لَمْ يَضُرّهُ شَيءٌ حَتَّى يَرْحَل من منزِلِهِ ذلك». رواه مسلم.
14 -بابٌ من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعُوَ غيره [1]
(1) قوله: «باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره» عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص. قاله المصنف رحمه الله تعالى، والمراد بالدعاء هنا دعاء المسألة. قاله في «الشرح» *.
والاستغاثة: طلب الغوث وهو إزالة الشدة كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون، ومن أسمائه سبحانه: المغيث بمعنى المجيب، ومعناه المدرك عباده في الشدائد إذا دعوه ومجيبهم ومخلصهم، لكن الإغاثة أخص بالأفعال، والإجابة أخص بالأقوال، والاستغاثة دعاء المكروب، والدعاء أعم منها؛ لأنه يكون من المكروب وغيره.
قال شيخ الإسلام: «والدعاء نوعان: دعاء مسألة، ودعاء عبادة، فدعاء المسألة: هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو دفع ضر، فالمعبود لابد أن يكون مالكاً للنفع والضر ولهذا أنكر الله على من عبد من دونه ما لا يملك نفعاً ولا ضراً، وأما دعاء العبادة فهو عبادة الله بأنواع العبادات من الصلاة والزكاة والذبح وغيرها خوفاً وطمعاً يرجو رحمته ويخاف عذابه وإن لم يكن في ذلك صيغة سؤال وطلب، وهما متلازمان، فكل دعاء عبادة فهو مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة فهو متضمن لدعاء العبادة، ويُراد به في القرآن هذا تارة وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، وقد فُسِّر قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] بالنوعين، قيل: اعبدوني وامتثلوا أمري أستجب لكم، وقيل: سلوني أعطكم.
وقد أجمع العلماء على أن من صرف شيئاً من نوعي الدعاء لغير الله فقد أشرك ولو قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وصلى وصام وزعم أنه مسلم». انتهى ملخصاً.
وقال الشيخ صنع الله الحنفي في كتابه في الرد على من ادَّعى أن للأولياء تصرفات:
* (ص/176) .
«قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعاتٌ يدَّعون أن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد مماتهم ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهِمَمِهم تُكشف الملمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات مستدلين أن ذلك منهم كرامات، وجوّزوا لهم الذبائح والنذور وأثبتوا فيهما الأجور، وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي لما فيه من روائح الشرك المحقق ومصادمة الكتاب العزيز المصدَّق ومخالفته لعقائد الأئمة وما أجمعت عليه الأمة.
فأما قولهم إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات فيرده قوله تعالى: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل: 62] ، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ} [الأعراف:54] ونحوها من الآيات الدالة على أنه المنفرد بالخلق والتدبير والتصرف والتقدير؛ لا شيء لغيره في شيء ما بوجه من الوجوه.
وأما القول بالتصرف بعد الممات فهو أشنع من القول بالتصرف في الحياة، قال جل ذكره: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] ، {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر: 42] ، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] .
وفي الحديث: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث .. » * الحديث، فجميع ذلك وما هو نحوه دالٌّ على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أرواحهم ممسكة وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان، فدلَّ على أنه ليس للميت تصرفٌ في ذاته فضلاً عن غيره.
وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات من الكرامة فهو من المغالطات؛ لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم به أولياءه لا قصد لهم فيه ولا تحدي ولا قدرة ولا علم، كما في قصة مريم بنت عمران، وأسيد بن حضير، وأبي مسلم الخولاني، يعني قوله
* أخرجه مسلم (1631) ، وأبوداود (2880) ، والترمذي (1376) .
تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 37] ، وروى البخاري تعليقاً عن أنس بن مالك أن عباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأضاءت عصا أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها، فلما افترقت بهما الطريق أضاءت للآخر عصاه حتى بلغ أهله.
وأما أبومسلم الخولاني واسمه عبدالله بن ثوب فروى البيهقي عن سليمان بن المغيرة أن أبا مسلم الخولاني جاء إلى دجلة وهي ترمى بالخشب من مدها، فمشى على الماء، والتفت إلى أصحابه وقال: هل تفقدون من متاعكم شيئاً فندعو الله - عز وجل -؟. قال البيهقي: هذا إسناد صحيح، ذكر ذلك ابن كثير في «البداية والنهاية» .
وأما قولهم فيستغاث بهم في الشدائد فهذا أقبح مما قبله لمصادمته قوله جل ذكره: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل: 62] ، وقوله: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} إلى قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 63 - 64] ، فإنه جل ذكره الكاشف للضر والمنفرد بإجابة المضطر والمستغاث لذلك كله، فإذا تعيَّن هو جل ذكره خرج غيره من مَلَكٍ ونبيٍّ ووليٍّ.
والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة والعادية من الأمور الحسية في قتال عدو، أو إدراك عدو، أو سبع، أو نحوه، وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير أو في الأمور المعنوية كالمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحو ذلك فمن خصائص الله لا يطلب فيها غيره، فمن اعتقد أن لغير الله من نبيٍّ أو وليٍّ أو روح أو غير ذلك في كشف كربة أو قضاء حاجة تأثيراً فقد وقع في وادي جهل خطير فهو على شفا حفرة من السعير». انتهى ملخصاً.