ولعل شخصاً يسأل: ولماذا كتابات شيخ الإسلام بالذات؟ ولقد أجبنا عن جانب من هذا السؤال؛ وهو أننا لم نجد -في حدود علمنا وبحثنا- من تناول هذه الموضوع بالعمق والشمول والتفصيل الذي تناوله به شيخ الإسلام. والجانب الآخر هو أن الإمام ابن تيمية -رحمه الله- واحد من الأئمة الأعلام الذين لا خلاف بين المسلمين المنتسبين للسنة على اختلاف مذاهبهم وتياراتهم، على أنه يمثل أحد المرتكزات الشامخة، علماً وعملاً على مدار تاريخ أهل السنة كله. فقد اطلع -رحمه الله- على علم وفضل الأئمة السابقين، فحفظه، وتمثله بوعي وفهم دقيقين، واجتهد في تفسيره وشرحه وتفصيله، حتى بلغ في ذلك مبلغاً عظيماً. ولعلنا لا نُغالي أو نبالغ إذا قررنا أن أغلب ما قرأناه من تراث الأئمة اللاحقين عليه -في هذا المجال- كان عالة عليه، ونقولاً عنه، أو إعادة عرض لشروحه وتفسيراته. -وأيضاً- فإن الحياة العريضة التي عاشها هذا الإمام، والفتن والملاحم التي خاضها فكراً وسلوكاً، وعلماً وعملاً، والمحن التي عاشها أهل السنة في عصره، وصبغت اجتهاداته وفتاواه، قد أعطت لها عمقاً خاصاً لنا نحن أبناء هذا العصر، كما أننا توخينا أثناء بحثنا أن ننقل عنه ما صرّح هو به أنه يمثل أهل السنة والجماعة ككل، لا أنه يمثل فتوى أو اجتهاد خاص به، قد يخالفه فيه غيره.
ولقد قسمنا البحث إلى ثلاثة أبواب وخاتمة، غير هذا التمهيد أو المقدمة:
ففي الباب الأول: استعرضنا التاريخ العام لمسيرة أهل الحق، وسنة الله الكونية في خروج البشر عن الصراط المسقيم. وقدمنا بعض التعريفات المهمة لهذا البحث، مثل تعريف: السنة والجماعة، وأهل الحديث والسلف، والطائفة المنصورة. كما تكلمنا عن نشأة التسمية بأهل السنة والجماعة. ولم نقتصر في هذا الباب على ما كتبه ابن تيمية، بل جمعنا مادته من مصادر أخرى، كما هو موضح في هوامش الباب.
وأما الباب الثاني: فقد أفردناه لنصوص شيخ الإسلام المنقولة من مجموع الفتاوى (طبعة الرياض أو مصورتها) . وقسّمنا الباب إلى عدة فصول، يجمع كل منها موضوعاً واحداً، مثل: منهجهم -أي أهل السنة والجماعة- في التلقي، وعقائدهم المتفق عليها بينهم، وموقفهم النظري أو العملي تجاه المخالفين لهم. وحاولنا أن نربط بين فقرات كل فصل بما يوضّح الفكرة المعروضة، ويخدم تسلسل الأفكار. فكنا أحياناً نبدأ الفصل أو نربط بين بعض الفقرات بكلام قليل يوضح الفكرة أو الأفكار الواردة بالفقرات، ولا يوضع لهذا الكلام علامة تنصيص، وذلك حتى يستطيع القارئ أن يميز بينه وبين كلام ابن تيمية. وأما الفقرات المنقولة من كلام شيخ الإسلام فقد وضعت بين قوسين ( .. ) هكذا. وإذا كان هناك شيء محذوف من الكلام وضع ثلاث نقاط علامة الحذف ... ، ثم نذكر في نهاية كل فقرة رقم الجزء والصفحة من مجموع الفتاوى.
وفي الباب الثالث: استعرضنا بشكل عام نتائج البحث، وركزنا على المراحل التي يمكن أن تمرّ بها جماعة أهل السنة والجماعة في الظروف المختلفة. ثم نظرنا إلى الواقع الإسلامي المعاصر نظرة عامة وذلك على ضوء النتائج النظرية للبحث.
وأخيرا: ختمنا البحث بمحاولة للإجابة عن السؤال الذي يواجه أهل السنة والجماعة وهو: ما العمل الآن تجاه هذا الواقع المحيط بهم؟ وما هو المطلوب منهم تجاه هذا الواقع؟ وكيف ومن أين يبدأون؟
نسأل الله التوفيق والسداد، والهداية إلى سبيل الرشاد.
اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، إهدنا لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط المستقيم.