لقد كان نتيجة غياب هذا المقياس الثابت والشامل عن ذهن كثير من الشباب المسلم، والذي يتمكن به من الإجابة عن بعض التساؤلات المحددة التي طرحها عليهم هذا العصر، مثل من هم أهل السنة والجماعة؟ ومتى يكون المسلم فرداً منهم، ومتى يخرج عنهم؟! وهل كونه فرداً منهم يضمن له النجاة بإطلاق؟! ومن هم المفارقون للجماعة؟! وهل هم هالكون جميعهم بأعيانهم؟ وما موقف أهل السنة والجماعة منهم؟ وكيف يعاملونهم؟ كانت نتيجة غياب هذا المقياس الثابت والشامل عن ذهن هؤلاء الشباب -وليس غيابه في نفسه- أن وقع كثير من هؤلاء الشباب في طرفي نقيض: فبعضهم تميعت في ذهنه الحدود والفواصل بين أهل السنة، وبين غيرهم، فاعتقد -حالاً إن لم يكن مقالاً- أن الجميع ناجون، وأن الفرق المختلفة ما هي إلا اجتهادات متنوعة، تؤدي إلى نتيجة واحدة، بل وشكك كثير منهم في حديث الفرق المذكورة والبعض الآخر وضع حول نفسه حدوداً وهمية، ثم زعم أنها الحدود التي تميز أهل السنة عن غيرهم، واعتقد أنه وحده وطائفته أو جماعته هم أهل السنة، والطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، وأن من عداهم هم أهل البدع والتفرق والاختلاف. وبين هؤلاء وأولئك وقف القطاع الأكبر من الشباب المسلم حائراً، يبحث لنفسه عن إجابات واضحة محددة، ومقاييس ثابتة مقررة، يُقوّم بها الواقع المحيط به، ويضبط بها أحكامه عليه، ويميز بها بين الطوائف والتجمعات الموجودة، ويعرف حقيقة العلاقة بينها وبين الفرقة الناجية أياً كانت الأسماء واللافتات التي تعرف بها نفسها أو يطلقها عليها الآخرون. وإننا نقرر ابتداء أن هذا الميزان ليس اجتهاداً منا ولا من غيرنا، بل ولا من الصحابة الأبرار، إنما هو لفظاً ومعنى قد تلقوه، وتلقيناه من بعدهم عن الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، فصاغه -أي الميزان- الصحابة عملاً وسلوكاً، وصاغه من بعدهم ممن سار على دربهم علماً وقواعد مكتوبة. ولكنها -كما أسلفنا- متناثرة في بطون كتبهم- أي كتب أهل السنة والجماعة- فما كان منّا إلا أن جمعنا هذا المنثور على قدر علمنا وجهدنا، ويبقى الباب مفتوحاً أمام أبحاث أشمل وأوسع.
ولقد بحثنا في المكتبة الإسلامية عن بحث متكامل يغطي هذا الموضوع، ولكننا -للأسف الشديد- لم نعثر عليه. بل حتى الرسائل الجامعية على كثرتها وتنوعها لم يبحث أي منها هذا الموضوع بحثاً شاملاً من جوانبه المختلفة، النظرية والعملية، بما يشفي صدور الشباب المسلم المتعطش لهذا الأمر. إذ أننا لم نجد إلا أبحاثاً جزئية، تتناول إما تحقيق أحد كتب العقائد عند أهل السنة، أو حياة أحد أئمة السنة أو الحديث. ولقد اتجهنا نتيجة لذلك لنبحث في كتب التراث نفسها فلم نجد -في حدود علمنا وبحثنا -ما يُحقّق ما نصبوا إليه من تغطية شاملة للموضوع إلا من خلال كتابات شيخ الإسلام ابن تيمية -رضي الله عنه-. ولما كان مجموع فتاوي شيخ الإسلام من أشمل كتبه، وأكثرها تنوعاً من حيث ما تناوله فيه من موضوعات، وهو في الوقت نفسه من أكثر كتبه تداولاً بين الشباب المسلم؛ مع سهولة لغته، ووضوح عرضه، أضف إلى ذلك غزارة المعلومات والعمق العلمي الذي يتيمز به فكر شيخ الإسلام، كل ذلك جعلنا نركز بحثنا في هذه الموسوعة الضخمة نحاول أن نستخرج منها الخطوط العامة والملامح الرئيسية التي تشكل إجابات محددة لكل التساؤلات المطروحة أو لمعظمها، لعلنا بذلك نفتح الطريق أمام بحث أكثر تكاملاً سواء من ناحية التفصيل العلمي الدقيق، أو من ناحية منهج البحث للموضوع ذاته.