أَلاَ [1] وإنَّ مَنْ كان
قبلكم [2] كانوا يتخذون قبورَ أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبورَ مساجدَ، فإني أنهاكُم عن ذلك».
فقد نهى عنه في آخر حياته [3] ،
(1) قوله: «أَلاَ» حرف استفتاح.
(2) قوله: «وإن من كان قبلكم» يعني: اليهود والنصارى «كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» *. قال بعض أهل العلم: وإنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - صنيعهم هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: أنهم كانوا يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لهم.
والثاني: أنهم يجوِّزون الصلاة في مدافن الأنبياء والسجود في مقابرهم والتوجه إليها حال الصلاة وعبادة الله مبالغة في تعظيم الأنبياء.
والأول: هو الشرك الجلي.
والثاني: الخفي؛ فلذلك استحقوا اللعن». انتهى.
وقال شيخ الإسلام: «أما بناء المساجد على القبور فقد صرَّح عامة الطوائف بالنهي عنه للأحاديث في ذلك ... إلى أن قال: وهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين والملوك وغيرهم تتعيَّن إزالتها بهدم أو غيره، هذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء المعروفين» .
وقال ابن القيم رحمه الله: «يجب هدم هذه القباب التي بُنيت على القبور؛ لأنها أُسِّسَت على معصية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنية، منهم ابن الجميزي والظهير الترميني وغيرهما» .
(3) قوله: «فقد نهى عنه في آخر حياته» كما في حديث جندب من قوله: «ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» ، «ثم إنه لعن - وهو في السياق - من فعله» كما في حديث عائشة من قوله: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» والصلاة عندها من ذلك أي من اتخاذها مساجد، وإن لم يُبنَ
* أخرجه مسلم (232) .
مسجد فيكون المصلي عندها داخلاً في اللعنة، وهو معنى قولها: «خُشي أن يُتخذ مسجداً» فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً، وكل موضع قُصدت الصلاة فيه فقد اتُخذ مسجداً، بل كل موضع يصلى فيه يُسمى مسجداً كما قال - صلى الله عليه وسلم: «جُعلت لي الأرضُ مسجداً وطهوراً» *. قال البغوي في «شرح السنة» : «أراد أن أهل الكتاب لم تُبحْ لهم الصلاة إلا في بِيَعهم وكنائسهم، فأباح الله لهذه الأمة الصلاة حيث كانوا تخفيفاً عليهم وتيسيراً، ثم خصَّ من جميع المواضع الحمام والمقبرة والمكان النجس» . انتهى.
وفيه: العبرة في مبالغته - صلى الله عليه وسلم - كيف بيَّنَ لهم هذا أولاً ثم قبل موته بخمس قال ما قال، ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم ونهيه عن فعله عند قبره قبل أن يُوجد القبر، وأنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم ولعنه إياهم على ذلك، وأن مراده تحذيره إيانا عن قبره وللعلة في عدم إبرازه وفي معنى اتخاذه مسجداً وأنه قرن بين من اتخذها مساجد وبين من تقوم عليه الساعة فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
قال ابن القيم رحمه الله: «وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه وفَهِم عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقاصده جزم جزماً لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغتيه، صيغة: لا تفعلوا. وصيغة: إني أنهاكم ليس لأجل النجاسة بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة من عصاه وارتكب ما عنه نهاه واتبع هواه ولم يخش ربه ولا مولاه وقل نصيبه، أو عَدِمَ من تحقيق: لا إله إلا الله، فإن هذا وأمثاله من النبي - صلى الله عليه وسلم - صيانةً لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب له به أن يعدل به سواه، فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكاباً لنهيه وغرَّهم الشيطان بأن هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم أشد لها تعظيماً وأشدَّ فيهم
* أخرجه البخاري (335) ، ومسلم (521) .