لثبوت النبوّات التي يتفرع عنها صحة النقل، فيلزم اذن من تكذيب العقل تكذيب النقل، ثم بعد صرف اللفظ عن ظاهره المستحيل، فان لم يكن له بعد ذلك إلا تأويل واحد صحيح تعين الحمل عليه لعدم وجود غيره، وذلك مثل قوله تعالى - وهو معكم أينما كنتم - فإنه يستحيل حمله على ظاهره من المصاحبة بالذات، ولم يبق بعد ذلك إلا حمله على المعية بالعلم والرعاية، ونظيره - إلا هو رابعهم - الآية، ونحو ذلك مما هو كثير، وإن كان له بعد ذلك تأويلات كل واحد منها مستقيم، فهل يتعين واحد منها ليندفع اللبس عن العوام، وهو مذهب امام الحرمين أو يوقف عن التعيين ويفوض الأمر فيه إلى الله تعالى دفعا للتحكم، وهذا مذهب الأقدمين، وذلك مثل قوله تعالى - على العرش استوى - فان الاستواء بمعنى الاستقرار المكاني محال في حقه تعالى، ويبقى بعد ذلك تأويلات صحيحة. أحدها: أن يكون استوى بمعنى استولى عليه بتصريفه له كيف شاء. الثاني: أن يكون استوى بمعنى قصد إلى خلق شيء هنالك. الثالث: أن تكون على بمعنى الباء واستوى بمعنى كمل: أي كمل الخلق بالعرش. الرابع: أن المستقر ّ فوق العرش مخلوق من مخلوقاته يسمى استوى إلى غير ذلك مما قيل، والأظهر مذهب الأقدمين في ترك تعيين بعضها وتفويض المقصود منها إلى الله تعالى مع القطع بتنزيهه جل ّ وعلا عما لا يليق به، لأن تعيين أحد المحتملات الجائزة بغير دليل بدعة في الدين وتجاسر عظيم، وتعيين من عين شيئا منها كالإمام إنما كان لدليل يرجحه من جهة اللغة أو غيرها، والله تعالى أعلم.
فصل: ومما جاء به صلى الله عليه وسلم ويجب الإيمان به نفوذ الوعيد في طائفة
من عصاة أمته، وبيان المذاهب في ذلك
(ص) {فصل} ومما جاء به صلى الله عليه وسلم ويجب الإيمان به
تعليل لقوله ولا يجوز تأويله (قوله لثبوت النبوّات) أي وذلك لأن النبوّة ثابتة بالمعجزة وهي فعل لله حاصل بعد عدم فلا بد لها من قدرة وإرادة وعلم وحياة فيستفاد من ذلك الفعل بطريق العقل أن الله متصف بتلك الصفات، وإذا كان الأصل هو العقل والنقل فرعه لزم من كذب الأصل كذب فرعه (قوله تأويلات) في مقابلة ماله تأويل واحد فيحمل الجمع على ما فوق الواحد (قوله اللبس) أي الالتباس والاشتباه (قوله ويفوض الأمر فيه) أي في التعيين إلى الله تعالى: يعني أن ذلك الامر المتشابه يصرف عن ظاهره المستحيل ثم بعد ذلك يفوض الأمر إلى الله في المراد منه ولا يؤوّلون أصلا ولا يلتفتون لتأويل (قوله بمعنى قصد) أي الرحمن قصد إلى خلق شيء هنالك: أي في العرش (قوله بمعنى كمل) أي الرحمن بالعرش كمل الخلق (قوله يسمى استوى) فالوقف على الرحمن الذي هو بدل من ضمير خلق السموات والأرض فقوله استوى مبتدأ وعلى العرش خبر: أي الشيء الذي يسمى استوى كائن على العرش ومستقر ّ عليه (قوله لأن تعيين الخ) هذا بيان لوجه الأظهرية إلا أنه ينافي ما بعد من
قوله إنما كان لدليل الخ، والمناسب أن لو وجه الأظهرية بأنه أحوط.
فصل
(قوله ومما جاء به الخ) هذا من جملة ما جاء به من أمور المعاد فالأولى إسقاط الترجمة والعطف