نقول: إنها لفكرة غريبة عن هذا الدين ولا تتفق مع واقعية وتاريخ هذا الدين. ودليل على عدم فهم حقيقة منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع واقع الأمور وحقائق الأشياء.
لقد اختلف السلف والأئمة وتعددت اجتهاداتهم في كثير من القضايا العلمية والعملية ونتج عن ذلك تعدد التيارات الفكرية والحركية وسقوط البعض في أخطاء اجتهادية أو تأويلات بعيدة، ولكن الإخلاص في النية لله وحده والصدق في القول والعمل والالتزام بالعلم الشرعي، والخلق النبوي، جعلهم يحرصون خلال ذلك كله على وحدة الكلمة، والمحافظة على الجماعة، والأدب في الحوار أو النقد، والصبر على المخالف مهما كان خطؤه، والدعاء له بالهداية والخير، مع التزام كل منهم بما يراه خطأ وصواباً والدعوة إليه، ذلك أنهم كانوا يعون هذه الحقيقة جيداً: إن التعاون فيما بينهم والمحافظة على جماعتهم الشاملة وائتلافهم ووحدة كلمتهم والوقوف صفًّا واحداً أمام عدوهم المشترك هو حياتهم، ونصرهم، ورحمة ربهم بهم.
إن اختلاف العقليات وتعدد القدرات وتنوع الملكات حقيقة واقعة، وسنة كونية، وشرعية مقررة، يجب قبولها، واستيعابها وتفهمها بصدر رحب، وعقل مفتوح، طالما كان الالتزام أصلاً بالثوابت الشرعية عند أهل السنة، وقوامها رد الأمر عند التنازع إلى الكتاب والسنة، وفقه السلف الصالح -رضي الله عنهم- من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان من الأئمة الأعلام. فما وسعهم فيه الخلاف، فكيف لا يسعنا؟! وهل نحن أعلم بدين الله وأحرص عليه منهم؟!
إن تعصب كثير من هذه الجماعات المعاصرة لأسماء وشعارات ما أنزل الله بها من سلطان، والمفاصلة وتحديد الولاء على أساس الانتماء للأشخاص واللافتات -وليس على أساس التقوى والعمل الصالح والولاء العام لجميع المسلمين- مع عدم تلقي الحق والخشوع له من مصادره الشرعية، وإنما من نظرة حزبية ضيقة، ورؤية القيادة أو مزاجها هو الذي يجمد العقل والسلوك كل عند حدود جماعته، وهو الذي يصنع تلك الحدود الموهومة التي تحيط بها كل جماعة نفسها والتي تصور لأفرادها في النهاية أنها هي وحدها الحق وكل ما عداها باطل أو خطأ أو انحراف.
إن العمل الجماعي المنظم واجب شرعي ومطلب عقلي، وواقعي، سواء للمسلمين أم لغيرهم، فهذه سنة من سنن الله في خلقه، فالإنجازات المطلوبة من الجماعة لا يقوم بها فرد وأفراد متفرقون. ولكن الجماعة -أيضاً- لا يمكن أن تنجز ما هو مطلوب منها إلا إذا استغلت إمكانات وقدرات ومواهب وملكات أفرادها على تنوعها وتباينها، استغلالاً علمياً منظماً تستثمر به أفضل ما يمكن أن يأتيه كل منهم في تناسق وتوازن تحقق به المصلحة الشرعية العامة للجماعة وليس لمصلحة فرد منها.
وكذلك لا يمكن أن تنجح الجماعة إلا إذا كان أفرادها -وقادتها أولاً- مقتنعين بتلك السنن وأن الفرد -كفرد- مهما كانت إمكاناته وقدراته ومواهبه وملكاته لا يمكن أن يناطح سنن الله فيحقق بمفرده ما هو مطلوب من جماعة بكاملها، بل عليه أن يسخر كل ما يملك في مصلحة الجماعة دون خلل في التنسيق بين عمل الفرد وعمل الجماعة ككل. وكل جماعة من الجماعات الإسلامية هي في النهاية كفرد واحد تشكل مع غيرها من الجماعات الأخرى الجماعة الأم بمعناها الواسع والشامل عند أهل السنة، بغض النظر عن الحصار الوهمي الذي تفرضه بعضها على نفسها أو يفرضه عليها الآخرون. وبغض النظر عن الحدود الإقليمية المصطنعة التي تقسّم جسد الأمة المسلمة إلى دويلات وعصبيات وولاءات محدودة بالمكان كالمدينة والإقليم والدولة، أو الزعامة أو الطائفة أو الحزب أو غير ذلك من اللافتات أو الشعارات التي لا يزن مثقال ذرّة في ميزان الحق -عز وجل-.