ولقد ضربت هذه الجماعة الطاهرة، والفرقة الناجية، بجذورها في أعماق الزمان والمكان، فأثمرت شجرتها المباركة كل خير عرفته هذه الأمة على مدار تاريخها الطويل، وعلى امتداد أرضها شرقاً وغرباً. فلقد تربى في ظل هذه الراية كل الأئمة الأعلام، وسلف الأمة الأخيار، الذين حافظوا على تراث هذه الجماعة، وأضافوا إليه عصارة فكرهم، وقلوبهم، بل وحياتهم، وجاهدوا في سبيل نقله لمن بعدهم نقياً صافياً، واضحاً جلياً، كما تلقوه هم عمن قبلهم، وتميزت هذه الجماعة بمنهجها وعلومها، وفققها الخاص بها، كما تميزت بسلوكها وأخلاقها، بل وتميزت برجالها الأعلام، الذين حملوا منهج هذه الجماعة، وعلمها وسلوكها، وساروا به بين الناس، يلتزمون به، ويصبرون عليه، ويدعون إليه، ويجاهدون دفاعاً عنه، ويرفعون رايته، ويحفظونه في كتبهم للأجيال التي تجيء من بعدهم، وتلتزم بمنهجهم، وتسير على دربهم.
ولما تميز كل زمان ومكان بظروف خاصة به، وملابسات، وفتن وابتلاءات تخالف ما عداه من أماكن وأزمنة أخرى، فقد كان الناس في كل زمان ومكان يلجأون أمام هذه المحن إلى تراث ورجال هذه الجماعة، يطلبون منهم الجواب، ويبحثون عندهم عن النجاة والخلاص، فقد كانت الراية واضحة، والسبيل إليها سهلاً ممهداً. ولكن الفتن اشتدت، والمحن تلاحقت، والابتلاءات تداعت، والرايات تداخلت، والسبل تشابكت، وأصبح الناس في حيرة من أمرهم، فقد اختلط الحق بالباطل، والتبست السنة بالبدعة، وزعمت كل طائفة لنفسها النجاة، والتمسك بالصراط المستقيم. ومع قلة العلماء الأعلام، وشراسة الحرب التي يشنها أعداء هذا الدين من الكفرة والزنادقة، صار تمييز سبيل النجاة وتمييز أهله أمراً صعباً على كثير من المسلمين الصادقين، الباحثين عن النجاة في خضم هذه التيارات المتلاطمة، والرايات المتداخلة، والطوائف المتنازعة.
وبالرغم من الجهود العلمية الجبارة التي قام بها علماء هذه الجماعة في تمييز سبيلهم، وإيضاح منهجهم، إلا أن كل عصر له لغته الخاصة به، وكل جيل له أسلوبه المميز الذي يتلمس به طريقه إلى الحق، والذي يصبغ -إلى حد كبير- أسلوب كل طائفة تعيش هذا العصر في عرض منهجها والتعريف به والدعوة إليه. ولقد بحث كثير من الشباب المسلم المخلص من أبناء هذا العصر الذي نعيشه عن رسالة أو بحث علمي واضح ومكتوب بلغة وأسلوب هذا العصر ينير له طريقه أثناء بحثه عن سبيل هذه الجماعة أو الفرقة الناجية، فلم يجد. إذ بالرغم من جهود الأئمة الأعلام في هذا المجال إلا أن عصارة هذه الجهود ما زالت متناثرة في بطون كتب التراث، تنتظر بحثاً جاداً أو رسالة علمية تجمع هذه الجهود القيمة في دراسة متكاملة، تقدم إلى أبناء هذا العصر بلغتهم وأسلوبهم، بحيث يتخذون منها معياراً واضحاً، ممثلاً لحقيقة منهاج هذه الفرقة الناجية، يقيسون عليه حياتهم وحياة الناس من حولهم.
وههنا أمر هام جدير بالإيضاح، وإلقاء الضوء عليه ببعض التفصيل، وهو أن كلامنا هنا ليس منصباً -وكما قد يبدو للبعض وللوهلة الأولى- على جانب واحد، أو قطاع محدد، أو محدود من (أصول) أهل السنة والجماعة -كجانب العقائد مثلاً- وإنما نقصد بكلامنا هنا ما هو أشمل وأوسع من ذلك بكثير.
إن جانب العقائد -على أولويته وأهميته- لا يمثل أولاً وآخراً إلا بنداً واحداً أو جانباً منفرداً من البنود أو الجوانب المتعدد التي تضمها (أصول) هذه الطائفة الناجية.