ولكن الله شاء -وسط هذا الخضم من التفرق والاختلاف- أن يُقيّض لدينه الحق من يحقق إرادة الله السابقة، بحفظ هذا الدين، فيقوم به بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خير القيام. فكانوا بحق، (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [سورة الأحزاب، الآية: 23] . إذ قام صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بهذا الأمر خير قيام، وأدوا الأمانة التي حملهم إياها ربهم- عز وجل -خير الأداء، ونقلوها لمن بعدهم من التابعين كاملة غير منقوصة. وكان التابعون من بعدهم خير خلف لخير سلف، فحملوا هم بدورهم أمانة هذا الدين لمن بعدهم من أئمة السنة، ومن سار على دربهم، واهتدى بهديهم غير مبالين بمخالفة المخالفين، وبتخذيل المخذلين من أهل الأهواء والبدع والضلالات، فتمسكوا بهدي نبيهم، صلى الله عليه وسلم، وسنته وآثاره، فالتزموا بها وحفظوها ولقّنوها لمن بعدهم.
وهكذا تَسَلّمَ أهل السنة والحق في كل قرن راية السنة وآثار النبوة ممن كان قبلهم من أهل الحق، وسلّموها بدورهم لمن جاء بعدهم مقتديا بهم، ومهتديا بهديهم من أبناء الأجيال اللاحقة، حتى غدت راية السنة ظاهرة ومتميزة في كل عصر وجيل، يحملها أفراد هذه الطائفة المنصورة عالية خفاقة، نقيّة طاهرة، حافظين إياها لمن بعدهم، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. يقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين، حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون" [1] .
وعلى مر العصور وتلاحق الأجيال، ترسخت أصول وقواعد هذه الطائفة الناجية، وتحددت مناهجها، وتميزت منابع فكرها، ومناهل علومها، ودونت عقائدها وتميزت عن غيرها من عقائد وأصول ما عداها من الفرق الأخرى، فكانت هذه الطائفة بين سائر فرق الملّة، كالملة الإسلامية بين سائر الملل الأخرى [2] . وتميز أهلها عن غيرهم، سواء في عقائدهم وفقههم أم في أخلاقهم وسلوكهم، فكانوا خير شاهد لهذا الدين، وأقام الله بهم الحجة على عباده في كل عصر وجيل، ومازال أئمة الهدى منهم شموسا ساطعة، تضيء الطريق لكل من أراد الله له الخير والهداية في اقتفاء آثار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والاهتداء بهديه، والاستنان بسنته.
(1) رواه البخاري.
(2) يقول ابن تيمية في الفتاوى ج4 ص140: ومن المعلوم أن أهل الحديث والسنة أخص بالرسول وأتباعه، فلهم من فضل الله وتخصيصه إياهم بالعلم والحلم وتضعيف الأجر ما ليس لغيرهم، كما قال بعض السلف: أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل) ا. هـ.