فهرس الكتاب
الصفحة 177 من 222

*(عن إسحاق أنه قال لأبي عبد الله: من قال: القرآن مخلوق؟ قال: ألحق به كل بلية. قلت: فيظهر العداوة لهم أم يداريهم؟ قال: أهل خراسان لا يقوون بهم. وهذا الجواب منه مع قوله في القدرية: لو تركنا الرواية عن القدرية لتركناها عن أكثر أهل البصرة. ومع ما كان يعاملهم به في المحنة: من الدفع بالتي هي أحسن، ومخاطبتهم بالحجج، يفسر ما في كلامه وأفعاله من هجرهم والنهي عن مجالستهم ومكالمتهم، حتى هجر في زمن غير ما أعيان من الأكابر، وأمر بهجرهم لنواع من التجهّم. فإن الهجرة نوع من أنواع التعزير، والعقوبة نوع من أنواع الهجرة التي هي ترك السيئات ... فالهجرة تارة تكون من نوع التقوى، إذا كانت هجراً للسيئات .. وتارة تكون من نوع الجهاد والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وهو عقوبة من اعتدى وكان ظالماً ..

* وعقوبة الظالم وتعزيره مشروط بالقدرة، فلهذا اختلف حكم الشرع في نوعي الهجرتين بين القادر والعاجز، وبين قلة نوع الظالم المبتدع وكثرته، وقوته وضعفه، كما يختلف الحكم بذلك في سائر أنواع الظلم من الكفر والفسوق والعصيان. فإن كل ما حرمه الله فهو ظالم، إما في حق الله فقط، وإما في حق عباده، وإما فيهما. وما أمر به من هجر الترك والانتهاء، وهجر العقوبة والتعزير، إنما هو إذا لم يكن فيه مصلحة دينية راجحة على فعله، وإلا فإذا كان في السيئة حسنة راجحة لم تكن سيئة، وإذا كان في العقوبة مفسدة راجحة على الجريمة لم تكن حسنة، بل تكون سيئة، وإن كانت مكافئة لم تكن حسنة ولا سيئة)ج28 ص211، 212.

* (فالهجران قد يكون مقصوده ترك سيئة البدعة التي هي ظلم وذنب وإثم وفساد، وقد يكون مقصوده فعل حسنة الجهاد، والنهي عن المنكر، وعقوبة الظالمين لينزجروا ويرتدعوا، وليقوى الإيمان والعمل الصالح عند أهله، فإن عقوبة الظالم تمنع النفوس عن ظلمه، وتحضّها على فعل ضد ظلمه، من الإيمان والسنة ونحو ذلك. فإذا لم يكن في هجرانه انزجار أحد ولا انتهاء أحد، بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها لم تكن هجرة مأموراً بها، كما ذكره أحمد عن أهل خراسان إذ ذاك: أنهم لم يكونوا يقوون بالجهمية. فإذا عجزوا عن إظهار العداوة لهم سقط الأمر بفعل هذه الحسنة، وكان مداراتهم فيه دفع الضرر عن المؤمن الضعيف، ولعله أن يكون فيه تأليف الفاجر القوي.

* وكذلك لما كثر القدر في أهل البصرة، فلو ترك رواية الحديث عنهم لا ندرس العلم والسنن والآثار المحفوظة فيهم. فإذا تعذّر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب: كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيراً من العكس. ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل، وكثير من أجوبة الإمام أحمد وغيره من الأئمة خرج على سؤال سائل قد علم المسئول حاله. أو خرج خطاباً لمعين قد علم حاله، فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، إنما يثبت حكمها في نظيرها ..

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام