فهرس الكتاب
الصفحة 176 من 222

وأهل السنة والجماعة إذا كانوا يكشفون أهل البدعة للناس ويبينون أمرهم، وينكرون عليهم باللسان واليد، فإنما يقومون بذلك من خلال ضابطين شرعيين أساسيين: (أحدهما) : أن يكون ذلك كله إخلاصاً لله وطاعة له وموافقة لأمره وأملاً في الإصلاح، لا أن يكون ذلك لهوى النفس أو استيفاء من أحد أو عداوة دنيوية له. (والضابط الآخر) : أن يكون ذلك كله من خلال عمل شرعي مأمور به، بحيث يُحقق المصلحة ويدرأ المفسدة حسب الأحوال والظروف المختلفة، وإلا لم يكن العمل مشروعاً ولا مأموراً به.

* (وإذا عرف هذا، فالهجرة الشرعية هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله: فالطاعة لا بد أن تكون خالصة لله، وأن تكون موافقة لأمره، فتكون خالصة لله صواباً. فمن هجر لهوى نفسه. أو هجر هجراً غير مأمور به: كان خارجاً عن هذا. وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه، ظانة أنها تفعله طاعة لله. والهجر لأجل حظ الإنسان لا يجوز أكثر من ثلاث ... فهذا الهجر لحق الإنسان حرام، وإنما رخص في بعضه، كما رخص للزوج أن يهجر امرأته في المضجع إذا نشزت، وكما رخص في الهجر ثلاث. فينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله، وبين الهجر لحق نفسه.(فالأول) : مأمور به. (والثاني) : منهي عنه، لأن المؤمنون إخوة). ج28 ص207، 208.

* (وهذا لأن الهجر من(باب العقوبات الشرعية) . فهو من جنس الجهاد في سبيل الله. وهذا يفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله. والمؤمن عليه أن يُعادي في الله، ويُوالي في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يُواليه وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية. قال -تعالى-: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا .. ) . إلى قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) . فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي، والأمر بالإصلاح بينهم. فليتدبّر المؤمن الفرق بين هذين النوعين، فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر، وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك، فإن الله -سبحانه وتعالى- بعث الرسل وأنزل الكتب، ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه، والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه). ج28 ص208، 209.

*(وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله. فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر، وخفيته كان مشروعاً، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف، بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته، لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف. ولهذا كان النبي، صلى الله علي وسلم، يتألف قوماً ويهجر آخرين. كما أن الثلاثة الذين خُلفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلفة قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين، وتطهيرهم من ذنوبهم، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح.

* وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل. ولهذا كان يُفرّق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة، والتجهم بخراسان، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك. ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم، وإذا عرف مقصود الشريعة، سلك في حصوله أوصل الطرق إليه). ج28 ص206، 207.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام