* (وَسَبَبُ هَذَا التَّنَازُعِ -يعني تنازع أهل السنة في تكفير الجهمية بأعيانهم - تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَدِلَّةً تُوجِبُ إلْحَاقَ أَحْكَامِ الْكُفْرِ بِهِمْ، ثُمَّ إنَّهُمْ يَرَوْنَ مِنْ الْأَعْيَانِ الَّذِينَ قَالُوا تِلْكَ الْمَقَالَاتِ مَنْ قَامَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا، فَيَتَعَارَضُ عِنْدَهُمْ الدَّلِيلَانِ. وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ مَا أَصَابَ الْأَوَّلِينَ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فِي نُصُوصِ الشَّارِعِ. كُلَّمَا رَأَوْهُمْ قَالُوا: مَنْ قَالَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ، اعْتَقَدَ الْمُسْتَمِعُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ شَامِلٌ لِكُلِّ مَنْ قَالَهُ، وَلَمْ يَتَدَبَّرُوا أَنَّ التَّكْفِيرَ لَهُ شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ قَدْ تَنْتَقِي فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ، وَأَنَّ تَكْفِيرَ الْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَكْفِيرَ الْمُعَيَّنِ إلَّا إذَا وُجِدَتْ الشُّرُوطُ، وَانْتَفَتْ الْمَوَانِعُ ويُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد وَعَامَّةَ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ أَطْلَقُوا هَذِهِ العمومات، لَمْ يُكَفِّرُوا أَكْثَرَ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ بِعَيْنِهِ ... وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُمْ لَمْ يُكَفِّرُوا الْمُعَيَّنِينَ مِنْ الجهمية، الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَد مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَفَّرَ بِهِ قَوْمًا مُعَيَّنِينَ. فَأَمَّا أَنْ يُذْكَرَ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ فَفِيهِ نَظَرٌ، أَوْ يُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى التَّفْصِيلِ، فَيُقَالُ: مَنْ كَفَّرَهُ بِعَيْنِهِ فَلِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ وُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ التَّكْفِيرِ وَانْتَفَتْ مَوَانِعُهُ، وَمَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُ بِعَيْنِهِ، فَلِانْتِفَاءِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ، هَذا مَعَ إطْلَاقِ قَوْلِهِ بِالتَّكْفِيرِ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ) ج 12 ص487 - 489.
*(فَهَذَا الْكَلَامُ يُمَهِّدُ أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ وَالْهُدَى فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَأَنَّ خِلَافَ ذَلِكَ كُفْرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَنَفْيُ الصِّفَاتِ كُفْرٌ، وَالتَّكْذِيبُ بِأَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ، أَوْ أَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ، أَوْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُهُ، أَوْ أَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى، أَوْ أَنَّهُ اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، كُفْرٌ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ.
وَالْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ التَّكْفِيرَ الْعَامَّ - كَالْوَعِيدِ الْعَامِّ - يَجِبُ الْقَوْلُ بِإِطْلَاقِهِ وَعُمُومِهِ. وَأَمَّا الْحُكْمُ عَلَى الْمُعَيَّنِ بِأَنَّهُ كَافِرٌ أَوْ مَشْهُودٌ لَهُ بِالنَّارِ فَهَذَا يَقِفُ عَلَى الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ يَقِفُ عَلَى ثُبُوتِ شُرُوطِهِ، وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ)ج 12 ص 497.