ثالثًا: الإيمان بقربه سبحانه القرب العام لجميع الخلائق بالإحاطة والعلم، والرقابة، والسمع والبصر يثمر في القلب الخوف منه سبحانه ومراقبته والحياء منه، وهذا كله يثمر البعد عن معاصيه وامتثال أوامره، والمسارعة في مرضاته.
رابعًا: إن الإيمان بقرب الله - عز وجل - واستحضار ذلك في القلب وأنه أقرب من كل قريب يؤدي إلى إخفاء العبد دعاءه ربه والإسرار به.
ويتحدث ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن هذا المعنى فيقول:"من النكت السرية البديعة جدًا أنه دالٌّ على قُرْبِ صاحبه من الله، وأنه لاقترابه منه وشدَّة حضوره: يسأله مسألة أقرب شيءٍ إليه، فيسأله مسألة مناجاة للقريب؛ لا مسألة نداء البعيد للبعيد، ولهذا أثنى سبحانه على عبده زكريا بقوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) } [مريم: 3] ."
فكلَّما استحضر القلب قرب الله تعالى منه؛ وأنه أقرب إليه من كلِّ قريبِ؛ وتصوَّر ذلك أخفى دعاءه ما أمكنه، ولم يتأتَّ له رفع الصوت به، بل يراه غير مُستحسنٍ، كما أنَّ من خاطب جليسًا له - يسمع خَفِيَّ كلامه - فبالغ في رفع الصوت: اسْتُهْجِنَ ذلك منه، ولله المثل الأعلى سبحانه.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بعينه؛ بقوله في الحديث الصحيح لما رفع الصحابة - رضي الله عنهم - أصواتهم بالتكبير؛ وهم معه في السفر، فقال: (اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) (1) .
وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] .
(1) البخاري (2992) ، مسلم (2704) .