إن تعبير (أصول) أهل السنة والجماعة قد تقلص -وللأسف الشديد- أمام عوامل كثيرة، تاريخية، وسياسية، واجتماعية مختلفة، لكي يصبح معبراً في النهاية -عند الكثيرين، ولأول وهلة- عن جانب وحيد من الجوانب المتعددة والغنية لهذه الأصول. وهو جانب العقائد فقط بينما طغت أتربة الإهمال والنسيان -بل والتناسي في أحيان كثيرة على غير ذلك من (أصول) لا تقل أهميتها في ميزان الحق، وفي معيار النجاة والنجاح في الدنيا والآخرة عن أهمية (أصول) هذه الطائفة في جانب العقائد وحده! إننا لا ننكر أن جانب العقائد -وكما يقرر الإمام ابن رجب- خطره عظيم، والمخالف فيه على شفا هلكة- ولكن هل هذا يبرر أن نغمط بقية (الأصول) حقها ونتناسى هذه الجوانب الأخرى المضيئة التي تمثل -مع جانب العقائد- المرتكزات الأصلية والأعمدة الراسخة الثابتة التي يقوم عليها دائماً هذا البناء الشامخ، الذي يُجسّد تراث هذه الطائفة على مدار تاريخها كله؟ إن (أصول) أي شيء -وكما تخبرنا مراجع اللغة- هي الأسس التي يقوم عليها هذا الشيء. فهل الأسس التي قام عليها تراث هذه الطائفة -أهل السنة والجماعة- هي الأصول العقائدية فقط؟ وهل الحضارة التي حققت خيري الدنيا والآخرة على مدى تاريخ هذا الدين كله قامت فقط على الأصول العقائدية؟ أين الأصول العلمية، وضوابط المعرفة، وحدود العقل ومجالاته عندهم؟ أين أصولهم في النظر والاستدلال، ومناهج البحث والاستقراء؟ أين أصول فقه الواقع والحركة الإيجابية الواعية خلال هذا الواقع، وحدود المصالح والمفاسد المعتبرة عندهم؟ أين أصولهم في النظر إلى المخالف، والتي ينطلق منها منهج تعاملهم مع هذا المخالف؟ وأين الأصول التي تحكم علاقتهم هم بعضهم مع بعض؟ ثم أين الأصول التي تحكم علاقتهم مع عالم الأسباب من حولهم، والعلل الكونية التي جعلها الله سنناً مطردة صارمة، مؤدية إلى معلولاتها؟ أين؟ وأين؟ وأين؟
إننا عندما نتكلم عن غياب دراسة متكاملة عن (أصول) أهل السنة والجماعة، إنما نعني بذلك مؤلفاً منفرداً يستخرج ويجمع بين دفتيه كل هذه الأصول في دراسة علمية شاملة، وفي شكل أو نسق منهجي متكامل، تكون الأصول العقائدية ممثلة فيه كأحد بنوده الأساسية، وجوانبه الرئيسة، بالطبع. ولكنها ليست كل شيء فيه، وإن كانت أبرز ملامحه، وهذه الدراسة هي التي نسأل الله أن ييسر لهذه الأمة من ينجزها.
إن الاقتصار على جانب العقائد فقط باعتبارها هي كل شيء في (أصول) أهل السنة والجماعة، قد أوقع الكثير من الشباب المخلص -ومن حيث لا يدري- في تناقضات حادة تتصادم مع (أصول) أخرى كثيرة لأهل السنة والجماعة، تضبط سلوكهم، وتحكم حركتهم، أثناء تعاملهم مع واقع الأمور وحقائق الأشياء. إننا عندما نتكلم عن (أصول) أهل السنة والجماعة، فإنما نعني بذلك المناهج الشاملة، والمتكاملة لهذه الطائفة، والأصول المتعددة التي تنطلق منها -علماً وعملاً، فكراً وسلوكاً، عقيدة وشريعة- لكي تُحقق من خلالها دين الله في أرضه وليس فقط في نفوس أبنائها- وبالأسباب التي خلقها أو أمر بها الله -سبحانه وتعالى- طريقاً إلى ذلك. وهذا المعنى هو الذي نطلبه، ونبحث عنه، في بطون كتب التراث، مقياس ثابت وشامل، يجمع (أصول) هذه الطائفة في جوانبها المختلفة، ويضبط به المسلم منطلقاته الأساسية في جميع شئون حياته الدنيا، خلال رحلة سعيه إلى ربه عز وجل.