وبالرغم من ذلك كله أبى أكثر الناس إلا أن يختلفوا، و يتفرقوا _ إلا من رحم ربك_ فتنازعوا أمرهم بينهم، وغدوا شيعًا وأحزابًا، وجعلوا القرآن عضين [1] فضربوا بعضه ببعض واختلفوا على الحق من بعد ما جاءهم العلم والبينات بغيا بينهم. فحق فيهم قول الله -تعالى- (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) [سورة هود، الآية: 119] .
وقول رسوله، صلى الله عليه وسلم:"إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة _ يعني الأهواء _ كلها في النار إلا واحدة. وهي الجماعة" [2] . وفي رواية: قالوا من هي يا رسول الله؟ قال:"ما أنا عليه وأصحابي" [3] .
وقال قتادة: (أهل رحمة الله: أهل الجماعة، وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم. وأهل معصيته أهل الفرقة، وإن اجتمعت ديارهم وأبدانهم) [4] ا. هـ.
وهكذا لم يلبث الناس أن فارقوا هدي ربهم -سبحانه وتعالى- وسنة نبيهم، صلى الله عليه وسلم، فتجارت بهم الأهواء، وتجاذبتهم الاختلافات، وقدموا بين يدي الله ورسوله آراء الرجال، وضلالات الفلاسفة، وترهات المتكلمين، فضلوا وأضلوا عن سبيل الله، وصراطه المستقيم، ولبس عليهم الشيطان أمر دينهم. وصدق الله العظيم إذ قال: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) . [سورة الكهف، الآيتان: 103 - 104] .
يقول ابن كثير: ( .. إن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص، وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها، وأن عمله مقبول، وهو مخطئ وعمله مردود) [5] ا. هـ.
وصدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"لتتبعن سنن من كان قبلكم شبًرا بشبر وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ تبعتموهم"قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال:"فمن؟" [6] .
(1) (يقول ابن كثير قوله:(الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) . أي جزأوا كتبهم المنزلة عليهم فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، قال البخاري عن ابن عباس: (جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) . قال: هم أصحاب الكتاب جزأوه أجزاء، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه) ا. هـ. راجع مختصر ابن كثير ج2 ص319.
(2) أبو داود وصححه الألباني في هذه الرواية في تعليقه على شرح الطحاوية ص578 المكتب الإسلامي.
(3) رواية الترمذي.
(4) مختصر ابن كثير ج2 ص236.
(5) مختصر ابن كثير ج2 ص438.
(6) رواه البخاري.