* (ثُمَّ حَدَثَ فِي آخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ(الْقَدَرِيَّةُ) فَكَانَتْ الْخَوَارِجُ تَتَكَلَّمُ فِي حُكْمِ اللَّهِ الشَّرْعِيِّ: أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَحُكْمِ مَنْ وَافَقَ ذَلِكَ وَمَنْ خَالَفَهُ، وَمَنْ يَكُونُ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا، وَهِيَ (مَسَائِلُ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ) . وَسُمُّوا مُحَكِّمَةً لِخَوْضِهِمْ فِي التَّحْكِيمِ بِالْبَاطِلِ، وَكَانَ الرَّجُلُ إذَا قَالَ: لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ، قَالُوا: هُوَ مُحَكِّمٌ، أَيْ خَائِضٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ، فَخَاضَ أُولَئِكَ فِي شَرْعِ اللَّهِ بِالْبَاطِلِ. وَأَمَّا (الْقَدَرِيَّةُ) فَخَاضُوا فِي قَدَرِهِ بِالْبَاطِلِ. وَأَصْلُ ضَلَالِهِمْ ظَنُّهُمْ أَنَّ الْقَدَرَ يُنَاقِضُ الشَّرْعَ، فَصَارُوا حِزْبَيْنِ: حِزْبًا يُعَظِّمُونَ الشَّرْعَ وَالْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَاتِّبَاعَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَهَجْرَ مَا يُبْغِضُهُ وَمَا يُسْخِطُهُ، وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَدَرِ .. حِزْبًا يغلب الشَّرْعَ فَيُكَذِّبُ بِالْقَدَرِ وَيَنْفِيهِ، أَوْ يَنْفِي بَعْضَهُ. وحِزْبًا يغلب الْقَدَرَ فَيَنْفِي الشَّرْعَ فِي الْبَاطِنِ أَوْ يَنْفِي حَقِيقَتَهُ وَيَقُولُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، الْجَمِيعُ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَعْدَاؤُهُ، وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَ أَنَّهُ يُحِبُّهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يُبْغِضُهُ لَكِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ، يَامُرُ بِهَذَا وَيَنْهَى عَنْ مِثْلِهِ، فَجَحَدُوا الْفَرْقَ وَالْفَصْلَ الَّذِي بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ، وَبَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَبَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَبَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ .. فَهَؤُلَاءِ نَفَوْا حِكْمَتَهُ وَعَدْلَهُ، وَأُولَئِكَ نَفَوْا قُدْرَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ أَوْ قُدْرَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ وَعِلْمَهُ، وَهَؤُلَاءِ ضَاهَوْا الْمَجُوسَ فِي الْإِشْرَاكِ بِرُبُوبِيَّتِهِ حَيْثُ جَعَلُوا غَيْرَهُ خَالِقًا، وَأُولَئِكَ ضَاهَوْا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ عِبَادَتِهِ وَعِبَادَةِ غَيْرِهِ، بَلْ يُجَوِّزُونَ عِبَادَةَ غَيْرِهِ كَمَا يُجَوِّزُونَ عِبَادَتَهُ. وَيَقُولُونَ: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) الْآيَةَ، وَهَؤُلَاءِ مُنْتَهَى تَوْحِيدِهِمْ تَوْحِيدُ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، فَأَمَّا تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ الْمُتَضَمِّنُ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلِكَوْنِ اللَّهِ يُحِبُّ مَا أَمَرَ بِهِ وَيُبْغِضُ مَا نَهَى عَنْهُ فَهُمْ يُنْكِرُونَهُ، وَلِهَذَا هُمْ أَكْثَرُ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ وَأَكْثَرُ شِرْكًا وَتَجْوِيزًا مِنْ (الْمُعْتَزِلَةِ) ، وَمُنْتَهَى مُتَكَلِّمِيهِمْ وَعُبَّادِهِمْ تَجْوِيزُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَأَنَّ الْعَارِفَ لَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً وَلَا يَسْتَقْبِحُ سَيِّئَةً ..
فـ (الْقَدَرِيَّةُ) أَصْلُهُمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، إذْ لَوْ كَانَ قَادِرًا لَفَعَلَ غَيْرَ مَا فَعَلَ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ، وَقَالُوا: تَثْبُتُ حِكْمَتُهُ كَمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ ...