فهرس الكتاب
الصفحة 217 من 222

المسلم مطالب إذن أن يعلم أولاً الأصول الثابتة والإطار الوحيد الذي لا يملك إنسان - يبتغي النجاة في الدنيا والآخرة - أن يخرج عليه وهو: القرآن والسنة، وفقه السلف الصالح - رضي الله عنهم - وما يؤدي إليه هذا الإطار من مقاصد عامة للشريعة، ومصالح معتبرة يدور حولها الاجتهاد في أمور الدين والدنيا. وعليه أن يعلم ثانياً الواقع المحيط علماً استقرائياً دقيقاً يمكن معه أن يصيب الحكم الشرعي الصحيح المطالب به إزاء هذا الواقع اعتقاداً وعملاً مبنياً على هذا الاعتقاد.

والمسلم الصادق مع ربه ومع نفسه عليه، خلال بحثه الدائم والمستمر عن العلم النظري والعلم بالواقع، أن يرجع إلى أهل الذكر وأصحاب التخصص قبل أن يتبنى حكماً، أو يتخذ قراراً، فهو مسئول عن ذلك أمام ربه - عز وجل-. فإذا غاب الإمام فهناك أهل الحل والعقد، وإذا غاب هؤلاء فهناك العلماء المجتهدون، فإذا غاب هؤلاء فأهل العلم المتخصصون كل في مجاله، فإذا تعذر فأعلم أهل الزمان والمكان، وهكذا الأعلم فالأعلم في جماعة السنة الشاملة، وكلما وسّع المسلم دائرة الشورى والرجوع إلى الغير ممن هم أهل للثقة علماً وعملاً - ويعلم هذا بالمباشرة أو بالاستفاضة - رفع الإثم عن نفسه أولاً أمام ربه، واقترب هو من الصواب في قراره وتقارب المسلمون - أيضا - وتجانست حركتهم، واندفعت بقوة في اتجاهها الصحيح بفضل الله ومنّه وكرمه.

إن الفتنة الكبرى التي ابتلي بها هذا العصر - وهي فتنة إبعاد شرع الله عن الحكم في الأرض - لم تنجح، ولن تنجح - بإذن الله - في القضاء على جماعة الحق والفرقة الناجية، والطائفة المنصورة - بمشيئة الله -. وإن كانت الإمامة الكبرى قد غابت عن هذه الجماعة فترة من الزمان فإن مسئولية الجماعة الأولى أصبحت - بعد الحفاظ على كيانها وائتلافها وتكتلها - أن تدفع بالأحداث في اتجاه القضاء على هذه الفتنة الأولى - التي يتفرع عنها كل الفتن بعد ذلك - وفي اتجاه إفراز القيادة الحقيقية القادرة علماً وعملاً على قيادة هذه الجماعة إلى المقدمة مرة أخرى وإعادة شرع الله ليحكم حياة الناس في ظل الخلافة الإسلامية.

إن الاعتقاد السائد عند كثير من المسلمين - بلسان الحال إن لم يكن بلسان المقال - أن مجرد الإنتماء لهذه الجماعة - جماعة أهل السنة - بالالتزام بعقائدها، كفيل بتحقيق نصر الله. ثم الاستنامة على هذا الاعتقاد انتظاراً لنصر الله، لهو ضربة في صميم اعتقاد أهل السنة، وعقبة كؤود في الطريق إلى نصر الله.

إن الخلل في فهم قضية القدر - كما فهمها سلف الأمة وأئمتها - والخلط بين ما أراده بنا وما أراده منا والركام الثقيل من عقائد الجبرية - التي تربى عليها أجيال وأجيال من هذه الأمة دون وعي أو إدراك - والذي تسرب بدرجاته المختلفة في فكر وسلوك كثير من المسلمين هو المبرر الحقيقي، والعلة الخفية لهذا الاعتقاد.

إن سلف الأمة وأئمتها قد استوعبوا هذه القضية استيعاباً حقيقياً، واكتشفوا بفضل الله ومنه وكرمه سنن الله الكونية الصارمة، والتي لا تحابي فرداً على حساب آخر، ولا جماعة على حساب أخرى. وأن ارتباط النتائج بمقدماتها، والمعلولات بعللها، والمسببات بأسبابها، سنة كونية مطردة، لا تتوقف - بأمر الله - إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

إن النتائج التي يتطلع إليها على وجه هذه الأرض أكثر المؤمنين إيماناً، وأشدهم ورعاً، وتقوى، سوف يجنيها أكثر الكافرين كفراً، وأشدهم فسقاً وفجوراً، إذا اتخذ المقدمات الصحيحة المؤدية إليها، بينما ينتظرها المؤمن ارتكازاً على إيمانه وحده، واعتماداً على ورعه وتقواه، دون أن يطلبها من مقدماتها التي خلقها الله -عز وجل- طريقا إليها. فأنّى يستجاب له؟!

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام