ما جاء في منكري القدر [1]
وقال ابنُ عمر: والذي نفس ابن عمرَ بيده؛ لو كان لأحدهم مثلَ أُحُدٍ ذهباً ثم أنفقه في سبيل الله ما قَبلَه اللهُ منه حتى يؤمِن بالقدر. ثم استدلَّ بقول النبي - صلى الله عليه وسلم: «الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمنَ بالقدر خيره وشره» [2] .
(1) قوله: «باب ما جاء في منكري القدر» أي من الوعيد الشديد، قال في «المصباح» : «والقدر بالفتح لا غير القضاء الذي يقدره الله تعالى، والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته» ، ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: القدر هو قدرة الله، واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد غاية الاستحسان وقال: إنه شفى بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر، وإلى هذا أشار العلاَّمة ابن القيم بقوله [الكافية الشافية] :
في شأنه هو قدرة الرحمن ... وحقيقة القدر الذي حار الورى
لما حكاه عن الرضى الرباني ... واستحسن ابنُ عقيل ذا من أحمد
ذات اختصار وهي ذات بيان ... قال الإمام شفى القلوب بلفظة
ج ... ج
قال شيخ الإسلام: وقول الإمام أحمد «القدر قدرة الله» يعني أن مَنْ أنكر القدر فقد أنكر قدرة الله، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن آمن بالله وكذب بقدره نقض تكذيب توحيده، ومن آمن بالقدر صدَّق إيمانُه توحيدَه.
(2) قوله: «وقال ابنُ عمر: والذي نفس ابن عمرَ بيده؛ لو كان لأحدهم مثلَ أُحُدٍ ذهباً ثم أنفقه في سبيل الله ما قَبلَه اللهُ منه حتى يؤمِن بالقدر. ثم استدلَّ بقول النبي - صلى الله عليه وسلم: «الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمنَ بالقدر خيره وشره» * حديث ابن عمر هذا أخرجه مسلم وأبوداود والترمذي والنسائي
* أخرجه مسلم (8) .
وابن ماجه، فالإيمان بالله: هو التصديق بأنه سبحانه وتعالى موجود موصوف بصفات الجلال والكمال، منزَّه عن صفات النقص، وأنه فرد صمد خالق جميع المخلوقات، متصرف فيها بما يشاء، يفعل في ملكه ما يريد. والإيمان بالملائكة: هو التصديق بعبوديتهم لله {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:26 - 28] . والإيمان بالرسل: هو التصديق بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى، أيَّدهم الله بالمعجزات الدالة على صدقهم، وأنهم بلَّغوا عن الله رسالاته، وبيَّنوا للمكلفين ما أمرهم الله به، وأنه يجب احترامهم وأن لا يُفرق بين أحدٍ منهم. والإيمان باليوم الآخر: هو التصديق بيوم القيامة وما اشتمل عليه من الإعادة بعد الموت والنشر والحشر والحساب والميزان والصراط والجنة والنار، وأنهما دار ثوابه وعقابه للمحسنين والمسيئين، إلى غير ذلك مما صح به النقل، والإيمان بالقدر: هو التصديق بما دلَّ عليه قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] ، وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] وكلام ابن عمر هذا أراد به غلاة القدرية المنكرين أن يكون الله عالماً بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منهم، وإنما يعلمها بعد كونها.
قال القرطبي: ولا شك في تكفير من يذهب إلى ذلك، فإنه جحد معلوماً من الشرع بالضرورة؛ لذلك تبرأ منهم ابن عمر وأفتى بأنه لا تُقبل منهم أعمالهم ونفقاتهم.
وقال شيخ الإسلام [الفتاوى 8/ 449 - 450] : «مذهب أهل السنة في هذا الباب وغيره ما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وهو أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال العباد، وأنه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته، ولا يمتنع عليه شيءٌ شاءه؛ بل هو قادر على كل شيء، ولا يشاء شيئاً إلا هو قادر عليه، وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وقد دخل في ذلك أفعال
العباد وغيرها، وقد قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، وقدّر أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم وكتب ما يصيرون إليه من شقاوة وسعادة، فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء وقدرته على كل شيء ومشيئته لكل ما كان، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون، وتقديره لها وكتابته إياها قبل أن تكون». وقد سُئل الشافعي رحمه الله عن القدر فقال:
وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن ... فما شئتَ كان وإن لم أشأ
ففي العلم يجري الفتى والمسن ... خلقتَ العباد على ما علمتَ
وهذا أعنتَ وذا لم تُعن ... على ذا مننتَ وهذا خذلتَ
ومنهم قبيح ومنهم حسن ... فمنهم شقي ومنهم سعيد
ج
والإيمان بالقدر على درجتين:
إحداهما: الإيمان بأن الله تعالى سبق في علمه ما يعمل العباد من خير وشر وطاعة ومعصية قبل خلقهم، ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن هو منهم أهل النار، وأعد لهم الثواب والعقاب وكتب ذلك، وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه، وهذه الدرجة أثبتها كثير من القدرية ونفاها غلاتهم كمعبد الجهني وعمرو بن عبيد وغيرهما. وقد قال كثير من أئمة السلف: «ناظروهم - يعني القدرية - بالعلم فإن أقَرُّوا به خُصِموا، وإن جحدوا كفروا» . يريدون أن من أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد، وأن الله قسمهم قبل خلقهم إلى شقي وسعيد، وكتب ذلك عنده في كتاب حفيظ، فقد كذب بالقرآن فيكفر بذلك، وإن أقروا بذلك وأنكروا أن الله خلق أفعال العباد وشاءَها منهم وأرادها إرادة كونية قدرية فقد خُصموا؛ لأن ما أقروا به حجة عليهم فيما أنكروه.
والدرجة الثانية: أن الله خلق أفعال العباد كلها من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان وشاءها منهم، وفي تكفير هؤلاء نزاعٌ مشهور بين العلماء.