من أهل السنة والجماعة ونقل هذه الرسالة في كتبهم أيضًا من الأدلة التي تثبت نسبة هذه الرسالة للإمام -رحمه الله-.
يقول:"الحمد لله": الحمد هو الثناء على المحمود بصفاته وأعماله مع حبه وإجلاله وتعظيمه، هذا هو الحمد: ثناء على المحمود بالصفات والأعمال والأفعال مع حبه وإجلاله وتعظيمه، بخلاف المدح، فالمدح ثناء بدون حب وإجلال، فأنت تمدح الأسد تقول: هو قوي العضلات ولا تحب الأسد، تمدح الأسد ولا تحبه، هذا هو الفرق بين المدح وبين الحمد.
المدح: ثناء وإخبار بصفات لكن لا إرادة حب وإجلال وتعظيم، أما الحمد فهو ثناء بالصفات الاختيارية الجميلة والأفعال مع الحب والإجلال؛ ولهذا جاء الحمد في حق الله تعالى دون المدح فوصف نفسه بالحمد ولم يصف نفسه بالمدح، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ولم يقل: أمدح الله رب العالمين.
الحمد: ثناء على الله -عز وجل- مع حبه وإجلاله وتعظيمه -سبحانه وتعالى-.
والحمد أعم من الشكر من وجه وأخص من وجه، فالحمد والشكر بينهما عمومٌ وخصوصٌ وجهي، يجتمعان في شيء، ويختلفان في شيء.
فالشكر يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح فمن هذه الجهة يكون الشكر أعم؛ ولهذا قال سبحانه: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ .
فالشكر يكون بالقول ويكون بالعمل ويكون بالقلب (باللسان وبالقلب وبالجوارح) ، أما الحمد فإنه يكون باللسان مع اعتقاد القلب؛ ولهذا قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة
يدي ولساني والضمير المحجبا
والحمد أيضًا يكون في مقابل الجميل وبدون مقابل، فالله تعالى يُحمد لِمَا اتصف به من الصفات العظيمة، وبما أنعم به على عباده من النعم العظيمة، خلقهم وأوجدهم من العدم، ورباهم بنعمه، وهداهم وعلمهم وأعطاهم الأسماع والأبصار والأفئدة، فهو -سبحانه وتعالى- يستحق الحمد؛ لما اتصف به من الصفات العظيمة، والأفعال الجميلة، ويستحق الحمد؛ لإنعامه وإفضاله -سبحانه وتعالى-.
أما الشكر فإنه يكون في مقابل النعمة، تشكر الشخص في مقابل الإحسان، أما إذا لم يكن هناك إحسان فلا يكون هناك شكر، وبهذا يكون الحمد أعم من جهة وأخص من جهة، الشكر يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح، والحمد يكون باللسان، والحمد يكون في مقابل النعمة وفي غير مقابل النعمة، والشكر لا يكون إلا في مقابل النعمة.
"الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم"، هذه الرسالة -كما سبق- سماها المؤلف -رحمه الله-:"الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله".
والجهمية نسبة إلى جهم بن صفوان السمرقندي نسبت إليه الجهمية التي تنفي الصفات عن الله -عز وجل-؛ لأنه أظهر هذه البدعة، وإن لم يكن هو أول مَن تكلم في هذه البدعة، فإنه سبقه إليها شخص آخر يدعى الجعد بن درهم سبق الجهم فهو أول من حُفظ عنه في الإسلام مقالة التعطيل.
والتعطيل الذي ابتدعه الجعد بن درهم إنما هو في كلمتين قال: إن الله لم يكلم موسى تكليمًا، ولم يتخذ إبراهيم خليلًا، لكن هاتين الصفتين ترجع إليهم جميع الصفات، قال: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، فأنكر الخلة والمحبة، وقال: ليس هناك محبة ولا خلة ؛ لأن المحبة لا بد أن تكون لنسبة بين المحب والمحبوب، ولا نسبة بين الخالق والمخلوق.
وهذا معناه: قطع الصلة بين العباد وبين ربهم، وأنكر الجعد أن يكون الله كلم موسى تكليمًا، وإنكار التكليم معناه إنكار الرسالات والشرائع؛ إذ الرسالات والشرائع كانت بالكلام من الله تعالى، تكلم الله فأرسل الرسل وأنزل الكتب بالكلام، فإنكار الكلام إنكار للرسالات والشرائع؛ فلهذا أفتى العلماء -وهم من التابعين- بقتل هذا الرجل، وأنه يستحق القتل والإعدام، فقتله خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق بواسط، لما أفتاه علماء أهل زمانه -وهم من التابعين- وذلك في يوم عيد الأضحى، خطب الناس بعدما صلى العيد، وقال في نهاية الخطبة -وكان الجعد عنده في أصل المنبر مقيدا- فقال في آخر الخطبة: ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا، ثم نزل فذبحه ذبح الشاة، فشكره العلماء وأثنوا عليه، ومن هؤلاء العلامة ابن القيم في"الكافية الشافية"حيث قال:
ولذا ضحى بجعد خالد
القسري يوم ذبائح القربان
إذ قال إبراهيم ليس خليله
كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنةٍ
لله درك من أخي قربان
ولا شك أن أهل السنة شكروه، ولا شك أن هذه الأضحية يزيد أجرها على كثير من الضحايا؛ لأن فيها قطعا لدابر الفتنة والفساد، هي أفضل من الأضحية، الأضحية سُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن هذه فيها قطع لدابر الفتنة والبدعة والضلالة.
لكن الجهم بن صفوان كان قد اتصل به قبل أن يُقتل، وتقلد عنه هذه المقالة، وتبنى عقيدة نفي الصفات، ونشرها ودافع عنها حتى نسبت هذه المقالة للجهمية نسبة إلى الجهم بن صفوان وإلا فالأصل يقال: الجعدية لكن الجعد قتل في أول إظهاره لهذه البدعة قبل أن تنتشر، ثم نشرها الجهم بن صفوان
والجهم بن صفوان أيضًا قيض الله به من يقتله؛ حيث قتله سلم بن الأحوز أمير خراسان بها؛ ولهذا سمى المؤلف أحمد بن حنبل -رحمه الله- هذه الرسالة (الرد على الجهمية والزنادقة ) .
الزنادقة جمع زنديق، ويطلق الزنديق على الملحد الجاحد للخالق، والمتحلل من الأديان، ويطلق على المنافق زنديق، كما ذكر شيخ الإسلام وغيره: كان السابقون يسمونه منافقا، وهو الذي يبطن الكفر ويظهر الإيمان، ثم اصطلح المتأخرون على تسميته بالزنديق، وهي كلمة فارسية معربة فهي تطلق على الجاحد المعطل المتحلل من الأديان، وتطلق على المنافق؛ ولهذا ذكر أهل اللغة -كما في المصباح المنير- قالوا: إن الزنادقة جمع زنديق وهو الذي لا يتمسك بشريعة، ويقول بدوام الدهر، وفي التهذيب للأزهري بأنه الذي لا يؤمن بالآخرة، ولا بوحدانية الخالق، هذا هو الزنديق.
إذًا الزنديق: يطلق على الملحد الجاحد المعطل، ويطلق على المنافق الذي يبطن الكفر ويظهر الإيمان والإسلام.
وقول المؤلف يقول:"الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل"الزمان: معروف جمع أزمنة وهو الوقت، ويطلق على الوقت القليل والكثير، والسنة أربع أزمنة وهي الفصول الأربعة: الربيع والخريف والشتاء والصيف.
فالزمان: هو الوقت، والفترة: هي الانقطاع، والمعنى"على فترة من الرسل"يعني: على انقطاع بعثهم، ودروس أعلام دينهم.
وتطلق الفترة على ما بين الرسولين، ما بين عيسى ومحمد -عليهما الصلاة والسلام- يسمى فترة"الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم"يعني: في الوقت الذي يكون فيه انقطاع واندراس أعلام الدين يقيض الله من أهل العلم بقايا يدعون الناس إلى الخير.
جاء في معنى كلام الإمام أحمد -رحمه الله- حديث: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها وهو حديث لا بأس بسنده، رواه أبو داود وغيره، فهذا يؤيد ما ذكره الإمام -رحمه الله- في هذه الخطبة.
"الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم"كلما اندرس الدين وضعف وحصل انقطاع ودروس من أعلام الدين فإن الله يهيئ من أهل العلم بقايا يدعون الناس إلى الحق ويبصرونهم ويردونهم إلى الصواب.
فالفترة: هي الانقطاع يقال: فتر عن العمل أي: انكسر حدته، وفتر عن الحر: إذا انكسر، والفترة من الرسل يعني: انقطاع ودروس أعلام الدين، ففي هذا الوقت يقيض الله للناس من يجدد دينهم ويدعوهم إلى الهدى؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-"الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى"يدعون الضال إلى الهدى، ويردونه إلى الصواب.
والضلال: هو الانحراف عن شرع الله ودينه يقال له: ضلال، والهدى: هو العلم النافع، والعلم النافع هو المأخوذ من الكتاب والسنة، فالذين انحرفوا عن الحق وعن جادة الصواب يدعوهم هؤلاء البقايا من أهل العلم في وقت زمان الفترة، يدعونهم إلى الهدى إلى العلم المأخوذ من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم،"ويصبرون منهم على الأذى"، هكذا شأن الدعاة والمصلحين يتأسون بالرسل -عليهم الصلاة والسلام- يصبرون على الأذى؛ لأن الداعية إذا دعا الناس إنما يقف في وجوه الناس ويصدهم عن رغباتهم وأهوائهم وشهواتهم، وهم لا يرضون بذلك، فلا بد أن يؤذوه إما بالقول أو بالفعل، فلا بد من الصبر، فإذا لم يتسلح الداعية أو العالم بسلاح العلم فإنه لا يستطيع أن يقوم بالدعوة، لا بد من الصبر؛ ولهذا قال الله سبحانه في كتابه العظيم: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ والصبر لا بد منه في أداء الفرائض والواجبات، ولا بد منه في ترك المحرمات، ولا بد منه في الدعوة إلى الله، من لم يصبر لا يستطيع أن يقوم بالدعوة.
ولهذا قال الإمام أحمد -رحمه الله-: إن هؤلاء العلماء هم البقايا من أهل العلم في الزمان الذي تندرس فيه أعلام الدين، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يصبرون إذا سبوهم أو شتموهم أو ضربوهم، ولا بد من الصبر تأسيًا بالرسل.
الرسل -عليهم الصلاة والسلام- أوذوا وصبروا، كما في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يحكي نبيًّا ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون .
ونوح -عليه الصلاة والسلام- أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، مكث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم ويصبر هذه المدة الطويلة وهم يردون عليه ردًّا سيئًا، ويقابلونه مقابلة سيئة، ويقولون: إنه مجنون حتى أخبر الله عنه أنه قال: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا .
هكذا كان نبينا -عليه الصلاة والسلام- يصبر، وأولو العزم لهم من القوة والصبر والتحمل والجلد ما ليس لغيرهم، حتى قال الله لنبينا -صلى الله عليه وسلم-: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ فنبينا -عليه الصلاة والسلام- صبر صبرًا عظيمًا، دعا قومه بمكة ووضعوا سلا الجزور على ظهره وهو ساجد، وأتاه أبو جهل مرة فخنقه -عليه الصلاة والسلام- حتى جاء أبو بكر وأطلقه وقال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وكسرت رباعيته يوم أحد، وجُرحت وجنتاه، وسال الدم على وجهه -عليه الصلاة والسلام-.
فالصبر لا بد منه، فالصبر هو الذي يتحلى به الرسل والدعاة والمصلحون أسوة برسل الله، ومنزلة الصبر من الدين كمنزلة الرأس من الجسد، من لا صبر له لا دين له؛ ولهذا قال:"ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى"هؤلاء العلماء أتباع الرسل يحيون بكتاب الله الموتى؛ لأن الكافر ميت القلب، فإذا أسلم وآمن وقرأ كتاب الله وآمن به أحياه الله، قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا .
فالكافر ميت القلب، وإن كان يمشي بين الناس؛ لأن الحياة الحقيقية حياة القلب؛ ولهذا سمى الله القرآن روحًا؛ لتوقف الحياة الحقيقية عليه، وسماه نورًا؛ لتوقف الهداية عليه، قال الله سبحانه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ؛ ولهذا قال الإمام أحمد -رحمه الله-:"يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى".
وهكذا الجاهل والضال والكافر أعمى القلب وإن كان يبصر؛ لأنه لا يرى الحق ولا يعمل به، والعمى في الحقيقة عمى القلب ليس عمى البصر؛ لأن الإنسان إذا عمي بصره وقلبه حيّ ودينه مستقيم فلا يضره، قال تعالى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ وقال سبحانه: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ .
يقول الإمام أحمد -رحمه الله-:"فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه"كم: للتكثير كم من قتيل كم من شخصٍ قتله إبليس فأحياه أهل العلم، كيف قتله إبليس؟ قتله: يعني: قطع رقبته بالسيف؟ لا. بل قتله بالإضلال، قتل روحه وقتل قلبه وقتل اعتقاده، قتله بأن سوّل له الكفر، سوّل له الضلال، سول له الانحراف، فكان بذلك قتيلًا لإبليس، هذا هو القتيل الحقيقي.
القتيل: هو الذي قتل قلبه، وهو الذي أزيل اعتقاده، ولم يعتقد اعتقادًا صحيحًا في الله وأسمائه وصفاته هذا هو القتيل، أما القتيل قتيل الجسد وعقيدته سليمة وأعماله مستقيمة لا يضره إذا كان مظلوما يكون شهيدا، لكن المصيبة قتيل الروح والاعتقاد والدين.
"فكم من قتيل"يعني: قتيل قُتِلَ دينه واعتقاده وتفكيره السليم،"فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه"يعني: ما أكثر الذين قتلهم إبليس وأحياهم العلماء؛ لأن"كم"هنا للتكثير، كما قال سبحانه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ يعني: كثيرا.
"فكم من قتيل لإبليس قد أحياه العلماء، وكم من تائهٍ ضالٍّ قد هدوه"يعني: كثير من الضلّال الذين ضلوا عن الصواب وتاهوا عن طريق الحق قد هداه أهل العلم، ما أكثرهم! يعني: يقول الإمام أحمد ما أكثر الذين قتلهم إبليس فأحياه أهل العلم، وما أكثر الذين ضلوا عن الصواب وتاهوا عن الحق والهدى قد هداهم أهل العلم، هدوهم يعني: دَعَوْهُمْ إلى الحق، وبينوا لهم، وأوضحوا لهم، فهداهم الله بسببهم،"فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم!"فما أحسن أثر العلماء على الناس! وما أقبح أثر الناس على العلماء!.
قوله:"فما أحسن أثرهم"يعني: العلماء على الناس،"وأقبح أثر الناس عليهم"أي: على العلماء،"ما أحسن"للتعجب. ما هو أثر العلماء على الناس؟ دعوتهم وإرشادهم وتنبيههم والنصيحة لهم، ينقذونهم من ظلمات الشرك والجهل والبدعة إلى نور العلم واليقين والسنة، هذا أثرهم الحسن.
فهم ينقذونهم من الضلالة، ينقذونهم من الكفر، ينقذونهم من البدعة، هذا أثر عظيم يفوق إطعامهم وكسوتهم والنفقة عليهم؛ لأن الإطعام والكسوة والنفقة معروف فضلها، لكن هذه نفقة وإطعام وكسوة للجسد، والجسد في هذه الدنيا يهيئ الله له من يقيم أوده، ولكن التعليم والإنقاذ من الجهل والكفر والضلال والبدعة هذا أمر عظيم يفوق الإحسان إلى الناس بالمال.
ولهذا قال الإمام أحمد"وما أحسن أثرهم على الناس"وبالمقابل قال:"وأقبح أثر الناس عليهم"أثر الناس على العلماء هو أنهم يؤذون العلماء ولا سيما الجهال، فهم يسبونهم يشتمونهم ويرمونهم بالبدعة، وقد يقتلونهم حتى الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ماذا فعل بهم أقوامهم وهم مقدمة العلماء وهم أعلم الناس بالله -عز وجل- إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة السلام- هم أعلم الناس بالله، ثم أتباعهم من بعدهم، وأثر الناس على الأنبياء ضربوهم وجرحوهم وشتموهم وقتلوا بعضهم.
قال تعالى: فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ زكريا -عليه الصلاة السلام- قُتِلَ، ويحيى -عليه الصلاة والسلام- قُتِل، أثر الناس عليهم قبيح وسيئ؛ لأنهم دعوهم إلى الله، وهم بدعوتهم إلى الله ينقذونهم من الجهل والكفر بعض الأنبياء ضربه قومه حتى أدموه.
وبعض العلماء سُجِن، وبعض العلماء ضُرب بالسياط كالإمام أحمد -رحمه الله-، ضرب وسُحِب وسُجِن هذا أثر الناس على العلماء.
أما أثر العلماء على الناس فهو حسن؛ ولهذا قال الإمام أحمد"ما أحسن أثر العلماء على الناس وأقبح أثر الناس عليهم".
أثر الناس على العلماء سيئ بالقتل والضرب والسجن والإيذاء والشتم والرمي بالبدعة والتكفير إلى غير ذلك.
وأما أثر العلماء على الناس فالدعوة والإرشاد والإيضاح والإنقاذ من الجهل؛ لذا قال الإمام أحمد"ما أحسن أثرهم أي العلماء على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم أي: العلماء".
ثم قال -رحمه الله- يبين وصف العلماء وأعمالهم الجليلة قال:"ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين"هذه من أعمالهم، النفي: الإزالة أي: يزيلون ويبعدون عن كتاب الله تحريف الغالين.
والتحريف: التغيير والتبديل، وتحريف الكلام أن يعدل به عن جهته. وقول الله تعالى: إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أي: إلا مائلًا لأجل القتال لا مائلًا للهزيمة، وتحريف الكتاب يكون باللفظ ويكون بالمعنى، قد يحرف اللفظ وقد يحرف المعنى، فمن تحريف اللفظ تحريف بعض الجهمية قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا بنصب لفظ الجلالة حتى يكون الله هو المُكلَّم، وموسى المُكَلِّم، فهم بهذا ينفون الكلام عن الله.
ومن تحريف المعنى تحريف بعض الجهمية لما استدل عليهم بعض أهل السنة على إثبات الكلام بقوله سبحانه: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا قال الجهمي:"وكلم الله هو المُكَلَّم ولا يتكلم. فقال له: كيف تفعل بقول الله -عز وجل-: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ فقال: جرحه بأظافير الحكمة، هذا تغيير للمعنى من الْكَلْم يعني: الجرح، ومنه قول العرب: فلانٌ كَلْمه يدمي أي: جرحه."
ومن ذلك أيضًا تحريف الجهمية والمعتزلة لمعنى قوله: استوى باستولى.
وكذلك تحريفهم معنى الرحمة بإرادة الإنعام، والغضب بإرادة الانتقام، والرضا بإرادة الثواب.
فالعلماء ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، الغالي: هو الشيء الذي يزيد عن الحد، يقال له: غالي، يقال: غلا في الدين غلوًّا: من باب تصلب وشدد يقال: غلا في الدين، ومنه قول الناس: غلا السعر، أي: ارتفع، وغلت القدر، وغلا في الأمر غلوًا أي: جاوز الحد، ومنه قول الله تعالى: لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ .
فالغلاة في هذا: الذين يغلون كثيرون منهم من غلا في الصفات، ومنهم من غلا في القَدَر، ومنهم من غلا في الصحابة فمثلًا: الجهمية والمعتزلة ينفون الصفات عن الله -عز وجل- والأسماء، هذا تعطيل وتقسيم بزعمهم أنهم ينزهون الله، هذا غلو في التنزيه، هذا يصلح مثال غلو في التنزيه، قالوا -بزعمهم-: نحن الآن نريد أن ننزه الله، كيف تنزهون الله؟ قالوا: لو أثبتنا لله أسماء وصفات لشابه المخلوقين، فنحن ننزه الله عن مشابهة المخلوقين، فننفي الأسماء والصفات.
نقول: هذا غلو في التنزيه زدتم عن الحد، التنزيه أن يقال: إن الله لا يشبه أحد المخلوقين في أسمائه وصفاته، لكن لا تنفوا عنه الصفات، له أسماء وله صفات -سبحانه وتعالى - تليق بجلاله وعظمته، لا تشبه صفات المخلوقين، لا يشابه الله أحدًا من خلقه لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله، أما هؤلاء غلوا فزادوا حتى نفوا الأسماء والصفات عن الله، فالعلماء ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين.
كذلك أيضًا المشبّهة الذين غلوا في الإثبات، قالوا: نحن نثبت لله الأسماء والصفات، لكن نقول: لله أسماء وصفات مثل صفات المخلوقين، ومثل أسماء المخلوقين، وأن الله يعلم كعلمنا ويقدر كقدرتنا، ويرى كرؤيتنا.
قالوا: إن الله مثل الإنسان على صورة الإنسان، حتى قال غلاتهم -من الشيعة الغلاة الكفرة-: إن الله يندم ويحزن ويبكي، وأنه ينزل عشية عرفة ويُسامر ويُحاضر ويُصافح، وينزل عشية عرفة على جمل -قبحهم الله- وأغلبهم من غلاة الشيعة كفرة.
هذا غلوّ، زادوا غلوا في الأسماء والصفات حتى قالوا: إن الله مثل المخلوقين-تعالى الله عن ذلك-، فهذا الغلو ينفيه أهل العلم، هذا معنى قول الإمام أحمد ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين"."
كذلك القَدَرية القَدَرية طائفتان: النفاة والغلاة، فالنفاة يقولون: إن الله تعالى لم يقدر أفعال العباد وأن العباد خالقون لأفعالهم، هذا غلو في إثبات أفعال العباد، ويستدلون بالمتشابه، كما قال الإمام أحمد حتى قالوا: إن العباد خالقون لأفعالهم ويستدلون بمثل قوله تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ .
ويقولون: إن العبد يستحق الثواب على الله، كما يستحق الأجير أجره؛ لأنه هو الذي خلق فعله؛ لقوله تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ كما أن العاصي الذي يموت على الكبيرة يجب على الله أن يعذبه به وأن يخلده في النار، هكذا أوجبوا على الله، هذا غلوّ.
وهناك القدرية الجبرية الذين يقولون: إن العبد مجبور على أفعاله، وأنه ليس له أفعال، وأفعاله كلها اضطرارية، كحركات المرتعش والنائم، ونبض العروق، فهؤلاء غلاة، هؤلاء غلو في إثبات أفعال العباد، حتى قالوا: إن العباد خالقون لأفعالهم.
وأولئك غلوا في سلب العبد لأفعاله، حتى قالوا: إنه لا أفعال له، وأن أفعاله كلها اضطرارية، فهذا غلو وهذا غلو، فالعلماء ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين.
إذًا هذا كله من التحريف، كله من الغلو الذي ينفيه العلماء عن كتاب الله -عز وجل، وهؤلاء وهؤلاء كلهم يستدلون بالقرآن، لكن كما قال الإمام أحمد يستدلون بالمتشابه، ويشككون الناس، ويتأولون القرآن على غير تأويله؛ ولهذا قال الإمام أحمد -رحمه الله-:"ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين"، انتحال نسبة الشيء، وهو أن ينسب إليه شيءٌ ليس فيه؛ ولهذا في اللغة: نحلته القول: إذا أضفت إليه قولًا قاله غيره وادعيته عليه، ونحله القول: -في القاموس- نحله القول: كمنعه نسبه إليه، فالمبطلون ينسبون للقرآن ما ليس منه كما سيأتي في الأمثلة الكثيرة التي يذكرها الإمام أحمد -رحمه الله- أنهم يقولون مثلًا: إن في القرآن أن الناس يُعَذَّبُون بغير جرم يستدلون بمثل قوله تعالى: بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا .
هذا من المتشابه، هذا من نسبة المبطلين للقرآن ما ليس منه يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ قالوا: إن القرآن فيه أن هناك أرضا ثانية غير هذه الأرض، ويستدلون بالآية مثلًا، وسيأتي الجواب على هذا.
هذا من الباطل الذي نسبه المبطلون إلى القرآن، فالعلماء ينفون عن القرآن انتحال المبطلين.
أرجو بيان توجيه أهل السنة لهذين الحديثين: قوله -صلى الله عليه وسلم-: أما إنك لو زرته لوجدتني عنده ما مفهوم العندية هنا؟
الحديث هذا سيأتي أوله يقول الله تعالى في الحديث القدسي: مرضت فلم تعدني قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلو عدته لوجدت ذلك عندي، عبدي جعت فلم تطعمني، قال: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي، عبدي استسقيتك فلم تسقني، قال: كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي استسقاك فلو أسقيته لوجدت ذلك عندي .
فالحديث صريح بأن الله لم يمرض، ولم يأكل، ولم يشرب، وإنما العبد هو الذي مرض وطعم وسقي، ومعنى وجدت ذلك عندي أي: ثواب ذلك عندي وإلا فالله مستوٍ على عرشه، بائنٌ من خلقه، وهذه نصوص محكمة، النصوص التي فيها إثبات العلو وأن الله فوق العرش يقول العلماء: أكثر من ثلاثة آلاف نص كلها تدل على أن الله في العلو، وأن الله فوق السماوات، ولا يتعلق بمثل هذا الحديث المتشابه إلا أهل الزيغ، كما قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فالحديث صريح في أن الله ما مرض، ولا طعم ولا شرب، وإنما هذه من العبد أما علمت أن عبدي مرض؟ أما علمت أن عبدي جاع؟ أما علمت أن عبدي استسقى؟ فالعبد هو الذي مرض وهو الذي جاع، وهو الذي استسقى، لوجدت ذلك عندي يعني: ثوابه.
هل الجهمية كفار؟
ذكر ابن القيم أنه كفرهم خمسمائة عالم قال:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في
عشر من العلماء في البلدان
واللالكائي الإمام قد حكاه عنهمُ
بل قد حكاه قبله الطبراني
ومن العلماء من كفر الغلاة، منهم من كفرهم بإطلاق، ومنهم من بدعهم، ومنهم من كفر الغلاة دون العامة، وهذا القول وسط له وجاهته، لا بد من قيام الحجة وإلا العلماء لهم نصوص كثيرة في تكفير الجهمية
هل الإباضية من الزنادقة ؛ لأنهم يؤولون الصفات، وما حكم الصلاة خلفهم؟
الإباضية طائفة من الخوارج والمعروف عند جمهور العلماء أن الخوارج مبتدعة وليسوا كفارًا، كما نقل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: إن الصحابة عاملوا الخوارج معاملة المبتدعة ولم يعاملوهم معاملة الكفار. سُئِلَ الإمام علي -رضي الله عنه- عن الخوارج أهم كفار؟ قال: من الكفر فروا.
فالمشهور عند جمهور العلماء أنهم مبتدعة، وبعض العلماء كفرهم، واستدل بالأحاديث التي فيها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتلهم قال: يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية وفي بعضها: يمرقون من الدين ثم لا يعودون إليه وفي بعضها: لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد شبههم بقوم عاد وهم قوم كفار، والأحاديث في الصحيحين وفي غيرهما فاستدل بعض أهل العلم بكفرهم بهذه الأحاديث وهي أحاديث قوية، لكن الجمهور على أنهم مبتدعة، وعليه عمل الصحابة كما بين ذلك شيخ الإسلام وغيره من أهل العلم.
بعض المتعالمين في بلدنا يقول: إن الأمة الآن محتاجة للتكاتف والتجمع، وبعض الشباب -هداهم الله- يسهرون الليل وهم يدرسون ويقولون: إن الله فوق العرش، وإن الله له يد، ويقول ذلك مستهزئًا، فما ردكم على مثل ذلك؟
الأمة محتاجة للاجتماع على الحق لا الاجتماع على الباطل، والحق لا يكون إلا باعتقاد صحيح، ولا بد للمسلم أن يعتقد أن الله فوق العرش، وأن الله له يد، من لم يعتقد أن الله فوق العرش فهو كافر، كيف تجتمع الأمة بدون عقيدة؟! لا بد من الاجتماع على الحق، الاجتماع على الباطل لا يفيد، الكفار ما أكثرهم!.
لا بد من الاجتماع على الحق، والذي يقول هذا يخشى عليه من الردة إذا كان يستهزئ بالصفات، نسأل الله السلامة والعافية.
هل بيان الأخطاء والتحذير منها من منهج السلف الصالح؟
نعم، يُبين الخطأ ويرد على المبطل، ما زال العلماء يردون قال الإمام مالك ما منا إلا راد أو مردود عليه إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
لا بد من بيان الحق، لكن مع التأدب مع العلماء، فالعالم إذا تكلم بكلام وأمكن مناصحته فهذا طيب، أما إذا نشر شيئا فلا بد أن يرد منشورا، إذا لم يرجع هو وينشر نقضًا للباطل الذي نشره، فلا بد أن يرد عليه حتى يرد الباطل بالحق، أما كون الإنسان يتتبع سقطات العلماء أو زلات العلماء فهذا شيء آخر في الكتب وفي غيرها، لكن التنبيه لا بد منه.
الصفات الذاتية والفعلية التي لم تثبت لله -تعالى- لا في الكتاب ولا في السنة فهل لنا أن ننفيها أم نثبتها أم نتوقف مثل الفم والشفتين والحيز والجهة وغيرها أحسن الله إليكم؟
الذي لم يثبت في الكتاب ولا في السنة ليس من الصفات، ما يقال: ذاتية ولا فعلية قاعدة عند أهل العلم الصفات توقيفية أي: يوقف فيها على الكتاب والسنة، ما جاء في الكتاب والسنة إثباته وجب إثباته، وما جاء في الكتاب والسنة نفيه وجب نفيه، وما لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة نتوقف فيه، ما نثبته ما نقول: إثبات فم ولسان وشفتين، لا بد من دليل، الصفات توقيفية، أما ما يطلقه أهل البدع من الجسم والحيز والعرض وغيرها، هذه يُتوقف فيها، لا يطلقونها لا نفيًا ولا إثباتًا، ومن أطلقها يُسأل عن مراده، إن أراد حقا قبل الحق ولكن يقال: عبر بالتعبيرات التي جاءت بها النصوص، وإذا أراد باطلًا رُد اللفظ والمعنى جميعًا.
فضيلة الشيخ يقولون: إن الإمام النووي -رحمه الله- كان أشعريًّا فهل هذا صحيح؟
نعم مشى على طريقة الأشاعرة وكذلك الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في تأويل الصفات، وقد لا يكون أشعريًّا يتمذهب بالأشعرية، ولكن في مسألة الصفات شرح صحيح مسلم مشى نفي الصفات وكذلك الحافظ ابن حجر ولكن هؤلاء العلماء الكبار السبب في هذا أنهم ما وفقوا منذ الصغر في وقت الطلب لمن ينشئهم على معتقد أهل السنة والجماعة وظنوا أن هذا هو الحق وأن هذا هو التنزيه، ونسأل الله أن يغفر لنا ولهم، وأن يكون هذا الخطأ مغفورا في بحور حسناتهم الكثيرة فإنهم علماء وأئمة وفطاحل من أهل العلم، لكن حصلت لهم هذه الغلطات وهذه الهفوات لا عن عمد؛ ظنا منهم أن هذا هو الحق بسبب أنهم نشئوا على هذا المعتقد معتقد الأشاعرة وظنوا أن هذا هو الصواب.
حديث: إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن هل في ذلك دليلٌ على الحلول؟
ليس في هذا دليل على الحلول، كما يليق بجلال الله وعظمته، والبينية أمرها واسع، أمَا تقرأ قول الله تعالى: وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ هل هناك ملامسة؟ السحاب بين السماء والأرض بينية، لا يلزم من البينية الملامسة، ولا يلزم من ذلك الحلول، أين السحاب من السماء؟ وأين هو من الأرض؟ هل السحاب حال في السماء أو حال في الأرض؟ لا.
ملاحظة: لم تكتب مناقشة الشيخ للطلاب؛ لأنها مذكورة في الشرح.
"الحمد لله"الله أعرف المعارف، وهو لفظ الجلالة، وأصل الله: الإله، سُهّلت الهمزة، ثم التقت اللام واللام فشددا. الله: علم على الذات المقدسة، علم على الرب -سبحانه وتعالى- ، لا يسمى به غيره، وهو مشتق من الألوهية، أَلهَ يأْلَه: إذا عبد، أله يأله إلهةً: عبد يعبد عبادة، فالله هو الاسم على الذات العلية، أعرف المعارف، كل أسماء الله -سبحانه وتعالى- مشتقة مشتملة على الصفات، تدل على صفة الألوهية،"الله": اسم للإله وهو يدل على صفة الألوهية مثل الرحمن: اسم مشتمل على صفة الرحمة، العليم: اسم مشتق من صفة العلم، قدير: اسم مشتق من صفة القدرة وهكذا.
وأسماء الله قسمان: قسم خاص به لا يسمى به غيره، وقسم مشترك الله خاص به لا يسمى به غيره -سبحانه وتعالى-، علم على الرب -سبحانه وتعالى-، الرحمن: كذلك علم لا يسمى به غيره؛ ولهذا لما تسمى مسيلمة الكذاب بالرحمن لزمه ولصق به وصف الكذب، فلا يطلق مسيلمة إلا ويوصم بالكذب، فيقال: مسيلمة الكذاب ؛ لأنه تسمى بالرحمن -قبحه الله- وهو كذاب.
والأسود العنسي ادعى النبوة باليمن لكن لا يقال ولا لصقه اسم الكذب، لا يقال: الأسود العنسي الكذاب وهو كذاب، لكن لزم مسيلمة ؛ لأنه تسمى باسم الرحمن، فلا يقال إلا: مسيلمة الكذاب
مالك الملك، خالق الخلق، النافع الضار المحيي المميت، هذه كلها أسماء خاصة بالله. وهناك أسماء مشتركة مثل العزيز العليم الحي القدير السميع البصير، كل هذه مشتركة تطلق على الله وعلى غيره: قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وهكذا.
يقول الإمام أحمد في خطبته:"الحمد الله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم".
الزمان: يطلق على الوقت القليل والكثير،"فترة"المراد بالفترة تطلق على ما بين الرسولين، والمراد على فترة من الرسل: انقطاع بعثهم، واندراس أعلام دينهم، وهذا فيه إشارة للحديث: إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها .
"يدعون من ضل إلى الهدى"هذه خصلة ووظيفة الرسل وأتباعهم،يدعون من ضل إلى الهدى.
"ويصبرون منهم على الأذى"، لأن الداعية والعالم والمصلح -وقبلهم الرسل -عليهم الصلاة والسلام- لا بد أن ينالهم أذى، إما بالقول أو بالفعل، فلا بد من الصبر، فإذا لم يصبر العالم أو الداعية فإنه لا يستطيع أن يقوم بواجبه؛ ولهذا قال:"ويصبرون منهم على الأذى".
"يحيون بكتاب الله الموتى"هذا وصف العلماء يحيون بكتاب الله الموتى، هل الناس موتى؟
نعم الجهل موت، قال الله تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ؛ لأن الحياة الحقيقية هي حياة الروح والقلب؛ ولهذا سمى الله القرآن روحًا؛ لتوقف الحياة الحقيقية عليه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ؛ ولهذا قال:"يحيون بكتاب الله الموتى".
"ويبصرون بنور الله أهل العمى"هل الناس عُمي؟ نعم الجاهل أعمى ولو كان يبصر بعينيه؛ لأن البصيرة هي البصر في الحقيقة، بصيرة الإنسان وعلمه هو النور الحقيقي؛ ولهذا سمى الله تعالى كتابه نورا قال: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .
"فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه"يقول الإمام أحمد في خطبته:"فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه"هل إبليس يقتل الناس؟ نعم يقتل، بأي شيء يقتلهم؟ بإضلالهم وتسويل الشرك والمعاصي، فمن زين له الشيطان الشرك وأطاعه فقد قتله، والمعاصي قتل نسبي ليس قتلًا كاملًا، القتل الكامل هو قتله بالشرك، والمعاصي وسيلة إلى القتل الكامل؛ ولهذا قال:"فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه"يعني: العلماء أحيوا كثيرا ممن قتلهم إبليس من المشركين وعباد الأوثان، دعوا عباد القبور والأوثان وهم قد قتلهم إبليس، فدعوهم إلى الله فآمنوا ووحدوا وأخلصوا العبادة فأحيوهم أنقذوهم أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ أنقذوهم بتوفيق الله وهدايته، وكذلك العصاة والمبتدعة أنقذوهم منه؛ ولهذا قال:"كم"، كم: للتكثير."فكم قتيل لإبليس قد أحيوه".
"وكم من ضال تائه قد هدوه"أي: كثير من الضلال الذين تاهوا عن الحق وضلوا الطريق المستقيم من المشركين والمبتدعة والضلّال العصاة قد هدوه، وبينوا لهم طريق الحق وطريق الصواب فاهتدى بإذن الله.