والكلام حول بدء الفتنة ونشوء الفرق يطول، ولكن نشير إلى لمحات في هذا الأمر لنصل في النهاية إلى كيف تميز أهل السنة والجماعة عن غيرهم:
1 -من المعلوم أن أول بدعة حدثت بدعة الخوارج والروافض، وذلك على أثر فتنة عبد الله بن سبأ ومقتل عثمان، -رضي الله عنه-، فالخوارج كفروا عَليًّا وخرجوا عليه، والروافض ادعوا إمامته وعصمته أو نبوته، أو إلهيته.
ثم بعد ذلك أخذت البدع تتوالى، فـ (لما كان في آخر عصر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك حدثت بدعة المرجئة والقدرية، ثم لما كان أول عصر التابعين -في أواخر الخلافة الأموية- حدثت بدعة الجهمية والمشبهة والممثلة، ولم يكن على عهد الصحابة شيء من ذلك) [1] .
2 -لما وقعت الفتنة عني المسلمون بالبحث عن الإسناد، ونقد الرجال، وذلك لأن السلف خافوا من الكذب على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وخاصة مع تفرق الأهواء وظهور البدع -روى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن سيرين، قال: (لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم) [2] . وابن سيرين كان يقول: (إن هذا الحديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) [3] .
فالعناية بالحديث من ناحية الرواية بدأ يتحدد في وقت الفتنة، وبدأ علماء السنة يميزون من تُقْبَل روايته ممن لا تقبل، فمن كان من أهل التباع والسنة قُبلت روايته، ومن كان من أهل البدعة ردت روايته إلا بشروط دقيقة [4] .
والملاحظ أن الكذب قد اشتهر عند الرافضة، ولذلك قال عنهم الإمام الشافعي-رحمه الله-: (لم أر أحدا من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة) [5] . ولما وقعت فتنة المختار -ذي الميول الشيعية- اشتهر في زمنه الكذب ووضع الحديث على رسول الله، صلى الله عليه وسلم. ولهذا روى الإمام أحمد عن جابر بن نوح عن الأعمش عن إبراهيم (النخعي) ، قال: إنما سئل عن الإسناد أيام المختار)، وسبب هذا أنه كثر الكذب على علِّي في تلك الأيام، كما روى شريك عن أبي إسحاق سمعت خزيمة بن نصر العبسي -أيام المختار وهم يقولون من الكذب- وكان من أصحاب عليّ- قال: (مالهم -قاتلهم الله-، أي عصابة شانوا وأي حديث أفسدوا) [6] .
ومع البدء بالحث عن الإسناد، ومعرفة الرجال وتميز رواياتهم أخذ أهل الحديث يتميزون عن غيرهم من أهل الأهواء، فظهر مصطلح (أهل الحديث) أي أهل السنة الذين يعنون بالحديث، والذين تقبل روايتهم لأنهم لم يبتدعوا ولم يتشربوا شيئًا من أقوال أهل الأهواء.
(1) المنتقى لابن تيمية ص387.
(2) صحيح مسلم، المقدمة ص15، وانظر: الكفاية ص162، 163، ط. هندية، وانظر: شرح علل الترمذي لابن رجب 1/ 51 تحقيق: عتر.
(3) الكفاية 162.
(4) حكم الرواية عن المبتدع تكلم عنها العلماء في كتب المصطلح. وقد قبلوا الرواية عنهم بشروط. وانظر: الكفاية ص159 وما بعدها. (هندية) وشرح علل الترمذي 1/ 53 وما بعدها. وانظر: تدريب الراوي 1/ 324 وما بعدها.
(5) الكفااية ص167.
(6) شرح علل الترمذي 1/ 52.