وأخيرا .. وفي ختام هذا البحث يواجهنا التساؤل الذي لا مفر منه، والذي نعتقد أنه قفز - ولا شك - إلى ذهن القارئ، التساؤل الذي يراود كل المسلمين الصادقين، الذين يعيشون الواقع الإسلامي في السنوات الأولى للقرن الخامس عشر الهجري، ويتطلعون إلي ميلاد فجر صادق، وبدء مرحلة جديدة، وانطلاقة حقيقية تجاه الهدف الإسلامي الكبير. التساؤل الذي يقول: وما العمل إذن؟ ومن أين نبدأ؟ وما هي الخطوة الأولى؟ ونقطة الانطلاق في الطريق الصحيح نحو الهدف المنشود؟
إن تحديد الطريق الصحيح يجب أن يسبقه بداهة تحديد الغاية المقصود الوصول إليها بسلوك هذا الطريق. وتحديد الغاية يصاحبه أو يسبقه تشخيص للمفسدة المطلوب درؤها، أو المصلحة المطلوب تحصيلها من وراء بلوغ هذه الغاية. تماما كما يُحدد الطبيب الداء ويقرر الهدف من العلاج. ثم يختار الدواء الذي يحقق هذا الهدف وطريقة استخدام هذا الدواء.
إن عدم وضوح هذه النقاط جيداً في الذهن وعدم ترجمتها إلي منهج واضح المعالم، يتسبب دائماً في اضطراب التصورات، وتداخل الأهداف بالوسائل واختلاط المراحل، ونسيان الغاية الأهم في سبيل تحقيق مصالح جزئية ضيقة، أو الانسياق وراء أهداف مرحلية بعيدة عن المسار الأصلي نحو الأهداف النهائية الكبرى المرجوة.
وأيضا، فإن تشخيص الداء، وتقرير العلاج، يجب أن يصاحبه أو يسبقه دراسة نظرية جيدة، ثم فحص عملي دقيق يربط الظواهر بأسبابها الحقيقية، ويرد التصرفات إلى بواعثها الكامنة، ويرجع الخلل إلى علته الأولى.
نقطة البدء، إذن والخطوة الأولى في طريق الجهاد المبارك والتي يجب أن تسبق أي اختيار: هي الصبر على العلم: الصبر على العلم النظري، وتراث وخبرات السابقين من أهل الذكر والخبرة.
والصبر على العلم بالواقع والفحص الدقيق لاستقراء المناط الحقيقي، ليتنزل عليه حكمه الصحيح، والاستعانة في ذلك بأصحاب التخصص، وأهل الخبرة، واستخدام المقاييس والمعلومات المنضبطة كل في مجاله.
وأخيراً الصبر عل نتائج ذلك كله - أيًّا كانت - وإخضاع هوى النفس لحكم الحق وحده، وليس المسارعة إلى النتائج، ثم البحث عن المقدمات الملائمة لها، فإن هذا النوع من الصبر هو المحك الحقيقي لإخلاص النفس لله وحده، والصدق في المخبر والمظهر، وعدم التقديم بين يدي الله ورسوله.
إن المسلم الصادق مع ربه ومع نفسه عليه -وقبل أن يقدم على أي اختيار لهذا الطريق أو ذاك- أن يحدد موقفه تماماً أمام هذه القضايا سواء النظري منها أو العملي، وعليه أن يقرر بدقة -سيحاسب عليها أمام ربه - مبلغه من العلم الذي يؤهله أن يتخذ قراراً ينبني عليه اعتقاد أو عمل سيوضع في ميزانه أمام الله، يوم الموقف الأكبر وستؤخذ نتائجه له أو عليه، وسيحمل على ظهره حسنات أو سيئات من اتبعه على هذا القرار.
إن الله فرض أمر الشورى على هذه الأمة - أمرائها ومجتهديها، وعلمائها وأئمتها قبل عامتها - لأنه يعلم -عز وجل- أن العلم والحق ليس حكراً على إنسان بعينه أو إمام أو مجتهد بمفرده. وأن ما عند هذا من العلم ليس عند ذاك وأن ما يفتقده واحد يجده عند الآخر، وأن نسبة الخطأ في اتخاذ القرار تق بنسبة زيادة العلماء والمتخصصين العاكفين على دراسته. فإذا كانت الشورى واجبة على أمراء هذه الأمة وعلمائها ومجتهديها من أهل الحل والعقد، فكيف بعامتها وجمهورها ممن هم ليسوا أهلا للاجتهاد أو الفتوى سواء في الأمور العلمية أو في الاستقراءات الواقعية، أو في المجالات التخصصية.