قال: هذه أسماء رجالٍ صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تُعبَد، حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلمُ عُبدَتْ.
وقال ابن القيم: «قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوَّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمدُ فعبدوهم» [1] .
(1) قوله: «وقال ابن القيم» هو العلاّمة المحقق محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بابن قيم الجوزية، قال السخاوي: «العلامة الحجة المتقدم في سعة العلم ومعرفة الخلاف وقوة الجنان، المجمع عليه بين الموافق والمخالف، صاحب التصانيف السائرة والمحاسن الجمة، مات سنة إحدى وخمسين وسبعمائة» . «قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم» . فتبيَّن أن مبدأ الشرك بالصالحين هو الغلو فيهم وهو أول شرك حدث في الأرض.
قال شيخ الإسلام: «الغلو في الأمة في طائفتين: طائفة من ضلاَّل الشيعة الذي يعتقدون في الأنبياء والأئمة من أهل البيت الألوهية، وطائفة من جهال المتصوفة يعتقدون نحو ذلك في الأنبياء والصالحين» .
وقال العلاَّمة ابن القيم رحمه الله: فالغلو في الصالحين هو الذي أوحاه الشيطان إلى عُبَّاد القبور في هذه الأزمان، فإنه ألقى إليهم أن البناء على القبور والعكوف عندها من محبة الصالحين وتعظيمهم، وأن الدعاء عندها أرجى في الإجابة من الدعاء في المسجد الحرام والمساجد فاعتادوها لذلك، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم إلى الدعاء به والإقسام على الله به وهذا أعظم من الذي قبله، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلفه. فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيداً ومنسكاً، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل الرتب العالية وحطَّهم عن منزلتهم وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، وغضب المشركون وأشمأزت قلوبهم كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45] ، وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم
بالعظائم، ونفروا الناس عنهم ووالوا أهل الشرك وعظّموهم وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون. فكل ما عُبد من دون الله من قبر أو مشهد أو صنم أو طاغوت، فالأصل في عبادته هو الغلو كما لا يخفى على من له بصيرة في الدين، فانظر إلى ما يفعل في مصر عند أحمد البدوي وهو لا يعرف له أصل ولا فضل ولا علم ولا عبادة ومع هذا صار أعظم آلهتهم مع أنه لا يعرف إلا أنه دخل المسجد يوم الجمعة فبال فيه ثم خرج ولم يصلِّ. ذكره السخاوي عن أبي حيان. فزيَّن لهم الشيطان عبادته فاعتقدوا أنه يتصرف في الكون ويطفئ الحريق وينجي الغريق، وصرفوا له أنواع العبادة من الدعاء والذبح والنذور واعتقدوا أنه يعلم الغيب وأنه يسمع من دعاه من الديار البعيدة ويستجيب له، وكذلك أهل الشام قد فُتنوا بابن عربي إمام أهل الوحدة الذين هم أكفر من اليهود والنصارى، وجعلوا على قبره قبة وصاروا يطوفون به ويذبحون له النذور ويدعونه، وقد ألَّف السخاوي كتاباً في ترجمته سماه «القول المنبي عن ترجمة ابن عربي» ذكر فيها أشياء من أقواله الشنيعة.
وما قاله أهل العلم فيه وفتاواهم بكفره، وفيه يقول محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني:
إله فإن الله جل عن النِّدِ ... وأكفر أهل الأرض من قال إنه
من الكلب والخنزير والقرد والفهد ... مسماه كل الكائنات جميعها
سواء عذاب النار أو جنة الخلد ... وإن عذاب النار عذاب لأهلها
ولائمهم في اللوم ليس على رُشدِ ... وعباد عجل السامري على هدى
تنادى خذوا في النظم مكنون ما عندي ... وتنشدنا عنه نصوص فصوصه
بي الدهر حتى صار إبليس من جندي ... وكنت امرءاً من جند إبليس فارتمى
دقائق كفر ليس يدركها بعدي ... فلو مات قبلي كنت أدركت بعده
وكذا أهل العراق ومن حولهم كأهل عمان يعتقدون في عبدالقادر الجيلاني كاعتقاد
أهل مصر في البدوي، وجرى في نجد والحجاز واليمن وحضرموت وغيرها من عبادة الجن والطواغيت والأشجار والقبور ما عمّت به البلوى ولكن الله أزال ذلك من نجد بسبب الدعوة المباركة التي قام بها الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله ورضي عنه وعن أئمة الهدى من آل سعود الذين أيَّدوه ونصروه، وبعد دخول الحكومة السعودية الحجاز زال كثير من الأوثان والطواغيت التي كانت تُعبد من دون الله، فقد كان لقبر خديجة رضي الله عنها سدنة، وفي الليلة الحادية عشرة من كل شهر يذهب الناس إليها ينادونها: يا صاحبة الليلة يا بنت خويلد، علماؤهم وعامتهم، فلله الحمد والمنة على زوال ذلك، ونسأله أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويزيل الشرك وآثاره من سائر البلاد إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
ومن فهم هذا الباب وبابين بعده تَبَيَّن له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب.
وفيه: معرفة أول شرك حدث في الأرض أنه بشبهة الصالحين، وأول شيء غُيِّر به دين الأنبياء وما سبب ذلك مع معرفة أن الله أرسلهم، وقبول النفوس للبدع مع كون الشرائع والفطر تردها، وأن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل، فالأول: محبة الصالحين. والثاني: فعل أناس من أهل العلم والدين شيئاً أرادوا به خيراً فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره.
وفيه: معرفة تفسير الآية التي في سورة نوح ومعرفة جبلة الإنسان في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد، وفيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدعة سبب الكفر ومعرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة، ولو حسن قصد الفاعل وأنها أحب إلى الشيطان من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يُتاب منها، ومضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح ومعرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها ومعرفة عظم شأن هذه القصة وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها.