فهرس الكتاب
الصفحة 24 من 222

يقول الإمام ابن القيم: (إن النبي، صلى الله عليه وسلم، بين لأصحابه القرآن لفظه ومعناه، فبلغهم معانيه، كما بلغهم ألفاظه، ولا يحصل البيان والبلاغ المقصود إلا بذلك، قال -تعالى-: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (. وهذا يتضمن بلاغ المعنى، وأنه في أعلى درجات البيان، فمن قال: إنه لم يبلغ الأمة معاني كلامه وكلام ربه بلاغا مبينا، بل بلغهم ألفاظه، وأحالهم في فهم معانيه على ما يذكره هؤلاء لم يكن قد شهد له بالبلاغ.

وأما أهل العلم والإيمان فيشهدون له بما شهد الله به، وشهدت به ملائكته، وخيار القرون، أنه بلّغ البلاغ المبين، القاطع للعذر، المقيم للحجة، الموجب للعلم واليقين، لفظا ومعنى، والجزم بتبليغه معاني القرآن والسنة كالجزم بتبليغه الألفاظ، بل أعظم من ذلك، لأن ألفاظ القرآن والسنة إنما يحفظها خواصّ أمته، وأما المعاني التي بلغها فإنه يشترك في العلم بها العامة والخاصة.

قال حبيب بن عبد الله البجلي، وعبد الله بن عمر: تعلّمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا إيمانا، فالصحابة أخذوا عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ألفاظ القرآن ومعانيه، بل كانت عنايتهم بأخذ المعاني أعظم من عنايتهم بالألفاظ يأخذون المعاني أولا، ثم يأخذون الألفاظ ليضبطوا بها المعاني حتى لا تشذّ عنهم. فإذا كان الصحابة تلقُّوا عن نبيهم معاني القرآن كما تلقوا عنه ألفاظه لم يحتاجوا بعد ذلك إلى لغة أحد. فنقل معاني القرآن عنهم كنقل ألفاظه سواء.

فإذا كان السابقون يعلمون أن هذا كتاب الله، وكلامه الذي أنزله إليهم، وهداهم به، وأمرهم بأتباعه، فكيف لا يكونوا أحرص على فهمه ومعرفة معناه من جهة العادة العامة والعادة الخاصة؟! ولم يكن للصحابة كتاب يدرسونه، وكلام محفوظ يتفقهون فيه إلا القرآن، وما سمعوه من نبيهم، صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا إذا جلسوا يتذاكرون إلا في ذلك. بل كان القرآن عندهم هو العلم الذي يعتنون به حفظًا وفهمًا، وعملاً وتفقهاً، وكانوا أحرص الناس على ذلك، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، بين أظهرهم، وهو يعلم تأويله، ويبلغهم إياه، كما يبلغهم لفظه، فمن الممتنع أن يكونوا يرجعون إلى غيره في ذلك، ومن الممتنع أن لا تتحرك نفوسهم لمعرفته، ومن الممتنع أن لا يعلِّمهم إياه، وهم أحرص الناس على كل سبب ينال به العلم والهدى، وهو أحرص الناس على تعليمهم وهدايتهم، بل كان أحرص الناس على هداية الكفار.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام