وقد استفاضت السنن عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في (الشر) أن أصله من المشرق، كقوله:"الفتنة من هاهنا، الفتنة من هاهنا". ويشير إلى المشرق. وكقوله، صلى الله عليه وسلم:"رأس الكفر نحو المشرق". ونحو ذلك. فأخبر أن الطائفة المنصورة القائمة على الحق من أمته بالمغرب، وهو الشام وما يغرب عنها، والفتنة ورأس الكفر بالمشرق. وكان أهل المدينة يسمون أهل الشام أهل الغرب، ويقولون عن الأوزاعي: إنه إمام أهل المغرب، ويقولون عن سفيان الثوري ونحوه: إنه شرقي إمام أهل المشرق. وهذا لأن منتهى الشام عند الفرات وهو على مسامتة مدينة الرسول، صلى الله عليه وسلم، طول كل منهما، وبعد ذلك حران والرقة ونحوهما على مسامتة مكة. ولهذا كانت قبلتهم أعدل القبلة، بمعنى أنهم يستقبلون الركن الشامي، ويستدبرون القطب الشامي، من غير انحراف إلى ذات اليمين كأهل العراق، ولا ذات الشمال كأهل الشام.
قالوا: فإذا دلت هذه النصوص على أن الطائفة القائمة بالحق من أمته التي لا يضرها خلاف المخالف ولا خذلان الخاذل هي بالشام، كان هذا معارضا لقوله:"تقتل عمارا الفئة الباغية"، ولقوله:"تقتلهم أولى الطائفتين بالحق". وهذا من حجة من يجعل الجميع سواء والجميع مصيبين، أو يمسك عن الترجيح، وهذا أقرب. وقد احتج به من هؤلاء على أولئك، لكن هذا القول مرغوب عنه وهو من أقوال النواصب، فهو مقابل بأقوال الشيعة والروافض، هؤلاء أهل الأهواء، وإنما نتكلم هنا مع أهل العلم والعدل.
ولا ريب أن هذه النصوص لابد من الجمع بينها والتأليف، فيقال: أما قوله، صلى الله عليه وسلم:"لا يزال أهل الغرب ظاهرين". ونحو ذلك مما يدل على ظهور أهل الشام وانتصارهم، فهكذا وقع، وهذا هو الأمر، فإنهم ما زالوا ظاهرين منتصرين. وأما قوله، عليه السلام:"لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله". ومن هو ظاهر، فلا يقتضي أن لا يكون فيهم من فيه بغي، ومن غيره أولى بالحق منهم، بل فيهم هذا وهذا. وأما قوله:"تقتلهم أولى الطائفتين بالحق". فهذا دليل على أن علياً ومن معه كان أولى بالحق إذ ذاك من الطائفة الأخرى، وإذا كان الشخص أو الطائفة مرجوحا في بعض الأحوال لم يمنع أن يكون قائما بأمر الله، وأن يكون ظاهرا بالقيام بأمر الله عن طاعة الله ورسوله، وقد يكون الفعل طاعة وغيره أطوع منه. وأما كون بعضهم باغيا في بعض الأوقات، مع كون بغيه خطأ مغفورا أو ذنبا مغفورا، فهذا -أيضا- لا يمنع ما شهدت به النصوص، وذلك أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أخبر عن جملة أهل الشام وعظمتهم، ولا ريب أن جملتهم كانوا أرجح في عموم الأحوال.
وكذلك عمر بن الخطاب كان يفضلهم في مدة خلافته على أهل العراق، حتى قدم الشام غير مرة، وامتنع من الذهاب إلى العراق، واستشار فأشار عليه أن لا يذهب إليها، وكذلك في حين وفاته لما طعن أدخل عليه أهل المدينة أولا، وهم كانوا إذ ذاك أفضل الأمة، ثم أدخل عليه أهل الشام، ثم أدخل عليه أهل العراق، وكانوا آخر من دخل عليه. هكذا في الصحيح. وكذلك الصديق كانت عنايته بفتح الشام أكثر من عنايته بفتح العراق حتى قال: لكفر من كفور الشام أحب إلى من فتح مدينة بالعراق.