ويقول شيخ الإسلام ابن تيميه:"وأيضًا فالاستغفار والتوبة مما فعله وتَركه في حال الجهل قبل أن يعلم أن هذا قبيح من السيئات، وقبل أن يرسل إليه رسول، وقبل أن تقوم عليه الحجة، فإنه -سبحانه- قال: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ... وما فعلوه قبل مجيء الرسل كان سيئًا وقبيحًا وشرًا، ولكن لا تقوم عليهم الحجة إلا بالرسول هذا قول الجمهور ..."
والجمهور من السلف والخلف على أن ما كانوا فيه قبل مجيء الرسول من الشرك والجاهلية شيئًا قبيحًا، وكان شرًا. لكن لا يستحقون العذاب إلا بعد مجيء الرسول) أ هـ. [1]
وهكذا لم يترك الله -عز وجل- بني آدم في هذه الحياة لأنفسهم، بل أحاطهم دائما بمنهاج النبوة ونورها من لدن آدم، عليه السلام، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وجعل الرسالات مع رصيد العقل والفطرة وتفاعلها مع آيات الله المبثوثة في الكون تشكل المنارات التي تهدي بني آدم في رحلة سعيهم إلى ربهم، والتي تردهم - من شرد منهم - إلى صراط الله المستقيم.
ولكن الناس اخْتَلَفُوا على رُسُلِهم. (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) [سورة الإسراء، الآية: 89] ، وآمن من آمن -وهم قليل- فكانت تلك هي سنة الله في خلقه (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [سورة الأنعام، الآية: 116] . (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) [سورة الأحزاب، الآية: 62] .
قال -تعالى-: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [سورة البقرة، الآية: 213] .
يقول ابن كثير: (عن ابن عباس قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
وعن قتادة قال: كانوا على هدى جميعًا فاختلفوا، فبعث الله النبيين، فكان أول من بعث نوحًا. وهكذا قال مجاهد، كما قال ابن عباس أولاً .. لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم نوحًا عليه السلام، فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض.
ولهذا قال الله -تعالى-: (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي بعد ما قامت عليهم الحجج وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض ... (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) . أي عند الاختلاف أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف، أقاموا على الإخلاص لله- عز وجل- وحده وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف، واعتزلوا الاختلاف، وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة، شهداء على قوم نوح، وقوم هود وقوم صالح، وقوم شعيب وآل فرعون أن رسلهم قد بَلَّغُوهُم، وأنهم قد كذّبوا رُسُلَهُم) [2] أ هـ.
(1) مجموع فتاوي شيخ الإسلام ج11 ص 675 وبعدها.
(2) تفسير ابن كثير ج1 ص 250.